الحجاج وذووه،،
قدم على الحجاج ابن عم له أعرابي من البادية فنظر إليه يُولِّي الناس، فقال له: أيها الأمير، لم لا توليني بعض هذا الحضر. - فقال الحجاج: هؤلاء يكتبون ويحسبون وأنت لا تحسب ولا تكتب!
فغضب الأعرابي وقال: بلى إني واللّه لأحْسَبُ منهم حسباً، وأكتب منهم يداً.
فقال له الحجاج: فإن كان كما تزعم فاقسم ثلاثة دراهم بين أربعة أنفس، فما زال يقول: ثلاثة دراهم بين أربعة، ثلاثة بين أربعة، لكل واحد منهم درهم يبقى الرابع بلا شيء، كم هم أيها الأمير. قال: هم أربعة، قال: نعم أيها الأمير، قد وقفت على الحساب، لكل واحد منهم درهم، وأنا أعطي الرابع منهم درهماً من عندي وضرب بيده إلى تكته فاستخرج منها درهماً، وقال: أيكم الرابع فلاها اللّه ما رأيت كاليوم زوراً مثل حساب هؤلاء الحضريين.
فضحك الحجاج ومَنْ معه، وذهب بهم الضحك كل مذهب، ثم قال الحجاج: إن أهل إصبهان كسروا خَرَاجهم ثلاث سنين، كلما أتاهم وال أعجزوه، فلأرمينهم ببدوية هذا وعنجهيته، فأخْلِقْ به أن ينجب، فكتب له عهده على أصبهان، فلما خرج استقبله أهل إصبهان واستبشروا به، وأقبلوا عليه يقبلون يده ورجله، وقد استغمروه، وقالوا: أعرابي بدوي ماذا يكون منه فلما أكثروا عليه قال: أعينوا عَلَى أنفسكم وتقبيلكم أطرافي وأخِّرُوا عني هذه الهيآت، أما يشغلكم ما أخرجني له الأمير؟
فلما استقر في داره بأصبهان جمع أهلها فقال لهم: ما لكم تَعْصُونَ ربكم وتغضبون أميركم وتنقصون خراجكم. فقال قائلهم: جَوْر مَنْ كان قبلك، وظلم من ظلم، قال: فما الأمر الذي فيه صلاحكم، فقالوا: تؤخرنا بالخراج ثمانية أشهر ونجمعه لك، قال: لكم عشرة وتأتوني بعشرة ضمناء يضمنون، فأتوه بهم، فلما توثقَ منهم أمهلهم، فلما قرب الوقت رآهم غير مكترثين لما يدنو من الأجل، فقال لهم، فلم ينتفع بقوله، فلما طال به ذلك جمع الضمناء وقال لهم: المال، فقالوا: أصابنا من الآفة ما نقض ذلك، فلما رأى ذلك منهم آلى أن لا يفطر - وكان في شهر رمضان - حتى يجمع ماله أو يضرب أعناقهم، ثم قَدَّم أحدهم فضرب عنقه، وكتب عليه فلان بن فلان أدى ما عليه، وجعل رأسه في بدرة وختم عليها، ثم قَدَّم الثاني ففعل به مثل ذلك، فلما رأى القوم الرؤوس تبذر وتجعل في الأكياس بدلاً من البدرِ قالوا: أيها الأمير، توقّفْ علينا حتى نحضر لك المال ففعل، فأَحضروه في أسرع وقت.
فبلغ ذلك الحجاج، فقال: إنا معاشر آل محمد - يعنى جَده - ولدنا نجيب، فكيف رأيتم فراستي في الأعرابي؟
ولم يزل عليها والياً حتى مات الحجاج.
مروج الذهب ومعادن الجوهر (170/3)