"إشكالية البحث الاجتماعي في القيم وسؤال الخصوصية " في الحاجة إلى منهج جديد في بحوث القيم./هشام المكي.
تعد أبحاث القيمة حديثة جدًّا مقارنة بما اهتمت به العلوم الاجتماعية منذ نشأتها.
وتعود حداثة هذا الاهتمام، ويعزى هذا التأخر في الاهتمام بدراسة القيم في العلوم الاجتماعية إلى جهتين:
الجهة الأولى: تأخر تحديد مدلول دقيق لمصطلح "القيمة":
فعلى المستوى اللغوي: تدل كلمة "قيمة" على اسم النوع من الفعل "قام" بمعنى: وقف، اعتدل، انتصب، بلغ، استوى، ...(1). وتدل مجازًا على: ما اتفق عليه أهل السوق وقدروه وروجوه في معاملاتهم بكونه عوضًا للمبيع (2).
وعلى المستوى الاصطلاحي: فرغم تعدد التعاريف الحالية للقيمة، والتي تكون متضاربة في بعض الأحيان، فإنه إلى عهد قريب جدًّا، لم تعرف القيمة سوى دلالة اقتصادية؛ فإلى هذه الساعة لا تتوفر بالموسوعة البريطانية إلا مقالة واحدة حول القيمة الاقتصادية، وربما يعود اكتشافها إلى مرحلة اكتمال فلسفة القرن التاسع عشر، غير أن الآراء حول الموضوع لم تتبلور بعد، وهي من الأمور الفلسفية التي ما تزال تتطور، والتي قد تلقي بظلالها على قضايا قديمة(3).

الجهة الثانية:
إشكالية إضفاء صفة "العلمية" على الدراسات الاجتماعية، وهو الاتجاه الذي ساد كل الدراسات الأدبية والإنسانية والاجتماعية في الغرب. ويشير إلى ذلك "محمد بلفقيه" بقوله: "رغبةً في تحقيق مستويات رفيعة من الموضوعية والدقة العلمية؛ تحاشى قطاع عريض من العلوم الاجتماعية في الغرب -طيلة جيل بأكمله، وإلى ما بعد 1990م- الخوض في موضوع القيم؛ حيث كان ينظر إليها بوجه من الوجوه على أنها "ذاتية"، وأنها لا تندرج في "صلب الوقائع" التي تمثل الموضوع الحقيقي للدراسة(4).
ونتيجةً لهذا الأمر، أصبحت بحوث القيم تعتمد على مناهج بحثية، تحاول من خلالها تحري الدقة الموضوعية والرفع من القيمة العلمية لنتائجها؛ فتجد الباحثين يقومون بدراسة القيم عن طريق "الدراسة المنظمة للاختيارات والمقاصد والأفعال من خلال السلوك الطبيعي من جهة، وعبر الاختيارات، والمقابلات، والتجارب من جهة أخرى. وهكذا يعطي البحث دلالات وإشارات عن اهتمامات الفاعلين وتوجهاتهم التي تتجلى في المنتجات الثقافية وفي الملاحظة المباشرة للسلوك أيضًا(5).

ومن أهم تقنيات البحث في القيم: تلك التي تقوم على تحليل الخطاب الاجتماعي سواء كان مضمرًا أو معلنًا، أو الدراسات الميدانية من خلال توزيع الاستمارات، أو ملاحظة مسألتي العقاب والجزاء؛ أي: السلوكات التي يستهجنها المجتمع ويدينها، أو تلك التي يستحسنها ويكافئ عليها.

ويعتبر هذا المنهج الأخير جد فعال في تصنيف القيم، وتحديد اتجاهات تفضيلها لدى الجماعة المدروسة، أو تقييم مدى أهمية حضور قيمة ما في قطاع معين؛ فتعقب حركة العقاب حيثما أدت إليه، والتحليل الدقيق لأية جزئية من عواقب الجزاء، أو العقاب الاجتماعي لنوع معين من السلوك؛ سيكشف -كالعادة- عن معلومات ذات قيمة كبيرة(6).

وبدون الخوض المفصل في مناهج وتقنيات البحث في مسألة القيم، نلفت الانتباه إلى مسألة بالغة الأهمية، وهي أن كل هذه التقنيات والمناهج تعمل على دراسة القيم وتصنيفها من خلال تصنيفات وتفضيلات المجتمع. وهذا أمر صحيح في ظاهره، ما دام ينسجم مع مبادئ الدراسات الاجتماعية، من حيث: الدقة، والموضوعية، ومدى تمثيل العينة لمجتمع الدراسة، وغيرها من المحددات العلمية والمنهجية. لذا تفضي هذه الدراسات في العادة إلى نتائج صحيحة على ضوء الواقع الاجتماعي الفعلي.


لكنَّ هناك سؤالين -على الأقل- ينبغي طرحهما:

1- هل هذا الضرب من المناهج كافٍ للتعامل مع كل أصناف القيم؟
2- هل هذه الرؤية المنهجية صالحة لدراسة القيم في المجتمعات المسلمة؟
أما سبب طرح هذين السؤالين، فهو كون العقل الغربي صانعًا لقيمه، عبر جعل العلم والتجربة مصدر المعرفة، وإقصاء كل المصادر الأخرى، منذ أن تحرر من سلطة الكنيسة. وهكذا تقوم الدراسات الاجتماعية الميدانية بدراسة القيم من خلال تبني معايير تحقق لها الدقة العلمية، فتنطلق من دراسة توجهات المجتمع بخصوص القيمة موضوع الدراسة، وذلك حرصًا منها على تحقيق الموضوعية.

لكن العقل المسلم لا يعتبر صانعًا لقيم مجتمعه إلا من خلال أحد الوجهين الآتيين:

- وجه إيجابي: باعتبار كل فعله الإنساني تأويلاً للوحي الإلهي، وتنزيلاً له على أرض الواقع، وذلك تحقيقًا لمسئولية الاستخلاف.
- وجه سلبي: بابتعاده عن قيم الوحي الإلهي، واستلابه من خلال إعادة إنتاجه لقيم دخيلة، عبر تعطيل خاصية الاجتهاد لديه؛ فينقطع رباطه مع الوحي استلهامًا وتنزيلاً، ويقبل على القيم الوافدة استنساخًا وتقليدًا.
ومن هذا المنطلق، تفرض حالة المجتمعات المسلمة البحث في مسألة القيم بشكلين متوازيين لا غنى عن أحدهما:
- الشكل الإجرائي الميداني: وهو الشكل المألوف الذي يمتح (يأخذ) من كل ما جد في التراكم العلمي الإنساني في مجال الدراسات الاجتماعية، ولا يجد غضاضة في الاستفادة من الإبداعات الغربية وغيرها في هذا المجال، فتتراكم تصنيفات دقيقة ومعلومات وافية حول موضوع البحث، وتتسم النتائج هنا بقدر كبير من الدقة والموضوعية والتفصيل.
ولهذا النوع من الدراسات أهميته البالغة، ومجالاته التي تحتاج إليه، خصوصًا حينما نرغب في معرفة معلومات دقيقة حول قيمة ما، وكيف يتصورها مجتمع الدراسة، أو تغيرات تمثلاتها عندهم.
- الشكل التوجيهي القيمي: وهو مجال الإبداع الأكبر؛ إذ أدعو إلى الاجتهاد في وضع مناهج للبحث في المعنى الوجودي لهذه القيم، بما هي قيم شهود وتوحيد، أو قيم جحود وحلولية.
وستكون الغاية من هذا النوع من الدراسة وضع إطار كلي توجيهي للبحوث الإجرائية في موضوع القيم، فيتم تصنيف القيم التي انتهى البحث فيها إجرائيًّا حسب قربها أو بعدها من قيم التوحيد والاستخلاف، فتكون منسجمة مع مقومات هوية المجتمع وداعمة لها، أو مقوضة لأسسها وهادمة لها؛ إذ إن البحث الإجرائي في موضوع القيم قد يكون خادعًا في كثير من الأحيان، فتفضي دراسة ميدانية إلى استحسان المجتمع لقيمة معينة وقبولها، في الوقت الذي تكون فيه هذه الأخيرة مجتثة من سياق فلسفي حلولي، خصوصًا إذا تعلق الأمر بمجال وظيفي أدائي مثل: مفهوم التواصل مثلاً، والذي تشير الدراسات الاجتماعية "التقليدية" إلى تثمين قيمة التواصل في المجتمعات المسلمة؛ إذ يعتبر التواصل قيمة إيجابية، بل وشرطًا ضروريًّا لإنجاح المشاريع التنموية والعلاقات الإنسانية. لكن دراسة أعمق لهذه القيمة -في بعدها المعرفي، ومحدداتها الفكرية والفلسفية- تسمح لنا بالكشف عن منظور حلولي يستبطن هذه القيمة(7). ويتطلب مع تثمين التواصل أو الحديث عن التواصل في الإسلام المزيد من الحذر، بل وضرورة الضبط المفاهيمي، وتجلية الفروق والاختلافات التصورية بين مفهوم التواصل في الرؤية القرآنية، ومفهومه العلمي الشائع و"العالمي".
وقد يبدو من قبيل المبالغة أن كل القيم التي ينبغي دراستها، تستبطن بلا شك قيمًا شهودية أو حلولية.

لكن الأمر يتعدى حتى تلك القيم؛ فكل الممارسات الحياتية، وأشكال التنظيمات الاجتماعية، والإبداعات الإنسانية؛ كلها تستبطن رؤية للكون وللوجود، سواء كانت تلك الرؤية ظاهرة جلية، أو كامنة خفية. ولعل هذا ما يلاحظه "ميشيل مافيزولي" في الصورة حينما يقول: "فما نسميه وظيفة أيقونية لا صلاحية له في ذاته؛ إذ هو أساسًا استثارة، أو -إذا شئنا- سند لأشياء أخرى: العلاقة مع الله، مع الآخرين، مع الطبيعة"(8).


لهذا أقترح أن يتم البحث في هذه القيم من الناحية التوجيهية العامة، باستثمار مفهوم النموذج المعرفي، والذي يعرفه عبد الوهاب المسيري قائلاً: "النموذج الذي يحاول أن يصل إلى الصيغ الكلية والنهائية للوجود الإنساني. وتدور النماذج المعرفية حول ثلاثة عناصر أساسية: الإله - الإنسان - الطبيعة ... ومع هذا، لا بد أن يعبر أي خطاب سياسي اقتصادي، مهما بلغ من سطحية، عن الأسئلة الكلية والنهائية (الخاصة بطبيعة الإنسان والهدف من وجوده ومصدر معياريته، فكل قول وكل نص يحتوي على نموذج معرفي؛ إما ظاهر أو كامن(9).


وينبغي أن تؤطر كل دراسة تتعلق بالقيم بدراسة أخرى معرفية، تختبر منظور هذه القيم وتصوراتها لتلك العلاقات الثلاثة: مع الإله، مع الطبيعة، مع الإنسان. فتجمع الدراسات حينها بين المناهج العلمية المتبعة في الساحة، فيكون لنتائجها الصدق والدقة المطلوبان، والروح الإيمانية، والتصور الفكري الاستخلافي، فيختبر تلك القيم وما يتعلق بها، من حيث انسجامها مع المحددات المعرفية والعقدية الإسلامية أم لا.


فكثير من القيم التي قد ترتبط بمجالات تقنية وعملية جافة يتم استحسانها بسذاجة، إما لموجة استحسان عامة لهذه القيم في المجتمعات الغربية، أو لوهم الاعتقاد بأنها فقط قيم عملية أو تقنية، فهي بعيدة عن أي تصور فكري أو إيماني. في حين أن كل قيمة مهما كان نوعها ومجالها، ستستند بلا شك إلى نموذج معرفي معين، ورؤية فلسفية خاصة.

وهذه المزاوجة بين المنهجين ستتيح توجيه بحوث ودراسات القيم بما يخدم الهوية الحضارية، ويتأطر في إطارها، ويعيد دمجها في سياق استخلافي، ويضفي على أشكالها التقنية والوظيفية الجافة لمسة إيمانية.

ولعل الفقرات السابقة تنبه إلى ضرورة فتح نقاش جدي في مسألة بحوث القيم في العلوم الاجتماعية، من خلال المساهمة النظرية في إعادة صياغة المقدمات النظرية والمنهجية، للتفكير في صيغ جديدة للمزاوجة بين البحوث الإجرائية، والبحوث التوجيهية التي نرجو أن تتراكم فيها الدراسات والاجتهادات لوضع مناهجها وتدقيقها. والله أعلم.

_______________
(1) محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، المجلد 9، دار صادر، بيروت، 1966م، ص 36.
(2) محمد علي التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، خياط، بيروت، بدون تاريخ، ج1، ص 178.
(3) Schiller, F.C.J. 1980 ; Value in Encyclopedia of Religion and Ethics. James Hastings edit.
(4) محمد بلفقيه، العلوم الاجتماعية ومشكلة القيم: تأصيل الصلة، منشورات المعارف، دار نشر المعرفة، الرباط، ط1، 2007م، ص 64.
(5) نفسه، ص 63.
(6) William, Robin M. JR. 1960 : American Society: A Sociological Interpretation. 2D ed. rev. New york, Knopb. P :401.
(7) هذه النتائج قد بيناها بتفصيل في دراستنا:
"يوتوبيا الاتصال وسؤال القيم: رؤية معرفية"، مجلة الإحياء: فصلية محكمة، تصدر عن الرابطة المحمدية للعلماء، المغرب. عدد مزدوج 34/35، شوال 1432هـ/ سبتمبر 2011م.
(8) ميشيل مافيزولي، تأمل العالم: الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية. ترجمة فريد الزاهي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، سلسلة الترجمات، الرباط، 2005م ، ص 128.
(9) عبد الوهاب المسيري، العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، ط2، دار الشروق، 2005م، المجلد الثاني، ص 445.