جَوابَا عَلى سُؤالك سأَخُطَّ سُطُورًا ذَائِدًا عَنْ شُبْهَةٍ يَنْشُرُهَا الْكُفَّارُ اللِّئَامُ لِيُشَكِّكُوا عَوَامَ الْمُسْلِمِينَ فِي كَمَالِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ مِنَ الرَّحْمَنِ
وردنا سؤال على صفحة الاستشارية الفكرية في الفيسبك يتعلق بتفسير كيفية صلاحية الشريعة الإلهية ذات النصوص المحدودة لتغطية جميع الحوادث والأمكنة والأزمنة وقد تفضل بالإجابة فضيلة الشيخ الدكتور سلمان بن نصر الداية حفظه الله تعالى الأستاذ المشارك بالجماعة الإسلامية بغزة في صورة بحث مسهب ورأينا اختصاره بعد إذنه لمناسبة الاستشارة فوافق مجزيًا خيرًا كما أننا حذفنا قائمة المراجع طلبًا للتيسير .
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ ، وَنَسْتَغْفِرُه ُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعْدُ ..
للهِ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ، وَالنِّعْمَةُ السَّابِغَةُ، وَالرَّحْمَةُ الْوَاسِعَةُ، خَلَقَ الثَّقَلَيْنِ لِعِبَادَتِهِ وَهُوَ الْغَنِيُّ عَنْهُمْ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
وَلِكَمَالِ حِكْمَتِهِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ ابْتَعَثَ مِنْ عِبَادِهِ أَنْبِيَاءَ وَرُسُلاً، وَأَيَّدَهُمْ بِوَحْيٍ مُنَزَّلٍ مِنْ لَدُنْهُ، يَتَّسِمُ بِالتَّمَامِ وَالْكَمَالِ، مُبَرَّءٍ مِنَ الْعَيْبِ وَالنُّقْصَانِ، يُقِيمُ مَصَالِحَ مَنْ نَزَلَ فِيهِمْ، وَيَشْمَلُ حَوَادِثَهُمْ كُلَّهَا لِيَسْلَمُوا مِنْ شُرُورِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّيْطَانِ. وَهَذِهِ سُنَّتُهُ فِي عِبَادِهِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عليه السلام وَحَتَّى النَّبِيِّ الْخَاتَمِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ أَيَّدَهُ بِوَحْيٍ مَتْلُوٍّ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَغَيْرِ مَتْلُوٍّ وَهِيَ سُنَّتُهُ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِه ِ وَصِفَاتِهِ فَكَانَ لِهَذَا الْوَحْيِ سِمَاتٌ مِنْهَا الشُّمُولِيَّةُ وَالْعَالَمِيَّ ةُ وَالْكَمَالُ وَاحْتِوَاؤُهُ أُصُولاً جَامِعَةً وَقَوَاعِدَ كُلِّيَّةً تَسْتَوْعِبُ حَوَادِثَ الْأَنَامِ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَالْأَزْمَانِ، جَوابَا عَلى سُؤالك سأَخُطَّ سُطُورًا ذَائِدًا عَنْ شُبْهَةٍ يَنْشُرُهَا الْكُفَّارُ اللِّئَامُ لِيُشَكِّكُوا عَوَامَ الْمُسْلِمِينَ فِي كَمَالِ الْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ مَعْدُودَةٌ مَحْدُودَةٌ، وَحَوَادِثُ الْأَنَامِ مَمْدُودَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ، فَأَنَّى لِلْمُتَنَاهِي وَالْمَحْدُودِ أَنْ يَسْتَوْعِبَ غَيْرَ الْمُتَنَاهِي وَلَا الْمَحْدُودِ فَبَادَرْتُ مُسْتَعِيناً بِاللَّهِ تَعَالَى مُتَوَسِّلاً إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ أَنْ يُلْهِمَنِي الرَّشَادَ وَيُوَفِّقَنِي إِلَى الصَّوَابِ، وَرَأَيْتُ مِنَ الْمُنَاسِبِ أَنْ يَكُونَ الْحَدِيثُ فِي مَحَاوِرَ خَمْسَةٍ.
الْمِحْوَرُ الْأَوَّلُ: الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ قَيِّمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ.
الْمِحْوَرُ الثاني: الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَالَمِيُّ الرِّسَالَةِ.
الْمِحْوَرُ الثالث: الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ شُمُولِيُّ الْأَحْكَامِ.
الْمِحْوَرُ الْرابع: الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ أُصُولٌ عَامَّةٌ وَقَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ تَسْتَوْعِبُ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ.
الْمِحْوَرُ الْأَوَّلُ: الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ قَيِّمٌ لَا عِوَجَ فِيهِ:
إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ الْقُرْآنَ حَقّاً خَالِصاً لَا ضَلَالَ فِيهِ، وَصِرَاطاً مُسْتَقِيماً لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَعَدْلاً لَا ظُلْمَ فِيهِ، وَكَمَالاً لَا نَقْصَ فِيهِ، وَنُوراً يَتَبَدَّدُ الظَّلَامُ بِهِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾وَ َالَ تَعَالَى: ﴿وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ وَقَالَ اللهُ تَعَالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ، قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ بَرِئٌ مِنَ الْخَلَلِ، مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ، لَا لَحْنَ فِي أَلْفَاظِهِ وَلَا زَيْغَةَ فِي مَعَانِيهِ، وَهَذَا كُلُّهُ يَسْتَلْزِمُ كَمَالَ اعْتِدَالِهِ وَاسْتِقَامَتِه ِ وَقَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾
أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُ أَنْزَلَ القُرْآنَ ﴿قَيِّماً﴾ أَيْ ُمْستَقِيْمَاً غَـْيرَ ذِيْ عِوَجٍ، مُبَرَّءَاً مِنَ الزَّيْغِ، تَقُومُ بِهِ مَصَالِحُ الْعِبَادِ الدِّيْنِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَ ّةِ
يَهْدِيْ لِلَّتِيْ هِيَ أَقْوَمُ فِي عَالَمِ الضَّمِيْرِ وَالشُّعُورِ، بِالعَقِيْدَةِ الوَاضِحَةِ البَسِيْطَةِ الَّتِيْ لَا تَعْقِيْدَ فِيْهَا وَلَا غُمُوضَ، وَالَّتِي تُطْلِقُ الرُّوحَ مِنْ أَثْقَالِ الْوَهْمِ وَالْخُرَافَةِ، وَتُطْلِقُ الْطَّاقَاتِ الْبَشَرِيَّةِ الْصَالِحَةِ لِلْعَمَلِ وَالْبِنَاءِ، وَتَرْبِطُ بَيْنَ نَوَامِيْسِ الْكَوْنِ الطَّبِيْعِيَّة ِ وَنَوَامِيْسِ الفِطْرَةِ البَشَرِيَّةِ فِي تَنَاسُقٍ وَاتِّسَاقٍ.
وَيَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فِي التَّنْسِيْقِ بَينَ ظَاهِرِ الإِنسَانِ وَبَاطِنِهِ، وَبَينَ مَشَاعِرِهِ وَسُلُوكِهِ، وَبَينَ عَقِيْدَتِهِ وَعَمَلِهِ، فَإِذَا هِيَ كُلُّهَا مَشْدُودَةٌ إِلَى العُرْوَةِ الوُثْقَى الَّتِي لَا تَنْفَصِمُ، مُتَطَلِّعَةٌ إِلَى أَعْلَى وَهِيَ مُسْتَقِرَّةٌ عَلَى الأَرضِ.
وَيَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فِي مَيدَانِ العِبَادَةِ بِالمُوَازَنَةِ بَينَ التَّكَالِيفِ وَالطَّاقَةِ، فَلَا تَشُقُّ التَّكَالِيفُ عَلَى النَّفسِ حَتَّى تَمَلَّ وَتَيْأَسَ مِنَ الوَفَاءِ، وَلَا تَسْهُلُ وَتَتَرَخَّصُ حَتَّى تُشِيعَ فِي النَّفْسِ الرَّخَاوَةَ وَالاسْتِهْتَار َ، وَلَا تَتَجَاوَزُ القَصْدَ وَالاعْتِدَالَ وَحُدُودَ الاحْتِمَالِ.
وَيَهدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فِي عَلَاقَاتِ النَّاسِ بَعْضِهِم بِبَعْضٍ: أَفرَادَاً وَأَزْوَاجَاً، وَحُكُومَاتٍ وَشُعُوبَاً، وَدُوَلَاً وأَجْنَاسَاً، وَيُقِيمُ هَذِهِ العَلَاقَاتِ عَلَى الأُسُسِ الوَطِيْدَةِ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَأَثَّرُ بِالرَّأْيِ وَالهَوَى؛ وَلَا تَمِيْلُ مَعَ المَوَدَّةِ وَالشَنَآنِ؛ وَلَا تَصْرِفُهَا المَصَالِحُ وَالأَغْرَاضُ، الأُسُسِ الَّتِي أَقَامَهَا العَلِيمُ الخَبِيرُ لِخَلْقِهِ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ خَلَقَ، وَأَعْرَفُ بِمَا يَصْلُحُ لَهُم فِي كَلِّ أَرْضٍ وَفِي كُلِّ جِيْلٍ، فَيَهْدِيْهِمْ لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ فِي نِظَامِ الحُكْمِ وَنِظَامِ المَالِ وَنِظَامِ الاِجْتِمَاعِ وَنِظَامِ التَّعَامُلِ الدَّوْلِي اللَّائِقِ بِعَالَمِ الإِنْسَانِ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ فهَذِهِ هِيَ قَاعِدَتُهُ الأَصْلِيَّةُ فِي العَمَلِ وَالجَزَاءِ. فَعَلَى الإِيمَانِ وَالعَمَلِ الصَّالِحِ يُقيْمُ بِنَاءَهُ. فَلَا إِيمَانَ بِلَا عَمَلٍ، وَلَا عَمَلَ بِلَا إِيمَانٍ. الأَوَّلُ مَبْتُورٌ لَمْ يَبْلُغْ تَمَامَهُ، وَالثَّانِي مَقْطُوعٌ لَا رَكِيْزَةَ لَهُ. وَبِهِمَا مَعَاً تَسِيرُ الحَيَاةُ عَلَى الَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.. وَبِهِمَا مَعَاً تَتَحَقَّقُ الهِدَايَةُ بِهَذَا القُرْآنِ"
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنهُ ، قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ، فَقَالَ: (اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلاَّ حَقٌّ )
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا). قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: فَإِنَّكَ تُدَاعِبُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: (إِنِّي لاَ أَقُولُ إِلاَّ حَقًّا)
وَالْحَقُّ فِي الْأَحَادِيثِ نَكِرَةٌ مَسْبُوقَةٌ بِنَفْيٍ، فَهُوَ شَامِلٌ لِكُلِّ أَفْرَادِ الْحَقِّ فِي الْحُكْمِ، وَالْقَضَاءِ وَالْفَتْوَى، وَالْقَصَصِ وَالْمَوَاعِظِ، وَالْوَعْدِ، وَالْخَبَرِ، وَالطَّلَبِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ بَرِيئًا مِنَ الضَّلَالِ.
وَعَنْ المِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ، وَمِثْلَهُ مَعَهُ أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَانُ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ، أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمْ لَحْمُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ، وَلَا كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السَّبُعِ، وَلَا لُقَطَةُ مُعَاهِدٍ، إِلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا صَاحِبُهَا، وَمَنْ نَزَلَ بِقَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَقْرُوهُ فَإِنْ لَمْ يَقْرُوهُ فَلَهُ أَنْ يُعْقِبَهُمْ بِمِثْلِ قِرَاهُ)
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ)
مِنْ فَوَائِدِ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ السُّنَّةَ وَحْيٌ كَمَا الْقُرْآنُ، وَكِلَاهُمَا حَقٌّ خَالِصٌ، وَعَدْلٌ كَامِلٌ، وَمَصْلَحَةٌ تَامَّةٌ.
الْمِحْوَرُ الثَّاني: الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ عَالَمِيُّ الرِّسَالَةِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾(
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: الْقُرْآنُ ذِكْرٌ لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
«لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» .. هَذَا النَّصُّ مَكِّيٌّ، وَلَهُ دَلَالَتُهُ عَلَى إِثْبَاتِ عَالَمِيَّةِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ مُنْذُ أَيَّامِهَا الْأُولَى. لَا كَمَا يَدَّعِي بَعْضُ «الْمُؤَرِّخِين َ» غَيْرُ الْمُسْلِمِينَ، أَنَّ الدَّعْوَةَ الْإِسْلَامِيَّ ةَ نَشَأَتْ مَحَلِّيَّةً، ثُمَّ طَمَحَتْ بَعْدَ اتِّسَاعِ رُقْعَةِ الْفُتُوحِ أَنْ تَكُونَ عَالَمِيَّةً. فَهِيَ مُنْذُ نَشْأَتِهَا رِسَالَةً لِلْعَالَمِينَ.
طَبِيعَتُهَا طَبِيعَةٌ عَالَمِيَّةٌ شَامِلَةٌ، وَوَسَائِلُهَا وَسَائِلُ إِنْسَانِيَّةٌ كَامِلَةٌ وَغَايَتُهَا نَقْلُ هَذِهِ الْبَشَرِيَّةِ كُلِّهَا مِنْ عَهْدٍ إِلَى عَهْدٍ، وَمِنْ نَهْجٍ إِلَى نَهْجٍ عَنْ طَرِيقِ هَذَا الْفُرْقَانِ الَّذِي نَزَّلَهُ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، فَهِيَ عَالَمِيَّةٌ لِلْعَالَمِينَ وَالرَّسُولُ يُوَاجَهُ فِي مَكَّةَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْمُقَاوَمَة ِ وَالْجُحُودِ
الْمِحْوَرُ الثَّالِثُ: الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ شُمُولِيُّ الْأَحْكَامِ:
َقَالَ الْجَصَّاصُ: «قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ يَعْنِي بِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ بِالنَّصِّ وَالدَّلَالَةِ، فَمَا مِنْ حَادِثَةٍ جَلِيلَةٍ وَلَا دَقِيقَةٍ إلَّا وَلِلَّهِ فِيهَا حُكْمٌ قَدْ بَيَّنَهُ فِي الْكِتَابِ نَصًّا أَوْ دَلِيلًا، فَمَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ r فَإِنَّمَا صَدَرَ عَنْ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ وقوله تعالى: ﴿وإنك وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، وَقَوْلِهِ: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ فَمَا بَيَّنَهُ الرَّسُولُ فَهُوَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ مِنْ تِبْيَانِ الْكِتَابِ لَهُ لِأَمْرِ اللَّهِ إيَّانَا بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَمَا حَصَلَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاع فَمَصْدَرُهُ أَيْضًا عَنْ الْكِتَابِ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ دَلَّ عَلَى صِحَّةِ حُجَّةِ الْإِجْمَاعِ وَأَنَّهُمْ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالٍ، وَمَا أَوْجَبَهُ الْقِيَاسُ وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ وَسَائِرُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ وَقَبُولِ خَبَرِ الْوَاحِدِ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ تِبْيَانِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ أَجْمَعَ، فَمَا مِنْ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ إلَّا وَفِي الْكِتَابِ تِبْيَانُهُ مِنْ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا»
وقال القرطبي: «وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ طَعَنَ فِي الدِّينِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِكُمْ: ﴿مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ فَأَيْنَ ذِكْرُ التَّوَابِلِ الْمُصْلِحَةِ لِلطَّعَامِ مِنَ الْمِلْحِ وَالْفُلْفُلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ لَهُ فِي قَوْلِهِ: «بِما يَنْفَعُ النَّاسَ»
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾
قال القرطبي: « (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) مِمَّا يَحْتَاجُ الْعِبَادُ إِلَيْهِ مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ»
وَقَدْ أَفَادَ الشَّاطِبِيُّ: أَنَّ تَعْرِيفَ الْقُرْآنِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ كُلِّيٌّ لَا جُزْئِيٌّ، وَقَدِ اسْتُدِلَّ عَلَى كَمَالِ الشَّرِيعَةِ بِأَدِلَّةٍ، مِنْهَا:
1. الِاسْتِقْرَاءِ : وَذَلِكَ أَنَّ مَنِ اسْتَقْرَأَ السُّنَّةَ وَجَدَهَا عَلَى كَثْرَةِ نُصُوصِهَا وَكَثْرَةِ مَسَائِلِهَا بَيَاناً لِلْكِتَابِ، وَلِذَلِكَ وَصَفَهَا اللَّهُ سبحانه وتعالى بِقَوْلِهِ: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾( [25]).
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ جَمَعَ الْكُلِّيَّاتِ، وَلِذَلِكَ احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى السُّنَّةِ لِبَيَانِهِ، فَمِنْ كُلِّيَّاتِ الْقُرْآنِ مَثَلاً الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَالْجِهَادُ وَالنِّكَاحُ وَالْعُقُودُ وَالْقَصَاصُ وَالْحُدُودُ وَغَيْرُهَا كَثِيرٌ، وَبَيَانُهَا إِنَّمَا جَاءَ فِي السُّنَّةِ.
2. أَنَّ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ الْمَعْنَوِيَّة ِ وَهِيَ الضَّرُورِيَّات ُ وَالْحَاجِيَّات ُ وَالتَّحْسِينِي َّاتً رَاجِعَةٌ إِلَى الْقُرْآنِ، وَقَدْ تَضَمَّنَهَا عَلَى الْكَمَالِ.
3. أَنَّ الْأَدِلَّةَ الْمَعْرُوفَةَ وَهِيَ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ تَرْجِعُ إِلَى الْقُرْآنِ، فَالسُّنَّةُ تَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾
وَالْإِجْمَاعُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾
وَالْقِيَاسُ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾
وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾
وعَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَاتِ وَالمُسْتَوْشِم َاتِ، وَالمُتَنَمِّصَ اتِ، وَالمُتَفَلِّجَ اتِ لِلْحُسْنِ، المُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ تَعَالَى» مَالِي لاَ أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّم وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه :« لَقَدْ تَرَكَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يُقَلِّبُ طَائِرٌ جَنَاحَيْهِ فِي السَّمَاءِ إِلَّا ذَكَرَنَا مِنْهُ عِلْمًا»
المِحْوَرُ الرابع: الْوَحْيُ الْمُنَزَّلُ يَشْتَملُ عَلى أُصُولٌ عَامَّةٌ وَقَوَاعِدُ كُلِّيَّةٌ تَسْتَوْعِبُ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ.
أَفَادَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الْخِطَابَ الْقَدَرِيَّ الشَّرْعِيَّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَحْكَامِ حَوَادِثِ الْأَنَامِ أَمْراً وَنَهْياً، وَإِذْناً وَعَفْواً.
ثَانِيهِمَا: أَنَّ الذِّكْرَ القَدَرِيَّ الْكَوْنِيَّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْحَوَادِثِ عِلْماً وَكِتَابةً وَقَدْراً، فَعِلْمُ اللهِ وَكِتَابُهُ وَقَدَرُهُ قَدْ أَحْصَى جَمِيعَ أَفْعَالِ عِبَادِهِ.
وَأَمْرُهُ سبحانه وتعالى، وَنَهْيُهُ، وَإِبَاحَتُهُ، وَعَفْوُهُ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، فَلَا يَخْرُجُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ عَنْ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ: الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ، أَوِ الشَّرْعِيِّ الْقَدَرِيِّ.
فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ جَمِيعَ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْإِبَاحَاتِ ، وَجَمِيعَ مَا عُفِيَ عَنْهُ، وَبِهَذَا كَانَ الدِّينُ كَامِلاً كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾
وَلَكِنْ قَدْ يَقْصُرُ فَهْمُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عَنْ فَهْمِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَعَنْ وَجْهِ الَّدَلَالَةِ وَمَوْقِعِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْأُمَّةَ عَلَى مَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْفَهْمِ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِذْ لَوْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةً لَمَا خَصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ سُلَيْمَانَ بِفَهْمِ الْحُكُومَةِ بِالْحَرْثِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي مُوسَى فِي كِتَابِهِ إِلَيْهِ: "الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا يُخْتَلَجُ فِي صَدْرِكَ مِمَّا لَمْ يَبْلُغْكَ فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ"
وَعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيٍّ رضي الله عنه: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الوَحْيِ إِلَّا مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ قَالَ: «لاَ وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي القُرْآنِ..»
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ رضي الله عنه : « أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمُنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ»
وَلَقَدْ دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، فَكَانَ إِمَامًا فِي عِلْمِ الْقُرْآنِ.
وَلَا يُقَالُ: قَدْ وَجَدْنَا مِنَ النَّوَازِلِ وَالْوَقَائِعِ الْمُتَجَدِّدَة ِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي السُّنَّةِ نَصٌ عَلَيْهِ، وَلَا عُمُومٌ يَنْتَظِمُهُ، فَأَيْنَ الْكَمال فِيهَا؟
فالْجَوَابُ فِي الْأَدِلَّةِ الْآتِيَةِ:
أَوَّلًا: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، فَالْكَمَالُ فِي الآيَةِ مَصْرُوفٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ، وَأُصُولِهَا، فَلَمْ يَبْقَ في الدِّينِ قَاعِدَةٌ يُحْتَاجُ إِلَيْهَا فِي الضَّرُورِيَّات ِ وَالْحَاجِيَّات ِ والتحسينيات إِلَّا وَقَدْ بُيِّنَتْ غَايَةَ الْبَيَانِ .
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ ؒ: فَمَا شَيْءٌ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَهَى عَنْهُ أَوْ حَلَّلَهُ أَوْ حَرَّمَهُ إلَّا بَيْنَ ذَلِكَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ ، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ ، فَقَدْ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَا أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ إِلَّا لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ بِالْأَوْلَى.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: إِنَّ اللهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ بَيَّنَا الْحَلَالَ عَلَى تَمَامٍ وَالْحَرَامَ عَلَى كَمَالٍ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ اكْتَنَفَهَا الْخَفَاءُ عَلَى تَفَاوُتٍ فَكَانَتْ مَثَارَ خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَبْلُغُ كَبِدَ الْحَقِيقَةِ مِنْهَا إِلَّا الرَّاسِخُونَ، فَعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لاَ يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ: كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلاَ إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلاَ وَإِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً: إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ ".
وَرُغْمَ ذَلِكَ فَإِنَّ اللهَ جَلَّ وَعَلَا أَمَرَ عِبَادَهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْمُشْتَبِهَةِ أَنْ يَرُدُّوهَا إِلَى كِتَابِهِ الْقُرْآنِ، وَإِلَى سُنَّةِ نَبِيِّهِ الْعَدْنَانِ؛ لِيَتَقَرَّرَ لِلْأَنَامِ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ وَالْأَزْمَانِ أَنَّ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ يُحِيطَانِ بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ.
يتبعُ .... |