الباب الثالث : مناقشة تدليس سفيان الثوري - رضي الله عنه - .
بعد أن ذكرنا جملة من العلماء الذين وصفوا الإمام سفيان الثوري بالتدليس وأقدمهم قول الإمام النسائي - رحمه الله - فقد ذكر الدارقطني في موسوعة أقوال الإمام (1/291) : (( قال السلمي: قال الشيخ أبو الحسن (يعني الدَّارَقُطْنِي ّ) قرأت بخط أبي بكر الحداد، عن أبي عبد الرحمن النسائي، قال ذكر المدلسين ... والثوري )) وهو أقدم من وصف الإمام الثبت الثقة سفيان الثوري بالتدليس وعليه سار أقوال الأئمة من بعدهِ ، فمن أدلة برائته وخوفه من التدليس وحياءه من ذلك أن الإمام عبد الله بن المبارك أتاهُ فرآه يدلس حديثاً فإستحى منه وقال نرويه عنك ، وهذا إن دل على شيءٍ فيدل على ورع الإمام سفيان الثوري - رحمه الله - ورغم ذلك فإن الإمام ابن المبارك لم يصفه بالتدليس ولم يقل أن الإمام سفيان الثوري من المكثرين ، وقد جعله الحافظ ابن حجر في طبقاته في المرتبة الثانية من المدلسين الذين ذكرنا مرتبة حديثهم وهو محمول على الإتصال ، والحق الذي أراهُ أن ما وقع فيه الإمام من التدليس قليلٌ جداً بل نادراً ، نقل الإمام الترمذي في العلل الكبير عن الثقة الجبل أمير المؤمنين في الحديث البخاري (2/447) : (( ولا أعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ، ولا عن سلمة بن كهيل ، ولا عن منصور . وذكر مشايخ كثيرة لا أعرف لسفيان هؤلاء تدليسا ما أقل تدليسه )) وأما سفيان فمن أثبت الناس في حديث حبيب بن أبي ثابتٍ وقد قال ذلك غير واحد من أهل العلم ومن توهم أنه قد دلس عن حبيب بن أبي ثابتٍ فلم يبلغ درجة الصواب .
وقد ذكرنا قول البقاعي في شرح الألفية : (( وسألتُ شيخنا: هل تدليسُ التسويةِ جرحٌ؟، فقالَ: لا شكَّ أنَّهُ جرحٌ؛ فإنَّهُ خيانةٌ لمن ينقلُ إليهم وغرورٌ، قلتُ: فكيفَيوصفُ بهِ الثوريُّ والأعمشُ معَ جلالتِهما؟ فقالَ: أحسنُ ما يعتذرُ (3) بهِ في هَذا البابِ أنَّ مثلَهما لا يفعلُ ذلِكَ إلا في حقِّ مَن يكونُ ثقةً عندهُ، ضعيفاً عندَ غيرهِ )) فيأتي مناقشة الأقوال التي وردت في وصفه بتدليس التسوية ويليه بابٌ فيما روي عن الإمام سفيان الثوري - رحمه الله - من أنه إذا حدث عمن إتهم في التدليس عنه بأنه يحدث عنه بواسطةٍ وهذا منه دليلٌ على اعترافه بأن بينهما واسطةٌ وهذا لا يسمى تدليساً إن كان معاصراً له بل مرسلا خفياً وقد سبق وأن ذكرنا أن من ذكر في تحفة التحصيل وجامع التحصيل للإمام العلائي لايعد في جملة المدلسين .
قال العراقي في التحفة (1/130) : (( سُفْيَان بن سعيد الثَّوْريّ الإِمَام الْمَشْهُور يُدَلس وَلَكِن لَيْسَ بالكثير من ذَلِك مَا روى عَن الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن ان عمر صلى بِالنَّاسِ وَهُوَ جنب قَالَ احْمَد بن حَنْبَل لم يسمع من الْقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن إِنَّمَا يروي عَن أَشْعَث ابْن سوار عَنهُ وروى عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عتبَة عَن عمر رَضِي الله عَنهُ
قَالَ يتَزَوَّج العَبْد اثْنَتَيْنِ وطلاقه اثْنَتَانِ .
قالَ أَحْمد أَيْضا لم يسمعهُ الثَّوْريّ من مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن .
وروى سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي معشر عَن إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن بِلَال أَنه كَانَ أَذَانه وإقامته مرَّتَيْنِ قَالَ الدَّارَقُطْنِي ّ لم يسمعهُ الثَّوْريّ من أبي معشر .
وَقَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي سَأَلت سُفْيَان عَن حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَن أبي عُبَيْدَة فِي الْوتر لأهل الْقُرْآن قَالَ لم أسمعهُ قَالَ وَسُئِلَ عَن حَدِيث عَمْرو بن مرّة كَانَ يعز على عبد الله ان يتَكَلَّم بعد طُلُوع الْفجْر قَالَ حَدثنِي رجل عَن عَمْرو بن مرّة ، قَالَ أَبُو نعيم الْملَائي حَدِيث سُفْيَان عَن عَمْرو بن مرّة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن الْبَراء قنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصُّبْح لم يسمعهُ سُفْيَان من عَمْرو دلسه كَذَا وجدت هذَيْن وَالظَّاهِر ان المُرَاد بسفيان فيهمَا الثَّوْريّ قلت وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي الْعِلَل سَأَلت أبي حَدِيث رَوَاهُ الْحُسَيْن بن حَفْص عَن سُفْيَان عَن جَعْفَر عَن سعيد بن جُبَير قَالَ أفطر الحاجم والمحجوم فَقَالَا هَذَا هُوَ جَعْفَر بن أبي وحشية وَلم يدْرك الثَّوْريّ جَعْفَر بن أبي وحشية إِنَّمَا يروي الثَّوْريّ عَن شُعْبَة عَن أبي بشر جَعْفَر بن أبي وحشية انْتهى )) أهـ . قُلت : وسفيان على إمامته فإن وقع منه ذلك فقليلٌ جداً بل يكاد يكون نادراً عنه - رحمه الله - وإني لأرى على كونه في الطبقة الثانية أنه إلي الأولى أقرب .
فمن أضعف الحجج أن تأتي إلي الأسانيد التي فيها تدليس إسناد فتوهم الناظر إلي أنها تدليس تسوية وهذا وقع لأصحاب بدعةٍ أرادوا الطعن في الإمام سفيان - رحمه الله - فرد كيدهم إلي نحرهم وقبل الخوض في الأدلة التي قد يظهر فيها تدليس الإمام سفيان الثوري - رحمه الله - في الأحاديث فإنا نورد أقوال الأئمةِ فيمن وصفه بالتدليس وإني لأبرأه والله من الوصف بتدليس التسوية الموسوم به - رضي الله عنه - وإنه إن وقع منه فتدليس الإسناد وهو قليلٌ جداً بل نادرٌ فاحتمال الأئمة لتدليسه وإخراجه لروايته في الصحيح دليلٌ على أن تدليسه نادرٌ جداً .
روى الإمام سفيان الثوري قرابة 353 رواية في الصحيح وهو الإمام سفيان بن عيينة في المرتبة الثانية من المدلسين ولابن عيينة 416 رواية في الصحيحين فعلى إمامة سفيان بن عيينة إلا أنه لم يكن واسع الرواية كالإمام سفيان الثوري ، وإعلم أنهم لما رووا عن مدلسين ما رووا عن أي مدلس، وليس المدلس الذي يروي عن الضعفاء وغيرهم، وإنما رووا عن بعض المدلسين الثقات الذين لا يدلسون إلا عن ثقة، أو يكون أحدهم بحراً في الأحاديث.
دورة تدريبية في مصطلح الحديث (7/13) : (( قوم أخرج لهم البخاري ومسلم في صحيحيهما، كـ سفيان الثوري، ولكن تدليسهم كان يسيراً بجوار ما رووه من أحاديث كثيرة، وقوم لم يكونوا يدلسون إلا عن ثقات، كـ سفيان بن عيينة، فاحتمل الأئمة تدليسهم لجلالتهم وفضلهم وزيادة ووفرة علمهم ، وهذا هو الذي كانوا يسمونه الإرسال، ولم يكونوا يشترطون ذكر الشيخ، وهو مقبول مطلقاً؛ لأنه لا يدلس إلا عن ثقة؛ لأنهم كان يعتبرونه مجرد إرسال، ولم ينووا به التدليس، فهم لا يضرهم ذكر الشيخ؛ لأنه ثقة )) أهـ ، فحديث الإمام سفيان الثوري من قبيل هذا النوع وإن أغلب ما رأيناهُ أنهُ يرسل عن شيخ شيخه الذي لم يسمع منهُ ، ومنه قول الإمام سفيان الثوري كما في علل الإمام (2299) : (( قال عبد الله: حدثني أبي. قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: وسئل، يعني سفيان، عن حديث عمرو بن مرة كان يعز على عبد الله أن يتكلم بعد طلوع الفجر. فقال: حدثني رجل، عن عمرو بن مرة )) فإسقاطه شيخه عن عمرو بن مرة هذا كانوا يطلقون عليه ارسالاً لا تدليساً وإن حديث هؤلاء مقبولٌ وإن كان معنعناً .
ومِن البراهين الجلية على أن الإمام سفيان الثوري ما حدث بحديثٍ إلا وكان كما حدث بهِ فأمن بذلك تدليسه ما روي عن المُتحر البارع والإمام الثبت الثقة مَن إذا روى عن أمثال قتادة والأعمش وأبي إسحاق علم أن روايته عنهم صحيحةٌ قال فيما رواه ابن أبي حاتم في العلل : (( حدثنا عبد الرحمن نا محمد بن يحيى انا محمود بن غيلان نا أبو داود الطيالسي عن شعبة قال ما حدثني أحد عن شيخ إلا وإذا سألته يعني ذلك الشيخ يأتي بخلاف ما حدث عنه ما خلا سفيان الثوري فإنه لم يحدثني عن شيخ إلا وإذا سألته وجدته على ما قال سفيان )) .
[ أولاً ]ما روي عن ابن المبارك في التدليس .
قال الدكتور صبحي الصالح علوم الحديث (1/390) : (( قال عبد الله بن المبارك: «كَتَبْتُ عَنْ مِائَةِ شَيْخٍ وَألْفِ شَيْخٍ، فَمَا كَتَبْتُ عَنْ أَفْضَلِ مِنْ سُفْيَانَ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، رَأَيْتَ سَعيدَ بْنَ جُبَيرٍ وَغَيْرَهُ وَتَقُولُ ذَلِك؟ قَالَ: هُوَ مَا أَقُولُ، مَا رَأَيْتُ أَفْضَلَ مِنْهُ». ولكنهم يَرْوُونَ عن ابن المبارك نفسه أن سفيان الثوري كان أَحْيَانًا يُدَلِّسُ. قال ابن المبارك: «حَدَّثْتُ سُفْيَانَ بِحَدِيثٍ فَجِئْتُهُ وَهُوَ يُدَلِّسُهُ، فَلَمَا رَآنِي اسْتَحْيَى وَقََالَ: " نَرْوِيهِ عَنْكَ"». فان صح هذا فَلاَ بُدَّ - للتوفيق بين عبارتي ابن المبارك - أن نحسب تدليس سفيان من النوع الذي لاَ يُجَرِّحُهُ، كأن يكون تدليسه عن الثقات فقط، ولذلك قال لابن المبارك: «نَرْوِيهِ عَنْكَ».، يريد بذلك أن إسناد الحديث إليه يُوَثِّقُهُ )) .
قُلت : وهذا عن ابن المبارك ما يثبت أن تدليس الإمام سفيان أقرب إلي الندرة من القلة ، وأنه إما أنه كان لا يدلس إلا عن ثقةٍ وهذا ما اعتذر له الإمام الحافظ ابن حجر - رحمه الله - أو أنه لا يدلس إلا قليلاً جداً ، وما روي عن الإمام ابن المبارك على قول ابن المبارك فيه من أنه إمامٌ ثبتٌ وعلمٌ من أعلام المسلمين فإعتذار الإمام سفيان الثوري لهُ في الحديث مبينٌ على أنه ما كان منه إلا قليلاً جداً ، وهذا أعدل الأقوال وأحسنها ، وإنا لنعلم أن الإمام سفيان الثوري أفل الأئمة تدليساً على سعة ما روى وكثرته في كُتب الأئمة - رضي الله عنهم - . والله أعلم .
قال الدكتور الجديع في التحرير (2/983) : (( وكذلك ربما فعل سفيان الثوري، وإن كان ربما وقع منه التدليس في الشيء النادر )) ، وقال (1/298) : (( من استقرت عدالته، وثبتت في الحديث إمامته، فهذا لا يشتغل في تتبع أمره؛ لم في ذلك من تحصيل ما هو حاصل، وإتعاب النفس بما ليس وراءه طائل ، وهذا مثل الأئمة: مالك بن أنس، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ولليث بن سعد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين )) ، صدق فإن ما روي في فضلهم طويلٌ وما قيل في حقهم أمرٌ عظيمٌ فلا يشتغل المرء بمثل هذا لأن إشتغاله في هذا من مظان الكلام فيه عندنا .
ومِن الأقوال التي يجب التنبه لها إلي أن إشتهار المرء بالشيء لا يعني الإكثار منه وهذا ما رأينا الدكتور الفاضل خالد الدريس في موقف الإمامين البخاري ومسلم يقول (1/339) : (( والذي يظهر لي أن مقصود ذلك عند مسلم أن يصف أكثر من إمام من أئمة النقاد ذلك الراوي بالتدليس فيشتهر أمره ويعرف بأنه مدلس، ولا يلزم أن يكون مكثرًا من التدليس حتى يشتهر به ، فهذا سفيان الثوري مشهور بالتدليس، وقد صرح الإمام البخاري بأنه قليل التدليس )) .
أما وقد وقع الإمام سفيان الثوري بتدليس الأسماء والكنى فهذا ليس مما يوجب القدح بالحديث فالأئمة منهم من قال بشهرته بالتدليس ومنهم من قال بأنه ربما دلس ، وقال ذلك في حقه بصيغة الشك لا بصيغة الجزم ومعرفته بالتدليس لا توجب الإكثار منهُ ولم يعرف عنه الإكثار فلا تكاد ترى في أحاديث سفيان الثوري تدليساً إلا نادراً جداً بل لا يكاد يكون حديثاً أو حديثين أو ثلاثة في سعة ما يرويه رحمه الله ، ولم يثبت عندنا أنهُ مدلسٌ تدليس تسوية وقد دلس الشيء النادر جداً من تدليس الإسناد ولا يذكر هذا مقارنةً بما رواه - رحمه الله - ، وخلاصة الأمر أنه في المرتبة الثانية وأقرب إلي الأولى كونه لا يدلس إلا نادراً على إمامته وأنه لا يدلس إلا عن ثقة كما قال الحافظ ابن حجر وغيرهُ نقلا عنه ، وهذا ما ظهر لي في هذا الشأن . والله أعلم . يتبع .