الناس مع الرؤى
المتابع للمشهد العام لدينا يجد اهتماما متصاعدا باستكشاف المستقبل، لاسيما مع انسداد أفق التقدم الشخصي أو العام أمام بعض الناس، ولهؤلاء في اجتراح المستقبل مسالك؛ فمنهم من يتطلع لذلك من خلال التفرّس في المعطيات الحالية وتوقع امتداداتها، ومنهم من يقع فريسة للكهان والعرّافين الأفّاكين فيما يُسمى بقراءة الكف أو معرفة الأبراج ونحو ذلك، ومنهم من ينغمس في واقعه مجتهدا في العمل على الحاضر حيث يعتقد أن المستقبل في الأصل ماهو إلا تطور للحاضر، ومنهم من يتجه إلى الرؤى المنامية، ولعلي أقف في هذا المقال مع هذا الصنف الأخير،فأقول: الناس مع الرؤى ينقسمون إلى ثلاثة أقسام:
1- قوم يُبالغون في الرؤى، ويحمّلونها مالا تحتمل، فتجدهم أسرى لمناماتهم.
2- قوم في الطرف المقابل لا يُعيرونها اهتماما، ولا يُعوّلون عليها شيئا.
3- قوم توسطوا بين هذين الفريقين، فلا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء .

والقارئ الكريم حين يطالع هذا التقسيم الذي يدل عليه واقع الناس لابد وأنه قد حدّد موقفه، والسؤال المهم حينئذ : ما الموقف الشرعي من الرؤى؟
الرؤيا جاء ذكرها في القرآن الكريم في مواطن عدة، كما قال تعالى 
( لقد صدق الله رسولَه الرؤيا بالحق ).الفتح 27، وجاءت في قصة يوسف عليه السلام (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتُهم لي ساجدين)  يوسف 4، وقد بوّب الإمام البخاري في شأنها بابا سماه : 6 - ( باب رؤيا يوسف ) وذلك في كتاب التعبير من جامعه الصحيح، وجاءت في قصة إبراهيم عليه السلام حين قال لابنه ( فلما بلغ معه السعي قال يابُني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى ..) الصافات 102، وأيضا بوب الإمام البخاري في شأنها بابا : 7- ( باب رؤيا إبراهيم )، وقال سبحانه ( الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ..) يونس 63- 64،وقد فسّر بعضهم البُشرى هنا بالرؤيا الصالحة، وقد رُوي فيه حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنهكما عند الترمذي وابن ماجه وغيرهما، قال عنه ابن حجر في الفتح (12/469): " رواته ثقات إلا أن أبا سلمة لم يسمعه من عبادة "، وذكر ابن حجر أيضا للحديث طرقا أخرى فلتراجع، قال ابن كثير في تفسيره : وقد روي عن جمع من الصحابة والتابعين تفسير البشرى بالرؤيا الصالحة، ويرى شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله لما حكى الخلاف في تأويل المراد بالبشرى قال: " وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذِكرُه أخبر أن لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، كما روي عن النبي  ( إن الملائكة التي تحضره عند خروج نفسه، تقول لنفسه: اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه)، ومنها: بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل، كما قال جل ثناؤه ( وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .. ) لآية. وكل هذه المعاني من بُشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشّره بها، ولم يُخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمّه جل ثناؤه أن  لهم البُشرى في الحياة الدنيا ، وأما في الآخرة فالجنة ) اه من تفسيره (11/159)، وبهذا العموم في تفسير البشرى أخذ العلامة السعدي في تفسيره .
ومما جاء في شأن الرؤيا في السنة المطهرة حديث أنس 
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع، فأُتينا برُطَبٍ من رُطب ابن طاب ..) أخرجه مسلم 2270، ومرة قال صلى الله عليه وسلم : ( رأيتُ في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرضٍ بها نخل ..) أخرجه البخاري 3622، ومسلم 2272، وقد أخبر أبوهريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الكذّابين مُسيلمة والعنسي اللذين ادّعيا النبوة فقال صلى الله عليه وسلم : ( بينما أنا نائم رأيتُ في يديّ سوارين من ذهب، فأهمّني شأنهما، فأُوحي إليّ في المنام أنْ انفخْهما، فنفختهما فطارا، فأوّلتهما كذّابين يخرجان بعدي ) أخرجه البخاري 3620، ومسلم 2274، وجاء من حديث أبي سلمة قال: إن كنتُ لأرى الرؤيا تُمرضني .قال: فلقيت أبا قتادة فقال : وأنا إنْ كنتُ لأرى الرؤيا فتُمرضني حتى سمعت رسول الله ​صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الرؤيا الصالحة من الله، فإذا رأى أحدكم مايحب فلا يحدّث بها إلا من يحب، فإذا رأى مايكره فليتفُل عن يساره ثلاثا، وليتعوذ بالله من شر الشيطان وشرها، ولا يُحدّث بها أحدا، فإنها لا تضره ).أخرجه البخاري 3292، ومسلم 2261.
كل هذه النصوص تدل على اعتبار الرؤيا ومكانتها في الحياة الخاصة والعامة، بل كان
صلى الله عليه وسلم إذا التفت من صلاة الصبح كثيرا ما يسأل أصحابه: من رأى منكم الليلة رؤيا ؟ كما جاء من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه عند البخاري 7047، قال ابن حجر في الفتح (12/559) : " فيه أن الاهتمام بأمر الرؤيا بالسؤال عنها وفضل تعبيرها، واستحباب ذلك بعد صلاة الصبح .." اه ، وقد ذكر  لأصحابه الكرامِ عددا من رؤاه المنامية، وهذا ما يؤكِّد أن للرؤيا شأنا في الإسلام لا يدركه المتأثرون بحضارة المادة التي تفسِّر مايراه الإنسان في منامه بحديث النفس ونحوه، وهذا ما قد يوجد حقيقة لكنه لا يُعد رؤيا صادقة، حيث إن مايراه النائم لا يخلو من أن يكون :
1- رؤيا صادقة من الله تعالى .
2- حديث نفس .
3- الحُلم من الشيطان .

وقد دل على هذا أحاديث منها ما عند الترمذي في جامعه وابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة 
رضي الله عنه أن النبي ​صلى الله عليه وسلم قال : ( الرؤيا ثلاث : فبشرى من الله ، وحديث النفس، وتخويف من الشيطان، فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقص إن شاء ، وإن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد، وليقم يصلي ). أخرجه الترمذي (2270)، وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه (4039)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3/329).
إن الاهتمام بالرؤيا ومعرفةَ مكانتها التي بوأها الله تعالى إياها يُعد اقتفاء لأثر النبي الكريم  ، ولكن ذلك لابد أن يكون بضوابطه وآدابه المعروفة، فالرؤى الصادقة إما مبشّرة أو مُحذّرة، والرؤيا المبشرة للمؤمن كما قال الإمام أحمد: تسرّه ولاتغرّه، وقد قال هذا بمناسبة ذكر إبراهيم الحميدي له شأن أمه التي رأت لأحمد كذا وكذا وذكر الجنة، فقال الإمام أحمد: يا أخي .. إن سهل بن سلامة كان الناس يخبرونه بمثل هذا وخرج سهل إلى سفك الدماء!! كما نقل ابن مفلح في الآداب الشرعية (2/523).
من هنا نعلم أن الحفاوة بالرؤى لابد أن يكون باعتدال وتمييز للمعبّرين المحسنين المُجيدين، لا أن يتهافت الناس على كل من هبّ ودب دون أدنى تمحيص، وهذا ما أحدث إشكالات كثيرة شوّهت صورة الرؤيا في أذهان بعض الناس، وجعلت آخرين يُحجمون عن تأويل رؤاهم لاختلاط الحابل بالنابل !

أبوزياد التميمي
12/9/1434هـــ
أرحب بإضافاتكم وملاحظاتكم
Moabt1982@gmail.com