توطئة:

لم يتمكن فكر غربي من الواقع الفكري العربي كتمكن الفكر الليبرالي منه، ويعود هذا الأمر إلى قدم الاتصال العربي بالفلسفة الليبرالية، فبعد غزو نابليون لمصر (1798م)، والانفتاح على حضارة أوروبا، أخذ جيل الرواد من النهضويون العرب في التساؤل عن سر سطوع هذه الحضارة، واستعلائها على حضارات الدنيا، وخروجها من ظلامية عصور الاستبداد والتخلف التي عاش فيها الإنسان الأوروبي إلى رحابة المدنية الغربية الحديثة.

ولأن الليبرالية كانت الفلسفة الأوسع انتشارا وقبولا لدى العقل الأوروبي آنذاك، حرص دعاة المدنية العربية على استجلابها والسير على خطاها، وقد أجاد عبد الله العروي في وضع توصيف للحالة الليبرالية في أوروبا في هذا الوقت بقوله: "يجب ألا ننسى أن الليبرالية كانت تمثل في القرن الماضي الهواء الذي يستنشقه كل من كان واعيًا بشخصيته وبحقوقه في أوروبا الغربية، إنها كانت العقيدة العامة بالنسبة للأوروبيين المثقفين بحيث كانت تكاد أن ترادف الفكر الأوروبي"(1).

الليبرالية.. أصول المصطلح وأبعاده:

"الليبرالية"– في أبسط مداليلها المفاهيمية- هي أحدي المدارس الفكرية الحديثة التي تُطالب بالحرية الفردية المطلقة، مُقابل الحدِّ من كافة السلطات المهيمنة على رغبات الإنسان، سيَّما سلطة الدولة، والسلطة الدينية (الوحي)، أو السلطة الأخلاقية (العُرف)، ولذلك فالفلسفة الليبرالية لا تختلف في أعم من تفاصليها عن الفلسفة العلمانية، حيث مثَّلت الأخيرة المنطلق الفكري والإطار المعرفي للكثير من المذاهب الغربية المعاصرة، ومنها الليبرالية موضوع هذا المقال- بجناحيها القديم والحديث.

ويعود مصطلح "الليبرالية" إلى الكلمة اللاتينية "ليبراليس" (liberalis)، وتعني الشخص الحر، وعن هذه الكلمة جاء اللفظ الإنجليزي (liberalism)، الذي صار فيما بعد عنوانا على ذلك المذهب الفردي- التحرري- الذي تبلورت أولى ملامحه على يد الثلاثي: جون لوك، وجان جاك روسو، وجون ستوارت مل.


وقد نقل هذا المصطلح عن أصله بغير تعريب بعلَّاته؛ ليصير علمًا على ذلك المذهب الذي لا يتقيَّد بشرع أو عرف أو مبدأ، ولو أنَّا أردنا تعريبه بطريقة تدل على طبيعته الفلسفية التحررية لأسميناه: مذهب الحرية المطلقة، أو الحرية غير المحدودة، وهو توصيفٌ صادمٌ للعقل المسلم خاصة والعربي عامة؛ لما يحمله من دلالات تتعارض مع مُسلَّمات هذا العقل.


ثم إنَّه لولا بعض الضوابط- التنظيرية- التي نصَّ عليها منظرو هذا المذهب، لما وجدنا بينه وبين المذهب "الأناركي"– الفوضي- اللاسلطوي كبير فرق، فكلاهما يدعو إلى نبذ سلطة الدولة وتفريغها من كل سلطة تحدَّ من حرية الفرد، ويزداد الرفض لمفهوم سلطة الدولة عند اقترانها بالسلطة الدينية، لما تحمله- أي السلطة الدينية- من أوامر ونواهي تتعارض مع طبيعة الفلسفة الليبرالية، وتتعاظم هذه السلطة أكثر وأكثر- في واقعنا العربي- حينما تكون هذه السلطة سلطة إسلامية؛ ولذلك يشتد النكير الليبرالي العربي على المنظومة التشريعية الإسلامية، ويعتبرونها أحد أخطر العقبات أمام مشروعهم التنويري، بحسب زعمهم.


وقبل مغادرة هذه النقطة علينا أن نشير إلى خطأ التعويل على الدلالة المعجمية لفهم الليبرالية كنظرية فلسفية، وهو خطأ شائع في معظم الأفكار الفلسفية المنقولة عن حيز الزمان والمكان إلى (زمان ومكان) مختلفين، فلظروف النشأة وما يرتبط بها من مضامين اجتماعية وسياسية ودينية إلى جانب اللحظة التاريخية وطبيعة المكان عامل قوي في فهم طبيعة الأفكار والفلسفات، كالليبرالية والعلمانية والشيوعية وغيرها من المصطلحات الرنانة التي يجافي مفهومها منطوقها في أغلب الأحيان. ففهم الليبرالية على أنها الحرية فحسب بالمفهوم المطلق الذي يعيه الكثيرون منا جناية فكرية، وتسطيح لدلالتها في المصطلح الليبرالي.

كما أن للحرية تطبيقات كثيرة يصادم بعضُها الآخرَ، بل يهدم بعضها بعضا؛ فالحرية التي يتبناها الليبراليون ليست حرية واحدة متفق عليها، بل لكل منظر من منظري هذه الفلسفة تصوره الخاص للحرية ولطريقة آدائها، فالحرية عند توماس هوبز، ليست كالحرية التي يتبناها جون لوك، وحرية جون لوك تختلف عن حرية جون ستيوارت ميل وهكذا، ثم إن لكل تابع من أتباع هؤلاء الثلاثة- على سبيل المثال- تصوراته الأخرى لمفهوم الحرية، وهذا التصور تشارك في صنعه – كما أسلفنا وبيَّنَّا- الرغبات الشخصية والظرف التاريخي المحيط بهذا التابع.

الليبرالية العربية ما بين التنظير والتطبيق:

يختلف الطرح الليبرالي للنظريات الليبرالية الغربية عن مثيلاتها في العالم العربي، ففي حين نرى وضوحا وشفافية في الطرح الغربي وسهولة في التطبيق، نرى غموضا وتخبطا في كثير من الأفكار والنظريات التي يرددها مثقفو العرب من الليبراليين ومن نحى نحوهم.


وهذا الاختلاف راجع- في الأساس- إلى عاملين، أولهما عائد إلى الواقع الاجتماعي وما يكتنفه من ضوابط ومبادئ ترتبط بمنظومة الأفكار المهيمنة على الشخصية العربية، والثاني يرتبط- بالأساس- بفكرة الصدام بين الدين والفكرة الليبرالية، ولهذا نرى اتساعا في الفجوات بين الحالة التنظيرية والواقع التطبيقي لأفكار المدرسة الليبرالية في المجتمع العربي.

فالليبراليون العرب رغم جنوحهم نحو التحرر والتمرد على الواقع لم يصلوا بعد إلى ما وصل إليه أقرانهم في الغرب من أتباع المدرسة الليبرالية، وذلك لاختلاف البيئة العربية والشخصية العربية عما عليه بيئة وواقع الشخصية الغربية، فالعربي نفور بطبعه من أي خروج عن المألوف، وهو بطبعه- أيضا- مرتبط بالجماعة، فمفهوم الأمة أو القبيلة أو العائلة الذي تربى عليه وعايشه، وضوابط هذا التعايش، يمثل حاجزا قويا أمام الطرح الليبرالي المغالي في الفردية، والمعظم لمفهوم الأنا.


من ناحية أخرى تعد الخلفية المسبقة لفكرة الصدام بين الأطروحات الليبرالية والأوامر الشرعية- وهي خلفية صادقة- تعد عاملا أساسيا في نفرة الكثيرين من أفكار هذه الفلسفة، ويقوي هذا العامل ارتباط العربي "المسلم" بدينه، وتعظيمه لحملته من العلماء والدعاة، وهو واقع يختلف تمام الاختلاف عما نراه– ورأيناه في السابق- في المجتمع الغربي، سيما المجتمع الأوربي، الذي عانى من بطش الكنيسة وسلطوية رجالها.


فالغربيون ما تبعوا هذه الأفكار وتبنوا جنوحها وخروجاتها إلا لمواجهة تسلط الكنيسة وفاشية رجالها- إضافة إلى الثورة على الإقطاع الذي رعته الكنيسة- وهو ما لم نره في مجتمعاتنا لا في القديم ولا في الحديث، ولهذا فقضية الليبراليين الآن منصبة- في الأساس- على ما يمكن تسمية بنظرية (تكنيس المسجد، وقسوسة المشايخ)، من خلال اتباع منهج "الإسقاط"؛ بسحب ما كان يحدث من قبل الكنيسة وقساوستها في الغرب من تسلط وفاشية، على المسجد ومشايخ المسلمين وعلمائهم هذه الأيام، وهي طريقة مجحفة، يلح عليها الليبراليون بعد فشلهم في تنفيذ مشروعهم.

إن إشكالية الواقع الليبرالي في المجتمع العربي تتمثل في فقدان القدرة من قبل أصحاب الفكر النهضوي-التغريبي- العربي على تقديم نموذج عربي لليبراليتهم المزعومة، بحيث تتماشي مع الشرط العربي "المسلم"، ولا تتصادم مع ثوابته ومعتقداته وأعرافه، وحتى يتم لهم هذا الأمر- وهو أمر مستبعد بل مستحيل- ستظل ثنائية (التنظير والتطبيق) تمثل الهاجس الأكبر والإشكالية الأهم لدى أصحاب الرؤية الليبرالية العربية.


التسامح الليبرالي العربي، أو احترام الكفر والرضا به:


درج كثير من الليبراليين (في الغرب والشرق) على التغنِّي بقيم الحرية والمساواة، وأنَّ الليبرالية في أبسط صورها تمثل التسامح في أعلى صوره، وأنَّه ما من ليبرالي إلا ويمثل التسامح لديه والمصالحة مع الآخر وحبه له ركيزة أساسية لباقي الأفكار والمنطلقات الأساسية للفلسفة الليبرالية.


وبالبحث في المراد من هذا التسامح- المزعوم- نكتشف أن له شروطا لابد من استيفائها وموانع لابد من انتفائها؛ ليصدق على الشخص وصف التسامح، إذ لا تسامح عند الليبرالية بالمعنى العرفي أو المعني الإسلامي، وإنما يتقيد التسامح عندهم بشروط أساسية يَبطُل بفقد شرط من شروطها.


فيقوم هذا التسامح على القيم العلمانية (اللادينية)، كما يتطلب الإيمان بنسبية المبادئ والمعتقدات؛ لأنه لا وجود لقيم مطلقة الصحة عند الليبراليين والعلمانيين، وآخر الشروط في منظومة هذا التسامح يرتبط بقضية التعددية والديمقراطية، حيث يرى الليبراليون أن التعددية تستوجب منع أي تدخل لإلغاء الاختلاف، وفرض رؤية أحادية على المجتمع، سواء كان هذا التدخل (ديني أو اجتماعي أو سياسي) (2).


فالتسامح الليبرالي يؤسس لعالم فوضوي يقول فيه من شاء ما يشاء، دون إنكار أو زجر أو ردع، فقط سلطة القانون، هي الفيصل، وهي صاحبة الحق الوحيد والمطلق في الإنكار أو الاعتراض والعقاب، وهذه السلطة من شروطها- كما سبق بيانه- الابتعاد عن ساحة الفردية ونزعات الأنا، لنخلص في النهاية إلى نتيجة مفادها أنه لا سلطة في السلطة، بمعنى أنه لا حق للدولة في ممارسة سلطتها على رغبات الإنسان، ولا حق لها كذلك في محاكمة معتقداته وأفكاره.

فالفارق بين التسامح الإسلامي أو التسامح من المنطلق الأخلاقي (الفطري)، وبين التسامح الليبرالي، أن التسامح الليبرالي نوع من التساهل الفكري، والرخاوة في قضية الأفكار والمعتقدات، عن طريق احترامها وعدم الاعتراض عليها، فهو شذوذ لا تسامح، وانحراف عن الطبع السوي والفطر السليمة.


أما التسامح من المنظور الديني (الإسلامي)-وتبعا له المنظور الأخلاقي- فيُقصد به التساهل مع العباد بترك الشدة، وبالصبر على أذاهم، والإحسان إليهم، فالإسلام أمرنا بالتسامح مع أهل الإيمان والتقوى، وليس أمر التسامح مقتصرا على الموافقين لنا في المعتقد من أهل الإيمان، بل للمخالف لما نعتقد حظ من هذا الخُلق، يقول الله تعالى: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين}(3) ، لكنه- أي التسامح- ليس تمييعا للدين، أو تفريطا في دعوة الناس إليه، أو تخاذلا في الدفاع عنه، كما يراد له من قِبل أصحاب الفكر الليبرالي.

تقية الليبراليين بدعة عربية خالصة:


الوضوح والشفافية من الملامح المميزة للأفكار الليبرالية الغريبة، حيث جاءت هذه الفلسفة لتقف في وجه التسلط الديني الذي مارسته الكنيسة على شعبها، لتخليص الناس من استعباد الكنيسة ورجالها، وهو ما نجحت فيه الليبرالية والعلمانية الغربية- على حد سواء- فرغم فسادهما وتطرفهما إلا أنهما مثَّلا طوق نجاة لملايين البشر في أوروبا باستعادة جزءا من حريتهم المسلوبة وكرامتهم المهدرة.


أما في عالمنا العربي فقد كان الوضع مختلفا، فلا تسلط إلا تسلط الدولة، وبعض مثقفيها ومسئوليها من حاملي الأفكار الغربية كالعلمانية والشيوعية والليبرالية، أما ما يعرف في الغرب برجال الدين- وهو لفظ لا صلة له بالإسلام- فليس لهم سلطان على أحد، إنما صاحب السلطان والسلطة هو النص (الوحي) المتمثل في (كتاب الله عز وجل "القرآن الكريم")، وفي (سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، لهذا وجد الليبراليون- ومن نهج نهجهم- في معارضتهم للسلطة الدينية معارضةً للقرآن الكريم وللسنة النبوية، لا لعلماء المسلمين ودعاتهم كما كان الحال في الظروف الأوروبي.


وعلى هذا الأساس استدعى الليبراليون فكرة "التقية"، لدفع الشبه عنهم، فكانوا إذا سألوا عن كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ادعوا احترامهما والعمل بهما "تقية" منهم وبعدا عن الصدام مع عموم المسلمين، إرجاءً منهم لمرحلة الصدام.

إلى جانب ذلك استخدمت "التقية" الليبرالية كمخرج للعديد من الأسئلة الحرجة، كالموقف من قضية الشذوذ الجنسي، وشرب الخمر، ومسألة الزواج المدني، وموقف الليبراليين من الزنا، إلى غير ذلك من الأسئلة الشائكة، الأفكار الفاصلة بين الإسلام والليبرالية.


إن المسكوت عنه في الليبرالية العربية يمثل جل أفكار الليبرالية الأم، وإن ما يصرح به الليبراليون العرب في كتبهم وإعلامهم وندواتهم لا يمثل عشر معشار ما يكتمونه "تقية" وخوفا من غضب الجماهير المسلمة، لكنهم رغم ذلك يعملون وفق منهج تدريجي، وإلى الآن أراهم ناجحون في تطبيقه، فالمصارحة وصدام الفطر، ربما يأتي بعكس مرادهم، وربما يعجل بالصدام الذي لم يتهيئوا له بعد.


والأعجب من كل ما سبق زعم كثير من الليبراليين أن ليبراليتهم "ليبرالية بما لا يخالف شرع الله"، ففي أحد اللقاءات التليفزيونية سأل المذيعُ أحد المنظرين لليبرالية المصرية، قائلا له: إذا تصادمت الشريعة الإسلامية مع فكرة المواطنة وحقوق الإنسان، إلى ما تنحاز؟ فرد المنظر الليبرالي قائلا: "الانحياز بكل تأكيد للشريعة الإسلامية، والشرائع السماوية، وينبغي أن يفعَّل ويضمن هذا الانحياز في الدستور".


العجيب في هذا الأمر أن صاحب هذه الإجابة هو الليبرالي المصري الدكتور عمرو حمزاوي، صاحب أشهر التصريحات مصادمة للدين ولفطر المسلمين، فهو صاحب مقولة أن المادة الثانية- التي تنُصُّ على أن الإسلام دين الدولة- مادة كارثية، وأن الدولة لا دين لها، وهو من طالب بالزواج المدني الذي يسمح بزواج المسيحي من المسلمة والرجل من أخته أو ابنته أو أمه، عياذا بالله.

الخطاب الليبرالي العربي بين زمانين:

تكالب مثقفو العرب على أوروبا وتبارُوا في نقل ثقافتها التي تشبَّعت في قسم كبير منها بالفلسفة الليبرالية، ومن ثَمَّ ظهرت هذه الفلسفة في كتابات كثير من المثقفين الأوائل خاصة من سافر منهم إلى أوروبا، أو من تتلمذ على يد المستشرقين، أو من اطلع على الكتابات الغربية المشبَّعة بروح هذه الفلسفة.

والملاحظ في هذه الكتابات اهتمامها بالتطبيق لا التنظير، فلم يهتم الرواد "العرب" ببثِّ هذه الفلسفة في الواقع العربي على أنها رؤية فلسفية جديدة، بقدر ما كان اهتمامهم منصبا على تقريب العقل العربي من تطبيقات هذه الفلسفة؛ ببث قيم الحرية: كحرية التعبير، ومسألة تحرير المرأة، والحديث عن أهمية التفكير، وإعمال العقل، وقضية نقد التراث، إلى غير ذلك من الأطروحات الفكرية العملية المرتبطة بروح الفلسفة الليبرالية.


وما أن مضى جيلُ الرعيل الأول الذي تشبَّع برُوح الفلسفات الغربية سيما الفلسفة الليبرالية حتى أتى جيلٌ جديدٌ؛ ليحمل على عاتقة مسؤولية التنظير لهذه الفلسفة من خلال نقل كتابات المنظِّرين الغربيين وتقريبها من العقلية العربية، وهنا حدثت الإشكالية الكبرى، فالليبرالية فلسفة نُظِّر لها لتعيش في واقع أوربي كنسي مسيحي، لا واقع عربي مسلم، ولهذا لم نر حتى الآن نموذجًا عربيًا مقنعًا نجح في التوفيق بين التنظير الفلسفي الغربي للفكرة الليبرالية، وتطبيقات هذا التنظير في الواقع العربي، إلى غير ذلك من الإشكاليات.


وقد اتسم الخطاب الليبرالي العربي الكلاسيكي بقدرته على أسلمة الأفكار الليبرالية من خلال إضفاء الصبغة الدينية عليها، وظهر هذا الأمر في جيل الرواد من أمثال محمد عبده والأفغاني والطهطاوي، وهو ما لا نجده في الأطروحات النيوليبرالية العربية، مع اعترافنا بأن الليبرالية الكلاسيكية ظهرت وانتشرت لا على أنها نسقا معرفيا متكاملا، وإنما ظهرت عبر جرعات معرفية متفرقة حول بعض الأفكار والقيم والمبادئ.


فالليبرالية لم تُعرف كمذهب مستقل عند الرواد من مثقفي القرن التاسع عشر، ويستثني منهم مفكري الكنيسة، أو المفكرين المسيحيين، أمثال: فرنسيس المراش، وأديب إسحاق- بحسب رؤية الطيب بو عزة- فطرح هذين الأخيرن جاء مختلفا عن طرح المثقفين الإسلاميين من خلال قربهما من الطرح النيوليبرالي في كثير من الأفكار وطريقة التناول.

فالطرح الليبرالي الكلاسيكي كان طرحا عاما للفكرة الغربية، لا الفلسفة الليبرالية فحسب، مع بروز واضح للنفس الليبرالي، الذي تمظهر في أكثر من موقف وبأكثر من شكل في المشهد الثقافي العربي في بدايات القرن المنصرم وإلى منتصفه.

ويلاحظ في كلا الخطابين حضورا واضحا لعنصر الانبهار بالآخر، ذلك الآخر الأكثر حضارة وتمدنا، حيث علا سقف الانبهار عند الليبراليين الكلاسيكيين بالواقع الأوربي، فظهرت عدة كتابات تحكي عن هذا النموذج، كما هو الحال في مُؤَلف الطهطاوي " تخليص الإبريز"، أما الواقع الأمريكي، فقد كان مصدر انبهار لا حد له لجماعة النيوليبراليين العرب، لدرجة سمحت للبعض بتخوينهم ووصفهم بالعمالة لأمريكا والترويج لفكرها الإمبريالي.

وجاء الطرح النيوليبرالي العربي بعيدا كل البعد عن الطرح الكلاسيكي من حيث مجانبة الأول للاستدعاء الديني الذي مارسه الأخير في تنظيره للأفكار الليبرالية، بل زاد الطرح النيوليبرالي العربي في مجافاته للنص الديني واستبعاده له باستعدائه وإعلان القطيعة عنه والهجوم عليه، حتى صار هذا المنحى ملمحا رئيسا- رغم تقية البعض- ونقطة جوهرية فاصلة بين كلا الخطابين (الكلاسيكي، والنيوليبرالي)(4) .
كتبه : رمضان الغنام.

ــــــــــ

الهوامش:

(1) مفهوم الحرية- عبد الله العروي- المركز الثقافي العربي- بيروت- ط5- 1993م- (ص:47).

(2) يراجع في ذلك: كتاب نقد التسامح الليبرالي- للدكتور محمد بن أحمد مفتي- طبع مجلة البيان- الرياض- 1431هـ.

(3) سورة الممتحنة، الآية: (8).

(4) للمزيد حول هذه النقطة ينظر: نقد الليبرالية للطيب بو عزة- طبع مجلة البيان- الرياض- ط1- 1430هـ- (ص:157-171).