بل نقل غير واحد الإجماع على أن من ترك الشرع المحكم المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم وتحاكم إلى غيره كفر.


بسم الله الرحمن الرحيم

السؤال: من صفحة الفيسبك

أريد ردا مقنعاً عمن يريد فصل الدين عن الدولة ..وهل حقا لا ينبغي للدول اليوم ان تتحاكم للشريعة.

الجواب:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فثمة مقررات شرعية ثلاثة تتعلق بهذا السؤال لابد أن تعلم وهي:
أولاً: إن خالق هذا الكون بما فيه من إحكام، وحسن تقدير، وآيات باهرة في النفس والآفاق، عليم حكيم، هو أعلم بمن خلق، كما قال منكراً: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك: 14]، بلى! فإن المتقرر في البدائه أن كلَّ مبدعِ مصنوعٍ، هو أعلم بخفاياه وما يصلحه وما يصلح له، لا ينبغي أن ينازعه في ذلك غيره.

والله عز وجل قد خلق البشرية وشرع لها شرائع وأحكاماً تصلحها، وتتحقق إن تمسكت بها الغاية التي خُلقت لأجلها، فلا يسوغ عقلاً ولا يجوز شرعاً، أن نعارض تشريعات الخالق الخبير، بتشريع أرضي لا يراعي الغاية من خلق المكلفين، بل غايته مراعاة مصالح لا يرتضيها آخرون، ودفع مفاسد قد تكون ثمة مصالح أعظم منها عند طائفة أخرى، ولهذا يضطرب أهل التشريعات الوضعية فيها كثيراً، فتختلف باختلاف البلدان، بل في البلد الواحد باختلاف الأيام.

ثانياً: الشرائع السماوية إنما أنزلت لتحكم، والرسل إنما أرسلت لتصدق وتطاع في ما أمرت به أو نهت عنه، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا ْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا) [النساء: 64]، وقال: (كانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ) [البقرة: 213]، وقال: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُ ّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة: 44]، وقال: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة: 45]، وقال: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 47]، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَتَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا) [النساء: 105]، وقال: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، وقد ذم الله أقواماً بإعراضهم عن حكم الله فقال في أهل الكتاب: ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ) [آل عمران: 23]، وقال في المنافقين: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين َ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 47-51]. ومما ينبغي أن يعلم أنه لم يختلف علماء الإسلام في وجوب الحكم بما أنزل الله، فأدلة هذا متظاهرة من الكتاب والسنة، وما تقدم من النصوص القرآنية إنما هو قليل من كثير، والاستقصاء يضيق به هذا الجواب، بل نقل غير واحد الإجماع على أن من ترك الشرع المحكم المنزَّل على محمد صلى الله عليه وسلم وتحاكم إلى غيره كفر.

ثالثاً: شريعة الإسلام شاملة، ما تركت شيئاً لم تفد فيه حكماً، وهي كذلك خاتمة فلا شريعة بعدها ولا ناسخ لما أُحكِم منها بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، فهي صالحة لكل مكان بشمولها، ولكل زمان بثبوتها وإحكامها، قال الله تعالى: (وكل شيء فصلناه تفصيلاً) [الإسراء: 12]، وقال: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) [النحل: 89]، وقال جل وعز: (ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) [يوسف: 111]، وقال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً) [الإسراء: 9]، يهدي للتي أقوم؛ أي لكل ما هو أقوم في أحكام الأسرة، والسياسة، والاقتصاد، والقضاء، وغير ذلك، وليتأمل من شاء ما كتبه كلٌ من صاحب الأضواء وصاحب الظلال على هذه الآية، أو ليكتف بحديث سلمان رضي الله عنه في صحيح مسلم لما قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة؟! فقال: أجل! لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم.

وقال أبو ذر رضي الله عنه: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلاّ ذكر لنا منه علماً.

فليس شيء من شؤون الحكم أو الاقتصاد أو غيرهما ليس لله تعالى فيه حكم تكليفي بإيجاب أو ندب أو تحريم أو كراهة أو إباحة.

وإذا ظهرت هذه المقدمات الثلاث، عُلم أنه لا يجوز في شريعة الإسلام فصل الدين عن الدولة والحكم، بل لا يكون معتقدُ جواز ذلك مسلماً، فالرسل أرسلت بالشرائع لتطاع فيها، والشرائع إنما أنزلت لتحكم، ومنزلها حكيم خبير أعلم بما يصلح، ثم هو سبحانه ما فرط في شيء فأخلاه عن حكم، بل فصل الأحكام تفصيلاً، وإذا كان كذلك فالواجب الإيمان بالكتاب كله، والإقرار بالشريعة جملة، وقد ذم الله جل وعز أقواماً أوتوا الكتاب من قبلنا لمّا حكموا بعضه وتركوا بعضه فقال متوعداً إياهم ومبيناً ضلالهم: (أَفَتُؤْمِنُون بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85]، وقال: (إنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا) [النساء: 150-151]، وتوعد بالمحاسبة والسؤال من قسموا الكتاب فعملوا ببعضه وأعرضوا عن بعضه حيث قال: (كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ * الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُ مْ أَجْمَعِيْنَ) [الحجر: 90-92].

وختاماً فما سبق لا يمنع الترتيب والتنظيم والابتكار والإبداع في سائر أمور الدنيا، لكنْ يُحْكِمُه ويُرَشِّدُه وينقيه مما غلبت مفسدته مصلحته، ففي الاقتصاد مثلاً لا بأس من ابتكار طرق التمويل على ألاّ تكون عِينة أو رِبوية أو محرمة، وذلك لمفاسد في ما حرمته الشريعة لا تستقيم معها أمور الدنيا قبل الآخرة، ومن تأمل مشكلة السندات وما جرته من ويلات في العالم الغربي وجد ذلك، وفي المقابل أباحت الشريعة طرق التمويل التي تخلو عن حرام، كالتورق غير المنظم عند الأكثر، وندبت بعموماتها إلى طرائق أخرى إنتاجية تنفع الأمة، تقوم على أنواع من الشركات النافعة، وندبت كذلك لما فيه إحسان كالقرض الحسن، وشرعت مع ذلك ما يكفل حق المقرِض المحسنِ من أنواع التوثيقات كالكتابة والكفالة والرهن، وهكذا للشريعة أحكام في كافة المنتجات الاقتصادية، وهذه الأحكام تصلح حال المجتمع، وتؤمنه من المغبة التي تخشى في التعاملات المحرمة، وكذلك الشأن في أمور السياسة وغيرها. وضعت الشريعة في كل ذلك حدوداً عامة وأحكاماً تفصيلية لا يجوز تجاوزها، ولا يعوز علماء الإسلام إثبات صلاحيتها وخيريتها على ما عداها، وأتاحت مع ذلك المجال للإبداع في التنظيم والإدارة في دائرة المباح الواسعة، والمهم عرض المنتج سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً على مقررات الشريعة لترَشِّدَه، فتقرَّ ما حسُن، وتمنع ما قبُح، وتصلح ما يمكن أن يصلح، وبهذا تكون الشريعة عاصمة للدولة من الخطر، وسبباً من أسباب قوتها، وقد كانت دولة الإسلام مرهوبة الجانب قوية البناء لمّا كانت متمسكة بأحكام الشريعة، وما بدأ الضعف والوهن يدب إلاّ مع بدايات الفصل، والأخذ عن الشرق والغرب دون تمحيص، إذ استُنبتت في أرض الإسلام نظمٌ وقيم أجنبية، ورجا مجتلبوها أنت تثمر ولم يراعوا أن التربة غير التربة، والمناخ غير المناخ، فلا غرو أن تجدب
الأرض، وتسوء الحال، ويكثر الضلال، نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يردنا وإياهم رداً جميلا إلى الدين، والحمد لله رب العالمين.
http://www.taseel.com/display/pub/de...954&ct=21&ax=2