قال محققوا المسند ( طبعة دار الرسالة / المشرف العام على التحقيق الشيخ شعيب الأرنؤوط ) :

وقد تجلَّت عنايةُ العلماء به في الوجوه التالية :
أ- حرصهم على سماعه وقراءته :
فقد كان لدى أئمة علم الحديث رَغْبَةٌ شديدةُ في تحصيل قراءته ، والظَّفَر بسماعه ، حتى إذا ظَفِر أحدُهم بسماع جزء منه لم يستطِعْ أن يُخفيَ فرحته بتحصيله ، فها هو الحافظُ المتقن أبو موسى المديني يقول (2) : إن مما أنعم الله علينا أن رَزَقَنا سماعَ كتاب " المسند " للإِمام الكبير إمام الدِّين أبي عبد الله أحمد .
ويُصوِّر الحافظ أبو موسى ما كان يَجِدُه المحدث في نفسه من غِبْطَةٍ وفخرٍ إذا وقع له جزء من أجزاء هذا " المسند " فيقول (2) : ولَعَمْري إن مَن كانَ مِن قَبْلِنا مِن الحفاظ يتبجَّحون بجزء واحد يَقَعُ لهم من حديث هذا الإمام الكبير .
ويستشهد أبو موسى المديني لِقوله هذا بذكر ما قاله أبو محمد المُزَني - وهو بشهادة المديني من الحفاظ الكبار المكثرين - لرجلٍ قَدِم عليه من بغداد كان إقام بها على كتابة الحديث إذ سأله أبو محمد المزنيُّ وذلك في سنة ستٍّ وخمسين وثلاث مئة عن فائدته ببغداد ، وعن باقي إسناد العراق ،
__________
(1) " خصائص المسند " للمديني ص 22 (طبعة أحمد شاكر في مقدمة الجزء الأول من المسند) .
(2) في " خصائص المسند " ص 20 .


فقال في جُملَة ما ذكر : سمعتُ " مسند " أحمد ابن حنبل رحمه الله تعالى من أبي بكر بن مالك في مئة وخمسين جزءاً ، فعَجِبَ أبو محمد المزني من ذلك ، وقال : مئة وخمسون جزءاً من حديث أحمد ابن حنبل ! كنا ونحن بالعِراقِ إذا رأينا عندَ شيخٍ من شيوخنا جزءاً من حديث أحمد ابن حنبل قَضَيْنا العجبَ من ذلك ، فكيف في هذا الوقت هذا " المسند " الجليل !
ثم ذكر المديني كيف أن الحاكمَ لم يبدأ بتأليف كتابه " المستدرك على الصحيحين " إلا بعد أن أقام في بغداد أشهراً ، وسمع جملةَ " المسند " من أبي بكر بن مالك القَطِيعي .
ومن طريف ما ذكره أبو موسى المدينيُّ في شِدة حِرْصِ العلماء على سماع " المسند " وعنايتهم به ما رواه عن أبي بكر القطيعي - وهو الذي انتشر " المسند " عنه - قال : رأيتُ أبا بكر أحمد بن سلمان النَّجَّاد (1) في النوم وهو على حالة جميلة ، فقلت : أيَّ شيء كان خَبَرُك ؟ قال : كل ما تحبُّ ، الزم ما أنت عليه وما نحن عليه ، فإنَّ الأمرَ هو ما نحن عليه وما أنتم عليه ، ثم قال :
بالله إلا حَفِظْتَ هذا " المسند " ، فهو إمامُ المسلمين وإليه يَرجِعون ، وقد كنتُ قديماً أسألك بالله إن أَعَرْت منه أكثر من جزء لمن تعرفه ليَبقى .
ومما يُدهِشُ أيضاً أن بعضَهم قد حَفِظَه كُلَّه ، فقد سُئِل الشيخ الإِمام الحافظ أبو الحسين علي بن الشيخ الإِمام الحافظ الفقيه محمد اليُونِينِي رحمهما الله تعالى - فيما رواه ابن الجَزَري (2) - : أنت تحفظُ الكُتُبَ الستَّة ؟
فقال : أحفَظُها وما أحفظها ، فقيل له : كيف هذا ؟ فقال : أنا أحفظُ " مسند "
__________
(1) هو الإمام المحدث الحافظ الفقيه المفتي شيخ العراق ، مترجم في " سير أعلام النبلاء " 15 / 502 .
(2) في " المصعد الأحمد " ص 32 (مقدمة الجزء الأول لمسند أحمد) .


أحمد ، وما يفوتُ " المسندَ " من الكتب الستة إلا قليلٌ ، أو قال : وما في الكتب هو في " المسند " يعني إلا قليل ، وأصلُه في " المسند " ، فأنا أحفظها بهذا الوجه (1) .
وإن كان لا يفوتُ " المسند " من الكتب الستة إلا القليل ، فإن مَنْ وَقَع له هذا " المسند " لم تَعُدْ به حاجةٌ إلى غيره ، واستغنى به عما سواه ، وهذا ما حصل لأبي بكر القطيعي ، إذ قال - فيما رواه المديني (2) - : حضرتُ مجلس يوسف القاضي (3) سنة خمس وثمانين ومئتين ، أَسْمَعُ منه كتاب " الوقوف " ، فقال لي : مَنْ عنده " مسند " أحمد ابن حنبل و " الفضائل " أَيْش يعمَلُ هاهنا ؟
ويكفي لِتعليل هذه العناية الكبرى التي لقيها هذا " المسند " أن نَذْكُرَ ما قاله فيه ابنُ الجزري (4) حين وصفه فقال : هو كتابٌ لم يُرْوَ على وجه الأرض كتابٌ في الحديث أعلى منه .
__________
(1) قلنا : وممن يغلب على ظننا أنه كان يحفظ " المسند " ، وكانت أحاديثُه على أطراف ألسنتهم شيخُ الإسلام ابن تيمية أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الدمشقي المتوفى سنة (728 هـ) ، والإمام المحدث شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزرعي الدمشقي الشهير بابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751 هـ) ، والحافظ أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير الدمشقي المتوفى سنة (774 هـ) ، والإمام الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن شهاب الدين الدمشقي الشهير بابن رجب المتوفى سنة (795 هـ) .
(2) في " خصائص المسند " ص 24 .
(3) هو الإمام الحافظ الفقيه يوسف بن يعقوب أبو محمد البغدادي القاضي ، المتوفى سنة 297 ، مترجم في " السير " 14 / 85 .
(4) في " المصعد الأحمد " ص 29 ، 30 .