أثر القرآن في يوم الفرقان

إذا ذُكر يومُ الفرقان لاحت ساحةُ القتال في غزوة بدر الكبرى، التي دارت أحداثها يوم السابع عشر من رمضان من السنة الثانية من الهجرة.
وأحداث هذه الغزوة مسطورة في كتاب الله ودواوين السنة وكتب السِيَر.
لقد طُرقت الغزوة وأحداثها من عدة أوجه قديماً وحديثاً، ولكن هذه المقالة أحاول أن ألقي فيها الضوء على وجه آخر من أوجه هذه الغزوة.
من المعلوم أن الصحابة - رضي الله عنهم - لم يكونوا مستعدين لتلك الغزوة، بل كان بعضُ أفرادها كارهاً للمواجهة العسكرية، ولكن لله من وراء ذلك حِكَم نصّت عليها آياتُ الأنفال في تصوير عجيب لذلك المشهد: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْن ِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 5 - 8].
ومع كونهم غير مستعدين لها، بل وكون بعضهم كارهاً لذلك؛ إلا أن اللافت للنظر ما ظهر فيها من بطولات وتضحيات وثبات، فما السر؟
السرّ في ذلك - باختصار – هي: التربية النبوية بالقرآن، التي سبقت هذه الغزوة بسنوات طويلة، قاربت الخمس عشرة سنة! ثلاث عشرة منها في مكة، فكيف تمّ هذا؟
[يجيب عن ذلك] عدد من الصحابة - رضي الله عنهم - بتوصيف عجيب!
ومن ذلك:
ما رواه القاسم بن عوف الشيباني عن ابن عمر - رضي الله عنهما - بقوله: «لقد عشنا برهة من دهرنا، وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورةُ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلَّمون أنتم القرآن»، ثم قال: «لقد رأيتُ رجالاً يُؤتى أحدهم القرآن، فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما أمْرُه ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه! ينثره نثر الدقل»([1]).
وقال جندب رضي الله عنه: "كنا غلمانا حزاورة([2]) مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيعلمنا الإيمان قبل القرآن، ثم يعلمنا القرآن؛ فازددنا به إيماناً، وإنكم اليوم تعلمون القرآن قبل الإيمان!"([3]).
وهاتان الكلمتان تلخصان المنهج النبوي في تربية ذلك الجيل العظيم، وهو التربية الإيمانية بمفهومها الشامل للاعتقاد والسلوك، وليس للاعتقاد فحسب! كما بيّنت الكلمتان سبباً رئيساً من أسباب الخلل الذي طرأ على الجيل الذي أدركه صغار الصحابة - رضي الله عنهم -، وهو التركيز على الكَمّ على حساب الكيف.
ومن المهم هنا - وغزوة بدر في أول العهد المدني - أن نتذكر أصول الموضوعات المطروقة في القرآن المكي، فإنها تنير الدرب للدعاة الذين يرومون تربية أجيالٍ تسيرُ على خطى الصحابة - رضي الله عنهم - وهي في الجملة تركز على أصول ثلاثة:
1- تعظيم حق الله بتوحيده، ونفي كل نقيصة عنه في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وإجلال الرسول صلى الله عليه وسلم، وبيان مكانته.
2- التعلق باليوم الآخر، وما أعدّه الله للمؤمن والكافر.
3- التربية على الأخلاق الحسنة، التي كانت تحمل رسالة مفادها: من لم يكن صاحب خلق حسن؛ فلن يستجيب الناس لدعوته.
وقد تم تحقيق التربية بهذه الأصول العظام بأساليب كثيرة، من أعظمها: قصص السابقين من الأنبياء وأتباعهم ومواقف خصومهم، بالإضافة إلى ما كان يراه الصحابة - رضي الله عنهم - في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من ترجمة عملية، يستلهمون منها الدروس والعبر، في قدوة يرونها تطبّق القرآن تطبيقاً أوجزته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - بكلمة عظيمة: "كان خُلُقه القرآن"([4]).
إن هذه الأصول التي تضمنتها السور المكية، والسيرة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي وأوائل العهد المدني؛ هي النبراس الذي ينبغي أن يضعه كل من يريد أن يربي جيلاً على المنهاج النبوي - في بيته أو في مدرسته وحلقته -، فليَسِر على هذا الهدي القرآني النبوي، الذي يرتكز على الأصل الذي لخّصه الصحابة: الإيمان قبل القرآن.
وإذا تأملتَ في مشاهد غزوة بدر، وما وقع فيها من تضحيات وبطولات وثبات؛ أدركتَ أثر التربية على هذا المنهاج، والمقالة لا تحتمل شرح ذلك وبيان ارتباطه بما نحن بصدد الحديث عنه، ولعل الله تعالى أن ييسر مقالة قادمة لبيان ذلك.


ـــــــــــــــ ــ
([1]) أخرجه ابن منده في الإيمان(1/ 369)، وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم، والحاكم في المستدرك (1/91).
([2]) حزاورة: جمع حزور. وَيُقَال أَيْضا: حزور إِذا قَارب أَن يبلغ. غريب الحديث لابن قتيبة (3/ 758).
([3]) أخرجه البيهقي في السنن الكبير (3/171).
([4]) رواه مسلم ح(746).