بسم الله الرحمن الرحيم
بابُ الريّان
الحمد لله، وبعد:
فأولى ما تنافس فيه المتنافسونَ طاعةُ الله تعالى، وأحب ما تقربَ به العباد إلى ربّهم ما افترضه عليهم، ومن أجل فرائضه شريعةُ الصيام، وهذه إن شاء الله تذكرة نافعة مختصرة، أذكر فيها غرر مسائله وأحكامه دونَ الدليل إلا ما ندر، وهي مجموعة مما وقع لي من مطالعات الكتب؛ ومما سمعته من مشايخنا وأساتذتنا أيام الطلب، وأسأل الله تعالى أن ينفع بهَا القارئَ والسامع، وأن يوفقنا إلى كل عمل صالحٍ يرضيه، وأن يمن علينا بصيام رضان وقيامه، وأن يجعله شهر فتح ونصر لأهل الإسلام في مشارق الأرض ومغاربِها.
فيما لشَهْرِ رمضان في الإسلام من المنزلة
1- منها: أنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، بل والكتبَ السماوية قبله، وقد خصه الله بالذكر في كتابه تشريفا.
2- ومنها: أنه شهر التوبة والعتق من النار، تصفد فيه الشياطين؛ فيزداد إقبال الناس على الخير.
3- وهو شهر الصبر والمواساة، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان.
4- وأن الله تعالى خصه بأفضل ليالٍ عشرٍ في العام، كما خصه بأفضل ليلة هي ليلة القدر.
5- وأنه عبادة اجتمع فيها أنواع من الطاعات: الصيام في نهاره، والقيام في ليله، وتلاوة القرآن، ومدارسة العلم، والدعاء، والإكثار من الصدقة، وإطعام الطعام، ومجاهدة النفس، والجهاد في سبيل الله، وصون الجوارح عما حرم الله، فالعين عن النظر الحرام، واللسان عن الفحش في القول؛ وعن الغيبة، وعن النميمة والإفساد بين الناس، واليدُ عن ظلم الناس والعدوانِ عليهم بغير حق، والرجل عن المشي بها إلى ما حرم الله، وبالجملة فإن من أفضل الأعمال في هذا الشهر الورعَ عما حرم الله.
6- ومنها: أنه ركن الإسلام والدين، وهو أحد المباني الخمسة في حديث ابن عمر، ومن العلماء من ذهب إلى القول بتكفير من تعمد ترك واحد من هذه المباني، وهي رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار أبي بكر الخلال وطائفة من أصحاب مالك كابن حبيب. حكى هذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان.
7- ولو اجتمعتْ طائفةٌ على ترك صيام رمضانَ بقوة وشوكةٍ قُوتِلَتْ على ذلك قتال المرتدين مانعي الزكاة عند المحققين من العلماء، وهكذا كل من امتنع عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة.
فصل في وجوب صيام رمضان.
1- لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ}...وفي حديث عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام عاشوراء حتى فرض رمضان؛ ثم قال في عاشوراء: من شاء فليصمه ومن شاء أفطر.
2- وقال عليه الصلاة والسلام: بني الإسلام على خمس:...، وذكر منها: صوم رمضان.
3- وقد قال الذهبي رحمه الله: وعند المؤمنين مقرر أن من تركَ صوم رمضان من غير عذر أنه شرّ من الزاني ومدمن الخمر، بل يشكونَ في إسلامه ويظنونَ به الزندَقَةَ والانحِلال.
في بيان فضل الصوم.
1- الصيام جُنّةٌ: أي وقايةٌ من الوقوع في المعاصي والشهوات، وذلك وقاية من النار وعذابها.
2- وخلوف فم الصائم – أي طعمُ الفم وريحُهُ المتغيرُ بالصوم – أطيب عند الله من ريح المسك!.
3- والصوم كفارة للذنب، وعصمة للعبد من الفتنة في أهله وماله وجاره. دليلُهُ حديثُ حذيفة عند البخاري.
4- وقد أعد الله تعالى للصائمين بابا في الجنة لا يدخل منه سواهم، يقال له: باب الريّان، من الريّ الذي هو نقيض العطشِ، كوفئَ ظمأُ الصائمِ في الدنيا بالري يوم القيامة، فالجزاء من جنس العمل.
5- وفيه تفتح أبوابُ الجنة، وتغلق أبواب النار، وتسلسل الشياطين، فمن صامه إيمانا واحتسابا غفرَ له ما تقدم من ذنبه.
6- ومن فضائله أن الله تعالى خصّ به نفسهُ، وتولى مجازاة الصائم بنفسِه، كما عند البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث القدسي: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به!، وإنما خص الصوم بهذا لأن كل عمل ابن آدم يدخله حظ النفس، إلا الصوم، فإنه لو شاء أفطر سرّا وأخفاه عن الناس وتظاهر بالصيام، فإذا أمسكَ مع غياب الرقيبِ كان مظنّةَ خلوص النية.
7- ومنها أن الله تعالى جميع للصائم بين فرحتين، فرحةٍ طَبْعِيّةٍ في الدنيا بفطرهِ لأن الإنسان مفطور على الحاجة إلى الطعام والشراب، وفرحةٍ في الآخرة إذا لقى ربه فجزاه عليه الجزاء الأوفى.
8- ومنها أن الصوم عونٌ على ما يحبه الله تعالى وأمرَ به من غَض البصر، وتحصين الفرجِ لمن لم يستطع النكاح، فيعتصم به حتى يغنيه الله من فضله، والأحاديث في فضائله كثيرة، والمراد هنا الاختصار.
في بيان جملة من حِكَمِ الصيام وفوائده:
1- منها قوله تعالى: {كَتِبَ عليكمُ الصيامُ كما كتبَ على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}، وجه ذلك: أن من امتنع عن الحلالِ طلبَ مرضاةِ الله تعالى كان أقدرَ على اتّقاءِ ما نهى الله تعالى.
2- ومنها: تربية النفس: بكبح جماحها عن الشهوات، فإنه لا أضرّ على النفس من إعطائها كل ما تريد!، حُكِيَ أن بعض الملوك أراد أن يقتل خصماً له دون أن يثير الريبةَ حولَ قتله، فاستشارَ بعض وزراءهِ، فأشار عليه أن يُسكِنَهُ قصراً وأن يلبيّ له كلّ ما يشْتَهيه!.
3- ومنها: تقوية الإرادةِ، ولا بد في ذلك من قَهر النفسِ وفطامِها عن مألوفاتِها، والطبائعُ كما تأسِرُ الأفرادَ تأسرُ الأمم!، ولا شيءَ أضر على الأمةِ من اعتيادِ المألوفاتِ التي تكسر الإرادَةَ وتُذهبُ العزيمةَ، والأمةُ التي تغفُل عن ذلك تُطْمِعُ عَدُوّها بِها، ومن أصولِ المحافَظةِ على مكانةِ الأمة دوامُ اليقظَةِ ودوام الاستعداد لما يواجهها من الخطر.
4- ومنها: تربيةُ الروح العسكريّةِ في الأمة والمجتمع، فالانضباطُ، والنظام، والمحافظة على المواعيدِ في الفطر والإمساك والسحور وغيرها، وأداءُ ذلك كله بروح الجماعة الواحدةِ والأمة الواحدةِ امتثالا لأمر الله تعالى، كل هذا يقضي على روح الفوضى في المجتمع، ويقوي روح التماسك والشعور بالصف الواحد، ولا تعجبْ فإن الجهادَ في سبيل الله روحُ الإسلام، والتربية العسكريةُ للأمة والمجتمعِ في كل شريعة وشعيرة من شرائعِهِ وشعائره، ومكانةُ الأمة بين الأمَمِ مكانةُ المعلم من التلاميذ، ومكانةُ الرائدِ من الجندِ، وذلك يوجِبُ ما ذكرناه.
5- ومنها: فوائد صحية وطبية ترجع إلى راحة الجهاز الهضمي وراحة الكبد، وتقوية المعدة، وفي الصيام علاج لكثيرٍ من الأمراض، كالسكري، والكليتين، وخفض (الكلسترول) في الدم، وأمراض الكبد، وتصلب الشرايين، وارتفاع ضغط الدم، والربو القصبي، وازدياد الوزن، والأمراض الجلدية، وآلام المفاصل، وغير ذلك، حتى قال بعض أطباء أوروبا: إن فائدة الجوع قد تفوق بمراتٍ استخدام الأدوية!، بل وثتت نفعه في علاجِ الاضطرابات النفسية والعاطفية.
6- ذكر العلامة الشيخ أبو عبد الرحمن محمد بن ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى في كتابه السلسلة الصحيحة أنه أصيبَ بمرضٍ أثناء إقامته في سوريا الشام، وحاول علاجه بالرجوع إلى الأطباء فلم يُجْدِ نَفعا، ثم إنه صام عن تناول الطعام أربعين يوماً متتاليةً!، لا يطعم فيها غير الماء، فشُفِيَ وعوفِيَ وعادتْ صحته خيرا مما كانت.
7- قال مقيده عفا الله عنه: قد جربتُ مراراً معالجةَ سوء الهضم واضطراب المعدةِ واستطلاق البطن بالصيام عن الطعام والشراب أربعا وعشرين ساعةً، أو الصيام عن الطعام ثلاثة أيام متتابعةٍ مع الاقتصار على تناول الماء وحده فوجدت له نفعا بالغاً، كما نصحت به غيري فانتفع به، والحمد لله رب العالمين.
فيما يشرع من الآداب للصائم.
1- لا يرفثُ، أي: لا يتكلم بالفاحش من القول، ويطلق الرفث على الجماع أيضا، وعلى مقدماته، وعلى ذكره مع النساء.
2- ولا يجهلْ، أي لا يفعل ما فيه جهالة، كالسفه والسخرية ورفع الصوت لغير موجب، ونحو هذا....، ويدخل في هذا اجتناب أسباب الخصومات والعداوات، وليس من ذلك الخصومات والعداوات التي سببها الذبُّ عن دين الإسلام.
3- إن سبه أحد أو شاتمهُ فلا يجيبهُ بمثله، بل يقول إني صائمٌ..إني صائم...، يُذكر بالأولى نفسَه وبالثانيةِ خَصْمَهُ، أما الابتداء بالسب نفسه فحرام في رمضانَ وفي غيره، وهو في رمضان أشد حرمةً لأجل حرمة الشهر، وإنما شرع له أن يقول إني صائمٌ تذكيرا للسابّ بحرمة الشهر، وإعلاماً منه له بأنه لم يترك الرد عجزاً بلْ ورَعاً وامتثالاً لأمر الله تعالى لأنه صائم.
4- ومن آدابهِ أن يدع قول الزورِ وهو: الكذب والميل عن الحق والعمل بالباطل والتهمةِ، وفي الحديث: من لم يدع قول الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامَه وشرابه.
5- ومن آدابه الحرص على مجالسةِ أهل الدين والخير، فإنها تزيدُ من رغبة المرء في الطاعة، والنعمة بالجليس الصالح لا تعدلها بعد الإسلام نعمةٌ، وإنما المحروم من حُرِمَهُ، ودليل ذلكَ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى جبريل كل ليلة في رمضان، فيعرض عليه القرآن، ولا يزال جماعةٌ من العلماءِ في الشامِ وغيرها يُحْيُونَ ليالي رمضانَ بقراءةِ كتبِ الحديثِ والسنةِ قراءةَ سَرْدٍ وسماعٍ من بعد صلاةِ التراويحِ إلى وقتِ السحورِ، ولهذه القراءةِ في ليالي رمضانَ وقعٌ على النفس عجيبٌ، أنسٌ في النفسِ وراحةٌ في البالِ، مع اجتماع بركَةِ الوقتِ وبركةِ سماع الحديث، تتنزل عليهم الرحمة، وتغشاهم السكينةُ، ويكثرون من الصلاةِ على النبي صلى الله عليه وسلم كلما مر ذكره، ويتعرّضونَ لنفحاتِ دعاءِ النبي صلى الله عليه وسلم: نَضّرَ الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ويستذكرونَ نعمةَ الله عليهم وما أنزل عليهم من الكتاب والحكمة يعظُهم به، أما علماءُ الديار الهنديّةِ فإن جُلّهم ينصرف في شهر رمضانَ إلى تفسير كتاب الله تعالى، يشرعونَ في مدارستهِ في أيام العشر الأواخر من شَعْبانِ، يبدأونَ بأصول التفسير إلى نهايةِ شعبان، فإذا دخل الشهرُ الكريمُ تدارسوا كل يومٍ جَزءا من القرآن على نَهْجٍ مُتّبَعٍ عندهم؛ حتى يأتيَ على تفسير جميعهِ إلى نِهايَةِ رمضانَ، وقد جرتِ العادَةُ عندهمْ أن تُعْقَدَ هذه المجالسُ من بُكرَةِ النهارِ إلى آخرهِ لا يقطعها سوى صلاتي الظهر والعصر، ويحضُرها آلافٌ من التلامذةِ من الخاصة والعامة!، فإذا فرغ الشيخ من ذلك استجازه من حضر من التلامذةِ فأجازهم بالسند المروي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد مَنّ الله تعالى علَيَّ بالمشاركةِ في مجالس الحديثِ والتفسير في بعضِ ما مضى من الشهورِ على ما بينتُ، وإنّي لأسأله تعالى سؤال فقيرٍ إليهِ؛ معْتَصِمٍ بحَبلِهِ؛ لائِذٍ بِجَنابِهِ أن يمنَّ عليّ بإحياءِ هذه السنةِ الحسَنَةِ على أرضِ غَزّةَ المباركةِ، وفي بيت المقْدِسِ الحبيبِ طهّرَهُ الله من رِجْسِ اليهودِ وإخوان اليهود، وقد أكرمَنِي الله تعالى قبل أكثر من خمسةٍ وعشرين عاما في مبادئِ الطلبِ برُؤىً صالحةٍ أرجو أن يكون ذلك من تأوليها، وهذا الذي ذكرتهُ عن علماء الديار الشامية والهنديّةِ خطةٌ جامعةٌ بين التعبد بالصلاةِ والتعبدِ بتعلم العلم في ليالي رمضان، نعم؛ من السلفِ من كانَ يتفرغُ في رمضانَ للعبادةِ وقراءةِ القرآنِ ويطوي ما سواهُ من كتب العلم، ولِكُلٍّ وِجْهَةٌ هو مُوَلّيها.
6- ومن آدابهِ أن يعرضِ عن مجالس اللهوِ ما أمكن، ولا يخرجَ للأسواقِ إلى لحاجةٍ؛ فإنها مظانّ اللهو والفحش من القول، فإن خرجَ إليهِ فلا يطيل المكثَ فيه إلا بقدْرِ حاجَتِهِ، ومِن مواطِنِ الغفلاتِ في شهر رمضانَ إطالةُ بعضهم المكثَ في السوقِ، يقطعُ بذلك نهَارَ الصومِ...زعم!، فيضيعُ اغتنام الوقت المبارك، ويرى المنكرات فلا ينكرها!، وينتهكُ بذلك حُرمةَ الشهر!.
7- ومنْها: أن يأمرَ بالمعروفِ وينهى عن المنكر، فإن إقبال الناس على الخير في هذا الشهر مغْنَمٌ عظيم، لكن عليه أن يتحَلّى بالرفْقِ والصبر ما استطاعَ إلى ذلك سبيلا.
8- ومن آدابِه استحبابُ الجُودِ وإطعامِ الطعامِ والإكثارِ من الصدقةِ في الشهر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجودَ بالخير في رمضان من الريح المرسَلَةِ، وما اعتادَه الناسُ من دَعوةِ الصائمين إلى الإفطارِ وإطعامِ الطعامِ فَسُنّةٌ حَسنةٌ، قال عليه الصلاة والسلام: من فطر صائما فله مثل أجره، لكن يحذرُ من فعلِ ذلك رياءً وسمْعَةً وطلبا للشهرة، ومن علامَةِ حُسْن النية فيه أن لا يخصّ بدَعوَتِهِ الأغنياء وعِلْيَةَ القوم، بل يدعو الفقراءَ والمحتاجينَ أيضاً فيشاركونه ويشاركونهمْ فطرهم، وليتذكرْ أن الله تعالى لا ينظر إلى الصور والثيابِ، بل إلى الأعمالِ والنيات، ورُبّ أشعثَ أغبَرَ ذي طِمْرَينِ لا يأبَهُ الناسُ له لو أقسم على الله لأبره، ورُبّ ذي ثَوبٍ حسنٍ والثوبُ يلعَنُه!، وقد كانَ عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يؤثر الفقراء في الإفطار على نفسه، وكان لا يأكل في إفطاره إلا مع اليتامى والمساكين!.
9- ومنها أن يتعهدَ جيرانَهُ وذوي رحمه وقُرباهُ بحسن البر والصلة، فما من مَعروفٍ يُسديه إلى الناسِ إلا كانوا أحقّ به وأولى.
يتبع بإذن الله