فوائد حديثية من كتاب (الفروسية )للإمام ابن قيم الجوزية ...
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ؛ أما بعد :-
إن من أشرف العلوم علم الحديث ( رواية ودراية ) فبه يعلم المقبول من المردود من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو ركن من أركان الدين والشريعة مع الكتاب المبين .
قال ابن حبان عن علم الحديث ( وأحسن ما يدخر المرء من الخير في العقبى وأفضل ما يكتب به الذخر في الدنيا ) (( مقدمة الضعفاء 1/4)
ويفتقر إليه كل عالم كما قال ابن الصلاح ، فيحتاجه المفسر والفقيه والمؤرخ وغيرهم لتمييز المرويات الحديثية في تخصصهم وغير ذلك من أهمية هذا العلم الشريف .
ومن الأمور المهمة تطلب كلام أهل العلم المعتبرين في فهم وتأصيل هذا العلم ليكون الطالب على بصيرة ودراية فيه ، ومن هؤلاء الأعلام ابن قيم الجوزية الذي ضرب في كل فن بسهم ومن ذلك هذا العلم الشريف وذلك في كثير من كتبه ومن تلك الكتب التي حوت درراً وفوائد فرائد في هذا العلم الشريف كتاب ( الفروسية ) ولقد أشاد ونوه بهذه الفوائد الحديثية العلامة الشيخ بكر أبو زيد ( رحمه الله ) فقال (( وفي كتاب الفروسية ذكر من الدراسة النقدية لبعض كتب الحديث والفوائد الحديثية ما يعض عليه بالنواجذ ، وذلك استطراداً على أحاديث المحلل في المسابقة ونقدها والله أعلم )) ( ابن قيم الجوزية حياته وآثاره ص65)
والآن إلى هذه الفوائد الحديثية في الكتاب :-
( الفائدة الأولى ):-
قال ابن القيم (( ولا تنافي بين قول من ضعفه وقول من وثقه لان من وثقه جمع بين توثيقه في غير الزهري وتضعيفه فيه ، وهذه مسالة غير مسالة تعارض الجرح والتعديل بل يظن قاصر العلم انها هي ! فيعارض قول من جرحه بقول من عدله وانما هذه مسالة اخرى غيرها وهي الاحتجاج بالرجل فيما رواه عن بعض الشيوخ وترك الاحتجاج به بعينه فيما رواه عن اخر ، وهذا كاسماعيل بن عياش فانه عند ائمة الشان حجة في الشاميين اهل بلده وغير حجه فيما رواه عن الحجازيين والعراقيين وغيراهل بلده ، ومثل هذا تضعيف من ضعف قبيصة في سفيان الثوري واحتج به في غيره كما فعل ابو عبدالرحمن النسائي ، وهذه طريقة الحذاق من اصحاب الحديث اطباء علله يحتجون بحديث الشخص عمن هو معروف بالرواية عنه ويحفظ حديثه واتقانه وملازمته له لاعتنائه بحديثه ومتابعة غيره له ويتركون حديثه نفسه عمن ليس بهذه المنزلة ...)) وانظر رحمك الله مثالا على عدم التنبه على هذه القاعدة من بعض من يشتغل بالحديث كتاب (( النصيحة)) للعلامة الالباني رحمه الله (ص 97-98)
وقال ابن القيم (( وربما يظن الغالط الذي ليس له ذوق القوم ونقدهم ان هذا تناقض منهم فانهم يحتجون بالرجل ويوثقونه في موضع ثم يضعفونه بعينه ولايحتجون به في موضع اخر ويقولون ان كان نفسه وجب قبول روايته جملة ،وان لم يكن نفسه وجب ترك الاحتجاج به جملة وهذه طريقة قاصري العلم وهي طريقة فاسدة مجمع بين اهل الحديث على فسادها فانهم يحتجون بحديث الرجل بما تابعه غيره عليه وقامت شهوده من طرق ومتون اخرى ويتركون حديثه بعينه اذا روى مايخالف الناس او انفرد عنهم بما لا يتابعونه عليه ....) ثم يقرر ابن القيم قاعدة متينة قوية في حكم غلط الراوي واصابته فيقول ( ان الغلط في موضع لايوجبه في كل موضع والاصابة في بعض الحديث او غالبه لا توجب العصمة من الخطأ في بعضه ولا سيما اذا علم من مثل هذا اغلاط عديدة ثم روى مايخالف الناس ولا يتابعونه عليه يغلب على الظن او يجزم بغلطه ) ( كل ما سبق في ص 238-240 )
(( الفائدة الثانية ):-
في بيان بعض منهجية البخاري في صحيحه ، قال ابن القيم (( ان يرى مثل هذا الرجل قد وثق وشهد له بالصدق والعدالة او خرج حديثه في الصحيح فيجعل كل ما رواه على شرط الصحيح وهذا غلط ظاهر فانه انما يكون على شرط الصحيح اذا انتفت عنه العلل والشذوذ والنكارة وتوبع عليه فاما مع وجود ذلك او بعضه فانه لا يكون صحيحا الا على شرط الصحيح ومن تامل كلام البخاري ونظرائه في تعليله احاديث جماعة اخرج حديثهم في صحيحه علم امامته وموقعه من هذا الشان ويتبين به حقيقة ماذكرنا)) ص142)
(( الفائدة الثالثة )):-
نقد طريقة بعض المتأخرين من أهل الظاهر ( ظاهرية النقد الحديثي ) في تعليل الحديث ، قال ابن القيم (( من الغلط ان يرى الرجل قد تكلم في بعض حديثه وضعف في شيخ او حديث فيجعل ذلك سببا لتعليل حديثه وتضعيفه اين وجد كما يفعله بعض المتاخرين من اهل الظاهر وغيرهم وهذا ايضا غلط فان تضعيفه في رجل او في حديث ظهر فيه غلط لا يوجد فيه تضعيف حديثه مطلقا وائمة الحديث عالى التفصيل والنقد واعتبار حديث الرجل بغيره ، والفرق بين ماانفرد به او وافق به الثقات وهذه كلمات نافعة في هذا الموضع ،تبين كيف يكون نقد الحديث ومعرفة صحيحة من سقيمه ومعلومه من سليمه ومالم يجعل الله له نورا فماله من نور )
(( الفائدة الرابعة )):-
مقدمة الامام مسلم ليست على شرطه في الصحيح ، قال ابن القيم (( واما قولكم : ان مسلما روى لسفيان بن حسين في صحيحه فليس كما ذكرتم وانما روى له في مقدمة كتابه ومسلم لم يشترط فيها ما شرطه في الكتاب من الصحة فلها شان ولسائر كتابه شان اخر ولا يشك اهل الحديث في ذلك )) ص242 )
((الفائدة الخامسة ))
التفرقة بين من اخرج له البخاري في الصحيح وبين من اخرج لهم في الشواهد والمتابعات ، قال ابن القيم (( واما استشهاد البخاري به في الصحيح فلا يدل انه صحة عنده لان الشواهد والمتابعات يحتمل فيها مالا يحتمل في الاصول وقد استشهد البخاري في صحيحه باحاديث جماعة او ترك الاحتجاج بهم ))ص242 )
ولقد كتبت قبل أيام في رواية البخاري عن بعض من رمي بالرفض وقد تبين أنه لم يروِ عنهم في الاصول وإنما في المتابعات والشواهد ...
(( الفائدة السادسة )):-
الترمذي والتصحيح ، قال ابن القيم (( هذا مع ان الترمذي يصحح احاديث لم يتابعه غيره على تصحيحها بل يصحح ما يضعفه غيره او ينكره ) وذكر ابن القيم امثلة على ذلك راجعها في الاصل ص 243- 244)
(( الفائدة السابعة ):-
تساهل الحاكم في التصحيح
قال ابن القيم (( قالوا واما تصحيح الحاكم فكما قال القائل :
فاجتمعت من ليلي الغداة كقابض على الماء خانته فروج الاصابع ،
ولا يعبأ الحفاظ اطباء علل الحديث بتصحيح الحاكم شيئا ولا يرفعون به راسا البته بل لا يعدل تصحيحه ولا يدل على حسن الحديث بل يصحح اشياء موضوعة بلا شك عند اهل العلم بالحديث وان كان من لاعلم له بالحديث لا يعرف فليس بمعيار على سنة رسول الله ولا يعبأ اهل الحديث به شيئا والحاكم نفسه يصحح احاديث جماعة وقد اخبر في كتابه المدخل له ان لا يحتج بهم واطلق الكذب على بعضهم ........)) ص245 )
(( الفائدة الثامنة )):-
صحة الإسناد ليست شرطاً في صحة المتن قال ابن القيم (( وقد عُلِم أن صحة الإسناد شرط من شروط صحة الحديث وليست موجبة لصحة الحديث، فإن الحديث الصحيح إنما يصح بمجموع أمور منها: صحة سنده، وانتفاء علته، وعدم شذوذه ونكارته، وألاَّ يكون راويه قد خالف الثقات أو شذ عنهم )) ص245)
وأنظر نحواً من هذا الكلام في صفحة ( 280- 281) من الكتاب .
(( الفائدة التاسعة )):-
ظاهرية إبن حزم أثرت عليه في الحديث أيضاً وذلك بعدم التفاته إلى العلل والقرائن !
قال ابن القيم (( قالوا: وأما تصحيح أبي محمد بن حزم له، فما أجدره بظاهريته وعدم التفاته إلى العلل والقرائن التي تمنع ثبوت الحديث، بتصحيح مثل هذا الحديث وما هو دونه في الشذوذ والنكارة. فتصحيحه للأحاديث المعلولة وإنكاره لنقلتها، نظير إنكاره للمعاني والمناسبات والأقيسة التي يستوي فيها الأصل والفرع من كل وجه. والرجل يصحّح ما أجمع أهل الحديث على ضعفه. وهذا بَيّنٌ في كتبه لمن تأمله )) ص246)
قارن في ( الصحيحة ) للعلامة الالباني ( 1/ 187) والأرواء له ( 6/ 75)
(( الفائدة العاشرة )):-
هل سكوت الامام أحمد عن الحديث في كتابه ( المسند ) أن ذلك دليل على صحته عنده ؟؟
قال ابن القيم (( وإذا اختلف أحمد وغيره من أئمة الحديث في حديث فالدليل يحكم بينهم وليس قوله حجة عليهم كما إذا خالفه غيره في مسألة من الفقه لم يكن قوله حجة على من خالفه بل الحجة الفاصلة هي الدليل ولو أنا احتججنا عليكم بمثل هذا لقلتم ولسمع قولكم تصحيح أحمد معارض لتضعيف هؤلاء الأئمة فلا يكون حجة كيف والشأن في المقدمة الرابعة وهي أن كل ما سكت عنه أحمد في " المسند " فهو صحيح عنده فإن هذه المقدمة لا مستند لها البتة بل أهل الحديث كلهم على خلافها والإمام أحمد لم يشترط في " مسنده " الصحيح ولا التزمه
وفي مسنده عدة أحاديث سئل هو عنها فضعفها بعينها وأنكرها ...)) ص 247) ثم ذكر ابن القيم سبعة عشر حديثاً مما أخرجه إلامام أحمد في المسند ومع ذلك قد روي عنه تضعيفها وإنكارها فمن أرادها فليراجعها في موضعه من الفروسية ص 247 وما بعدها ..
وبعد أن ذكر ابن القيم الأمثلة قال (( وهذا باب واسع جداً لو تتبعناه لجاء كتاباً كبيراً والمقصود أنه ليس كل ما رواه وسكت عنه يكون صحيحا عنده وحتى لو كان صحيحا عنده وخالفه غيره في تصحيحه لم يكن قوله حجة على نظيره وبهذا يعرف وهم الحافظ أبي موسى المديني في قوله ( إن ما خرجه الإمام أحمد في مسنده فهو صحيح عنده ) )) ص164)
(( الفائدة الحادية عشر )):-
توجيه ما جاء أن من أصول الامام أحمد التي بنى عليها مذهبه أخذه بالحديث الضعيف وتقديمه على القياس !!
قال ابن القيم (( وليس الضعيف في اصطلاحه هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين بل هو والمتقدمين يقسمون الحديث إلى صحيح وضعيف
والحسن عندهم بحسب مراتبه....فأحمد يقدم الضعيف الذي حسن عنده على القياس ولا يلتفت إلى الضعيف الواهي الذي لا يقوم به حجة، بل ينكر على من احتج به وذهب إليه)).الفروسية(26 5).
(( الفائدة الثانية عشر )):-
حكم زيادة الثقة ؟
قال ابن القيم (( فإذا كان الأئمة الثقات الأثبات قد رفعوا الحديث أو اسندوه،وخالفهم من ليس مثلهم او شذ عنهم واحد فوقفه أو أرسله،فهذا ليس بعلة في الحديث ولا يقدح فيه والحكم لمن رفعه واسنده وإذا كان الأمر بالعكس كحال سفيان بن حسين هذا وأمثاله لم يلتفت إليه ولا إلى من خالفهم في وقفه و إرساله،ولم يعبأ به شيء ولا يصير الحديث به مرفوعا ولا مسندا أليه، وأئمة أهل الحديث كلهم على هذا)).الفروسية(282) .
ثم ذكر(رحمه الله)أمثلة من شأن أهل المذاهب مع أئمتهم لولا طوله لنقلته برمته فانه مفيد فانظره غير مأمور من صفحة(283)إلى(285).
والله الموفق لا رب سواه ...