بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:
قال عزَّ مِن قائل: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 6 - 9].
إنَّ مَن شَغَلَ نفسه في ابتداء الطلب بالمُحكَم، وتمييز المُجْمَع، وكان حِلْسًا للقواعد والمقاصد، والأصول والمعاقد، أورِثَ ملكةً راسخةً، تنقشع أمامها كل شبهة، وتطيش دونها كل نازلة، وأمَّا مَن شغل نفسه في ابتداء الطَّلب بضِدِّ ذلك، مِن حبْس النَّفس على المشتبه، وإثارة الملتبس، ونَجْشِ المُشْكِل؛ فاكتب على قفاه: "لا يُفلح".
يقول ابنُ قيِّم الجوزيَّة رحمه الله تعالى فيمَن يستخفّه أوّل عارض من شُبهة:
(هذا دليلُ ضعف عقله ومعرفته؛ إذْ تؤثّر فيه البُداءات، ويُستفزّ بأوائل الأمور، بخلاف الثّابت التّامّ العاقل؛ فإنّه لا تَستفزّه البُداءات، ولا تزعجه وتقلقله؛ فإنّ الباطل له دهشةٌ، وروعة في أوّله، فإذا ثبت له القلبُ، رُدَّ على عقبيه، والله يحب مَن عنده العلم والأناة، فلا يَعْجَل، بل يثبت حتى يعلم، ويستيقنَ ما ورد عليه، ولا يعجل بأمرٍ مِن قِبَلِ استحكامه؛ فالعجلة والطيش من الشيطان، فمَن ثبت عند صدمة البُداءات؛ استقبل أمره بعلم وحَزم، ومَن لم يثبت لها؛ استقبله بعجلةٍ وطيش، وعاقبتُه النّدامة، وعاقبةُ الأوّل حَمْدُ أمره. ولكن للأوّل آفة متى قُرِنت بالحزم والعزم نجا منها، وهي: الفَوْتُ؛ فإنّه لا يُخاف من التثُّبت إلّا الفَوْت، فإذا اقترن به العزم والحزم؛ تَمَّ أمره؛ ولهذا في الدُّعاء الذي وراه الإمام أحمد والنسائي عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللهُمَّ إنِّي أسالك الثَّباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرُّشْد". وهاتان الكلمتان هما جِمَاع الفلاح، وما أُتِيَ العبد إلّا من تضييعهما، أو تضييع أحدهما).
وبعد:
فلا يخفى على ذِي رِجْلَيْن، فضلًا عن ذي عينين، ما نَشهده ونرقبه، ونعاينه ونلحظه، مِن إحياءٍ للشُّبهات، وإثارةٍ للمشكلات، بطريقة غير مرضيَّة، وسُنَّة غير زكيَّة؛ فتضيع الأوقات، وتُهْدَر الطَّاقات، في غير شيء، ويا حسرة على الأوقات تمضي سبهللا ..
ما أُرانا نقول إلَّا مُعارا * أو مُعادًا مِن قولنا مكرورا
وإذا كان "السُّؤال نصف العلم"؛ فإنَّه لا يَنتفع بجملته، إلّا مَن أراده ابتغاء وجه ربّه، وأمّا مَن رام غير ذلك فيسُخرج الله ضِغْنَه.
وتبرز هذه القضيَّة - أيُّها القارىء الكريم -، وتطلّ برأسها، وتمثل أمام ناظريك؛ عندما يحلّ اليقين في قلبك: أنَّك في هذا العالَم لست وحدك؛ تَنفُذ إلى ما لا يَنفُذ إليه غيرك، وتطلع على ما لا يطّلع عليه سواك؛ بل إنَّ ممَّا ينبغي أنْ يُعلَم، وأنْ يعيه كل واحد منَّا: أنَّ هناك مَن يتربَّص ويَرْصُد، وهناك مَن يَحتَفِل بكلِّ مُشْكِل، ويرتع في كل مُشْتَبه، وهناك مَن أُشْرِبوا في قلوبهم الشُّبهة بجهلهم وخفّة عقلهم، ورقّة علمهم وضعف إيمانهم؛ كلُّ أولئك يتلقَّف واحدهم الشُّبهة تلو الشُّبهة، والزَّيغ تلو الزَّيغ، حتى إذا ما خَلَوا بقراطيسهم، نظموا منها عِقْدَ سَوء يُرسلونه في رقاب أولئك الضَّعَفة حتى يردُّوهم عن دِينهم إنْ استطاعوا. وقد رأينا كيف ينتفع النَّصارى بإفك الرَّافضة، وهكذا: كل فِرقة منحرفة تأكل مِن شَوْب أختها.
ونحن أمامنا خياران:
إمَّا بيان المُشكِل لا سيَّما الذي يعمل عمله في اضطراب السُّنَن، وزعزعة الشَّرائع ...؛ لِيَهلِك مَن هلك عن بيِّنة ويحيا مَن حيَّ عن بيِّنة ..
وإمَّا اجتثاث الشُّبهة مِن مجالسنا؛ بقطع دابرها، واجتثاث ناشرها؛ بالتحرير ثم الحذف ثم الوقف ..
ثمّ ممَّا ينبغي أنْ يُعلَم خِتامًا: أنَّ مَن غلب عليه تتبُّع الشُّبَه، وإثارة الفِتَن؛ زلَّ به لَحْن قوله، ودلَّ عليه ضعف عقله، وسوء قصده، وخبث طويّته؛ وهنا نقول لا محالة: خُذوا حِذْركم فانفروا ثُبَات أو انفروا جميعًا. والله المستعان وعليه التكلان. والحمد لله أوّلًا وآخرًا.