بسم الله الرحمن الرحيم
التجربة الإنجليزية في المعجم التاريخي
وتحديات العنصر البشري
للأستاذ الدكتور عبده الراجحي
[مجلة مجمع اللغة العربية، العدد 109، ألقيت هذه المحاضرة في الجلسة
الرابعة من جلسات مؤتمر المجمع في دورته الثانية والسبعين، يوم الثلاثاء: 21 من صفر سنة 1427 هـ، الموافق 21 من مارس«آذار» سنة 2006 م]
يعد المعجم التاريخي للإنجليزية ملحمة علمية وقومية تكاد تبلغ في بعض جوانبها مبلغ الأساطير. لم يكن في أوربا غير معجمين كبيرين: 1- معجم أكاديمية كروسكا. Vocabulario degli accademici della crusca.
الذي ظهر )1612م (.
2- معجم الأكاديمية الفرنسية، الذي أصدرته الأكاديمية الفرنسية L: Accademie francaise سنة )1694 (بعد خمس وخمسين سنة من العمل في تحريره، وثمانية عشر عاما في المراجعة.
وكان الإنجليز يشعرون بغصة هائلة ألا يكون لهم معجم جامع، ومن اللافت أن بعض الناشرين الإنجليز هم الذين بادروا إلى الاتصال بأحد اللغويين الكبار، صامويل جونسون الذي أخذ على عاتقه إصدار أول معجم إنجليزي حقيقي بعد ما يقرب من عشر سنوات، وذلك سنة )1755(.
بعد صدور معجم جونسون بمئة عام عقدت الجمعية الفيلولوجية الإنجليزية اجتماعا صيف )1857( باقتراح من فيرنفال F.J. Furnivall إلى العميد ترنش Trench يدعو إلى إكمال معجمي جونسون وريشاردسن بملحق يضم المفردات التي لم ترد فيهما، وتكونت لجنة من العميد وفيرنفال وهربرت كولوريدجHerber Coloridge .
وفي اجتماع 3 من ديسمبر من العام نفسه قدمت اللجنة تقريرها، ورأت الجمعية أن الملحق المقترح لا يحقق الهدف المنشود، وقررت إنجاز معجم جامع جديد أطلقت عليه: معجم الإنجليزية الجديد The New English Dicitionary وفي السابع من يناير )1858(أصدرت الجمعية عدة قرارات لتنفيذ المشروع، وكان من أهمها دعوة متطوعين للقراءة: وجمع النصوص، وقسم الأدب الإنجليزي إلى ثلاث مراحل: 1- النصوص المنشورة من )1150(إلى )1526(,)1150(أول طبعة للعهد الجديد. 2- النصوص المنشورة من )1526(إلى )1674(. 3- النصوص المنشورة من )1674(إلى )1858( (سنة وفاة ميلتون). عين هربرت تولريدج محررا رئيسيا للمعجم وهو دون الثلاثين، وحين توفي في الحادية والثلاثين حرم المشروع من طاقة علمية عظيمة، وتولى التحرير من بعده فيرنفال وهو في السادسة والثلاثين، ثم نصحت الجمعية أن يرأس التحرير هنري سويت Henery Sweet فلم يؤثر ذلك في فيرنفال، بل ضاعف جهده في توجيه عملية الجمع والتحرير الفرعي، وأسس جمعيتين: 1- جمعية النصوص الإنجليزية الأولى )1864(. 2- جمعية تشوسر )1868(. ولولا هاتان الجمعيتان لواجه جمع النصوص الوسيطة صعوبات كبيرة. وقد ظل فيرنفال يكرس كل طاقاته في سبيل إنجاز هذا المعجم، ورغم أنه لم يكن المشرف الرئيسي فإنه في الواقع يقف وراء كل صفحة فيه بما نسأ الله في عمره، وقد قرت عينه حين رآه مكتملا قبيل وفاته سنة )1910(كأنه مكافأة عظيمة على هذا العمر المديد الذي أنفقه في هذا العمل العظيم. ثم عرض على جيمس موراي James Murray ناظر مدرسة ميل هيل Mill Hill School أن يكون المحرر الرئيسي للمعجم فتردد أول الأمر لتوجسه ألا يبلغ العمل مستوى الدقة والإتقان الذي ينشده، وحين اطلع على ما أنجز من قبل اقتنع وتولى الأمر سنة )1877(بعد الاتفاق مع مطبعة أكسفورد على نشر المعجم، وقد أقام ملحقا حديديا ببيته ليكون مكانا آمنا للمواد المجموعة ومع تضخم العمل صار للمعجم محرران رئيسيان هما مواريMurray وهنري برادليHenery Bradley ثم انضم محرران رئيسيان آخران هما وليم إلكسندر Wiliam Alexander وتشارلز تالبوت أونيونزCharles Talbut Onions . توفي موراي )1915(بعد أن ارتبطب بالمعجم ارتباطا كاملا مدة ثمان وثلاثين سنة، ثم توفي برادلي )1923(، حيث لم يكن سهلا البحث عن مشرف رئيسي فاضطرت الجمعية إلى الاعتماد على المساعدين أصحاب الخبرة إلى أن انتهى العمل أوائل )1928(بعد سبعين سنة من تفكير الجمعية الفيلولوجية في إنجاز مشروع المعجم الجديد للإنجليزية. على أن العنصر البشري الأهم في المشروع يتمثل في القراء المتطوعين الذين انخرطوا -في دأب عجيب وإحساس بشرف الانتماء إلى اللغة الأم- في جمع النصوص القديمة وقراءتها واستخراج المفردات والشواهد. وكانت الجمعية قد نشرت إعلانا تطلب متطوعين من قارئي الأدب يساعدون في جمع المادة فاستجاب مئة وخمسة وستون قارئا سنة )1879(بلغوا في سنة واحدة سبعمئة وأربعة وخمسين قارئا، ثم بعد سنة أخرى ثمانمئة قارئ، وقد جرى تقسيمهم إلى مجموعات ترتبط بأحد المحررين الرئيسيين أوالمساعدين، وأقرت الجمعية نظاما موحدا لطريقة الجمع وتدوين الشواهد على بطاقات من حجم محدد، ولنا أن نتصور الجهد الذي بذل في التنسيق بين هذا العدد الكبير من المتطوعين وفي تلقي بطاقاتهم ومرجعاتهما وتصفيتها وإعدادها للتحرير، وقد بلغت الشواهد التي جمعوها خمسة ملايين شاهد. ولقد ظهرت في هذه الملحمة قصص عجيبة لعل أشهرها قصة الدكتور وليام تشستر ماينور وهو أمريكي كان يقيم في قرية كروثورن Croerthorne على مسافة خمسين ميلا من أكسفورد، وقد ظل يرسل إلى الدكتور موراي آلافا من الاستشهادات بخط يده على مدى عشرين عاما لم ينقطع فيه أسبوعا واحدا، ومع أنه واحد من آلاف المتطوعين في الطبعة الأولى فقد لفت اهتمام موراي لفتا شديدا، فدعاه غير مرة لزيارة أكسفورد تكريما له، وفي كل مرة كان الرجل يتعلل بعذر وفي سنة )1896(قرر موراي أن يذهب هو لزيارة هذا القارئ «الشبح» فإذا الرجل محكوم عليه بالسجن مدى الحياة في تهمة قتل وقد حول زنزانته إلى تلال صغيرة من البطاقات يدون فيها الشواهد التي يستخلصها من قراءاته المنتظمة التي تستغرق جل يومه. وحين أعدت الصفحات الأولى للطبع أرسلت إلى عدد من اللغويين والأدباء والخبراء الثقات لمراجعتها، وظل ذلك ديدن العمل كله منذ بدايته إلى الآن، إذ لا يجوز طبع ورقة واحدة إلا بعد عرضها على آخرين من غير لجنة التحرير. ولكي يبقى المعجم موكبا للتدفق اللغوي الحي، فإنه يخضع أربعة مرات للمراجعة كل عام، حيث يضاف إليه ألف مدخل كل مرة، وفي سنة )1933(نشر أونيزنز Onions وكريجي Ceigiar أول ملحق، وغير اسم المعجم إلى معجم أكسفورد للإنجليزية The Oxford English Dicitionary ثم أخذت مطبعته أكسفورد سنة )1984(تجري عملية تحديث كبيرة باستخدام الحاسوب في رقمنة المعجم، وطبع )1989(مع نسخة حاسوبية حيث يضم العمل الجديد اثنتين وعشرين ألف صفحة في عشرين مجلدا ولا يزال هذا المنهج متبعا حتى اليوم من حيث المراجعة السنوية والتحديث المستمر. وبعد، فلعلنا نلفت إلى الحقائق التالية: 1- أن الذين نهضوا بهذا العمل منذ نشأته كانوا من العلماء الشبان إذ توفي كولريج في الحادية والثلاثين، وكان فيرنفال في السادسة والثلاثين حين أسندت إليه رئاسة التحرير. 2- أن العمل لم يبق حبيس لجنة في الجمعية الفيلولوجية الإنجليزية؛ بل خرجت الخطة إلى الناس تستنهض طاقات الراغبين في الإسهام تطوعا، ولولا هؤلاء القراء المتطوعون الذين بلغو الآلاف لما أمكن إنجاز هذا العمل. 3- أن جمعيات لغوية وأدبية قد أسست بهدف جمع نصوص معينة ودراستها مثل جمعية النصوص الإنجليزية الأولى )1864(وجمعية تشوسر )1868(. 4- أن العمل استمر سبعين سنة كاملة منذ بداية التفكير فيه إلى صدور الطبعة الأولى، لم يتخلله الملل ولا شعور بالإحباط ولا محاولة للتثبيط، بل لعل الإيقاع كله يزداد حيوية كلما تقدم العمل خطوة إلى الأمام. 5- أن المعجم لا يقبل الجمود، بل هو في حالة مراجعة مستمرة في صحبة السيولة المستمرة للغة، وهو في الوقت ذاته يستثمر ما يقدمه للعصر كل يوم من تقنيات. وحين نتوجه تلقاء لغتنا نرى ما يلي: 1- لا توجد فى الجامعات العربية -على كثرتها- برامج علمية حقيقية عن «صناعة المعجم»Lexicography ، ومن ثم يصعب جدا توفير عدد صالح من المدربين على هذا العمل. 2- أفضت الأنظمة التعليمية في العالم العربى -على اختلاف مستوياتها- إلى ضعف شديد في الاتصال باللغة العربية وآدابها -لأسباب معروفة- الأمر الذي يجعل من فكرة الاعتماد على القراء المتطوعين أمرًا قريبًا من المحال. 3- صحيح أن الحاسوب الآن يوفر وقتا كبيرا في جمع المادة اللغوية ومعالجتها، لكن النظر في تحليل المعنى على التغير التاريخي سوف يظل منوطا بالإنسان. 4- حددت سنة )1150(بداية للنصوص الإنجليزية التي يمكن جمعها واستخلاص الشواهد منها، ومع ذلك استمر العمل سبعين سنة، فماذا نحن فاعلون والنصوص العربية تسبق الإنجليزية بما يقرب من ثمانمئة عام؟! هل نستطيع مثلا أن نكون جمعيات مستقلة لكل عصر من عصور العربية، وكيف نضع نظاما محكما للاتصال بالآخرين خارج لجنة المعجم؟ وكيف نبقي العمل على حالة مستمرة من التدفق الحي؟.. وكيف.. وكيف.. وكيف؟! وأخيرا قد يكون مفيدا أن نذكر الناس أن معجم صامويل جونسون ظهر سنة )1755(بحسبانه أول معجم كبير للإنجليزية، وهي الفترة نفسها التي ظهرفيها معجم «تاج العروس» للزبيدي.
عبده الراجحي
عضو المجمع