للجهادشروط وأحكام وضوابط
د. علي بن يحيى الحدادي- إمام وخطيب جامع أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر بالرياض
مما لا شك فيه أنالجهاد في سبيل الله من أفضل القربات وأجلّ الأعمال الصالحة، والشواهد من الكتاب والسنة كثيرة جداً، ولست بصدد ذكرها الآن.
غير أنه يجب أن يعلم أنالجهاد الذي وعد الله عليه ووعد عليه رسوله بالوعود العظيمة، وادخر لأصحابه الخير الكبير هوالجهاد الشرعي الذي يكون خالصاً لله تعالى، موافقاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فليس كل ما سماه الناس جهاداً يكون جهاداً، كما أنه ليس كل ما سماه الناس عبادة يكون عبادة صحيحة.
فمن الناس مثلاً من يتقرب إلى الله بالشركيات والمبتدعات ويسمي ما يفعله منذلك عبادة يرجو بها الثواب، والنجاة من العذاب، فهل تكون هذه الضلالاتبمجرد التسمية الطيبة والنية الطيبة، هل تكون بمجرد ذلك عبادة صالحةمقبولة؟ كلا؛ فإن العبادات مبناها على التوقيف، أي أننا لا نتعبد للهبعبادة إلا إذا دَلّ عليها الكتاب والسنة؛ لأن العبادة طريق موصل إلى اللهتعالى، والطريق إلى الله أمر غيبي لا يُعرف إلا من طريق الوحي.
وفي تقرير هذا الأصل العظيم يقول النبي صلى الله عليه وسلم (من عمل عملاًليس عليه أمرنا فهو رد)، أي من عمل عملاً من أمور الدين لا يوافق شريعةالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مردود على صاحبه ولو أزهق فيه نفسه، ولو أتلففيه ماله، ولو فارق من أجله أهله ووطنه؛ فالعبرة عند الله ليست بكثرةالعمل ولا بشدة النصب، وإنما العبرة بإحسان العمل كما قال تعالى {.. لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا..}، ولم يقل (أيكم أكثر عملاً)،وإحسان العمل هو بإخلاص القصد والنية لله، وإخلاص المتابعة والموافقةلرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وشروطالجهاد وأحكامهوضوابطه جاءت في الكتاب والسنة، وأفاض في بيانها أهل الرسوخ في العلم حتى قامت الحجة ووضحت المحجة.
ولكن من الناس مَن يتبع هواه، فيرى في أحكامالجهاد على ضوء الشريعة تقييداً لجموحه وتحطيماً لطموحه وإفساداً لمآربه فماذايفعل؟ إنه يقوم بالكر عليها وإبطال دلالاتها بالتأويلات الفاسدة ولَي أعناقالنصوص واختلاق المعاذير.
ومثالاً على ذلك رأينا خوارج العصر يسفكون الدماء المعصومة في بلادالمسلمين، وينقضون البيعة ويستحلون دماء رجال الأمن وغيرهم، ثم هم يسمونهذا العمل جهاداً، ويسمون من قُتل منهم شهيداً ومَن وقُتل من خصومهمطاغوتاً مصيره إلى النار وبئس القرار حسب ما يزعمون.
وإذا نظرنا في كلام الراسخين في العلم كالشيخين ابن باز وابن عثيمينوأمثالهما وجدناهم يضللون هذه الأعمال وأهلها، ويحكمون عليها بالفساد،ويحذرون منها ومن أهلها أشد التحذير وأعظمه.
فما الفرق بين حكم أهل العلم وأهل الهوى والجهل؟
الفرق أن العلماء طبقوا على هذه الأعمال نصوصالشريعة وقواعدها وطريقة أهل السنة فبان لهم ضلالها وانحرافها. وأولئكسلكوا طريق أهل الأهواء من قبلهم بتحريف معاني النصوص وتنزيلها على غيرمواقعها كما فعلت الخوارج الأولى من قبل.
بعد هذا التمهيد أقول: إن من المشاكل التي يواجهها مجتمعنا في شبابه هو أنهم يتعرضون لدعوات قوية من أجل السفر إلى العراق للمشاركة في الحرب باسمالجهاد وباسم طلب الشهادة وباسم الذب والدفاع عن بلاد المسلمين ونحو ذلك من الشعارات البراقة والأساليب الخلابة التي تستثير العواطف.
وهذه مشكلة كبيرة ذهب ضحيتها كثير، ولا يزال في قائمة الانتظار - وللأسف - أيضاً كثير.
أما لماذا يمثل ذهاب شبابنا إلى العراق مشكلة؟
فالجواب يمكن اختصاره في النقاط التالية:
أولاً:أنه عمل مخالفللشريعة الإسلامية، وكفى بمخالفة الشريعة مفسدة؛ لأن مخالفة الشرع هي الداءالذي بسببه يحصل كل فساد في الأرض وبه يقع كل بلاء.
وذلك أنالجهاد في الشرع موكول بولاة الأمور؛ فهم الذين يعلنون الحرب، وهم الذين يعلنونالسلم كما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون من بعده.
وعلى هذا اتفق أهل السنة والجماعة ولم يخالف فيه إلا أهل الأهواء؛ ولذايذكر أئمة السنة هذه المسألة في كتب العقيدة مع كونها مسألة فقهية؛ لأنهاصارت من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدعة.
وخروج الشباب إلى العراق لا يتوافر فيه هذا الشرط، بل على العكس من ذلك،فدولتهم وولي أمرهم يمنعهم منه ويحجزهم عنه - رحمة بهم ورعاية لهم - وهميتفلتون عليه تفلت الفراش في النار.
وكذلك أيضاً نجد أن كبار علماء الأمة يحذرون ويحرمون الخروج إلى العراق،وهؤلاء لا يصغون إلى تلك الفتاوى ولا يلتفون إليها من أجل مقالات تحريضيةوأشرطة تهييجية وجلسات تخريبية في استراحات وبرارٍ يتصدرها جهال أو مغرضونيلبسون لباس العلم والنصح.
وكذلك تجد أن كثيراً ممن يخرج يخرج بدون إذن والديه أو أحدهما بل يتحايلعليهما ويكذب عليهما بزعم الذهاب للعمرة أو لرحلة ثم لا يكتشفون الحقيقةإلا إذا قارب الخروج من الحدود أو تجاوزها، فأين أمر النبي صلى الله عليهوسلم لمن أراد أن يشارك معه فيالجهاد أن يرجع ويستأذن والديه أو يقيم عندهما فيجاهد فيهما بالقيام ببرهما.
ثانياً:أن الذييجري في العراق ليس جهاداً بما تعنيه الكلمة - شرعاً - وإنما هي فتنمدلهمة، اختلطت فيها الأمور والرايات ما بين تكفيريين ورافضة وبعث ويهودونصارى وأحزاب وأطراف كل له مآربه السياسية والاقتصادية والدينية وغير ذلكمن الأهواء والمطامع، ومنهم المسكين الضعيف الذي قصارى جهده أن يدفع عننفسه إذا دُخل عليه بيته لا يملك إلا ذلك.
ودخول أرض الفتن مما حذر منه السلف الصالح؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أمرباجتناب الفتن وأمر بالنأي عنها لا أن يسعى إليها المسلم برجليه ليكونوقوداً لها. فكيف يزج بأبنائنا إلى هذه الأفران الملتهبة ليكونوا حطباًتتقد عليهم تلك النار ثمّ لا يحصّلون للإسلام ولا لأنفسهم نفعاً بل يضرونأنفسهم وغيرهم في الدنيا - والله أعلم - بما يجازَون به في الآخرة.
ثالثاً:أن كثيراًممن يذهب إلى العراق يكون مصيره إما القتل بيد من لا يرغب فيه أو بأن يفجرفي نفسه بعلمه أو بغير علمه أو يتحول إلى سلعة يساوم عليه من يدفع فيه أكثرأو أنه يعود إلى وطنه بعقيدة فاسدة مبنية على التكفير لحكومته وعلماءبلده، ولديه الاستعداد النفسي للمشاركة في التفجير والقتل والاغتيالوالتدمير والسعي في الأرض بالفساد في بلده السعودية أو في غيرها من بلادالمسلمين بسبب ما تلقّاه من الدروس الآثمة على أيدي التكفيريين في العراق.
رابعاً:إن منالمقاصد التي يحرص عليها المحرضون لمشاركة شبابنا في فتنة العراق هي إحراجالدولة مع أطراف دولية قوية، مؤثرة في الأحداث العالمية، تقتضي السياسةالشرعية درء عدوانها واتقاء شرها بالتي هي أحسن لا بالتحرش بها واستجلابعداوتها وخطرها.
فرؤوس الفتنة في الظاهر محرضون على الجهاد، وفي الباطن - الذي تدل عليهالأقوال والأفعال والنتائج - فُجّار يكيدون لبلاد التوحيد والسنة لتقويضهاوتحويلها مسرحاً للفتن والفوضى.
ويكون شبابنا في الظاهر مجاهدين، وفي حقيقة الأمر أدوات مشلولة التفكيروالوعي واتخاذ القرار، لا تملك إلا تنفيذ ما يوكل إليها، الذي ظاهرهالجهاد وباطنه السعي في تدمير بلدهم وكيانهم الذي لا يوجد له مثيل على وجه الأرضاليوم من حيث ظهور الخير والقيام بأمر الشرع والعناية بالتوحيد والسنةوالقضاء على مظاهر الشرك والوثنية.
أيها الشباب الطيب:
إنّ العلماء حين قرروا تحريم سفر الشباب إلى العراق لم يفتوا بذلك إلا لأنه الحكم الذي تدل عليه الشريعة نصوصاً وقواعد ومقاصد.
ولكن أصحاب الأهواء الفاسدة يصدونكم عن الإصغاء إلى هذه الفتاوى بالتلبيساتالمنكرة بدعواهم أن هذه الفتاوى إنما تصدر عن ضغط من قِبل الدولة أو أنهؤلاء العلماء تُصوَّر لهم الأمور على غير حقيقتها أو أنها وجهة نظر لايلزم العمل بها.
وهؤلاء الملبسون هم قُطّاع طرق في حقيقة الأمر، يقطعون الشباب عن الوصولإلى أحكام الشرع وإلى عقيدة أهل السنة، ويصرفونهم إلى طرق الخوارجوالمعتزلة وأشباههم ممن لا يسمعون ولا يطيعون لولاة الأمور ولا يقدرون ولايحترمون علماء السنة، وإنما يتهمونهم بالخيانة والجهل والتلبيس، هذا حالهممنذ أكثر من ألف وثلاثمائة سنة وإلى يومنا هذا، فاتقوا الله أيها الشباب فيأنفسكم واسمعوا وأطيعوا لولاة أمركم، واحترموا أهل الرسوخ من أهل العلموالسنة، وأحسنوا فيهم ظنونكم.
تفقهوا في الدين واجتهدوا في تحصيل العلوم النافعة والخبرات المفيدة التيتسهمون من خلالها في الحفاظ على دينكم والقيام بنهضة وطنكم الذي هو اليوموطن الإسلام ومأرزه.
وأنتم يا معشر الآباء عليكم مسؤولية عظيمة في الحفاظ على أبنائكمومتابعتهم، ومراقبة ومعرفة أصحابهم، ومواصلة النصح لهم؛ حتى لا يقعوا فريسةهذه التنظيمات والجماعات نتيجة الغفلة عنهم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
منقول للفائدة