1- مقدمة فى ضرورة البحث :

في ظل التحديات الشرسة والعقبات الكئود التى تواجه الأمة الإسلامية ، يغدو ترسيخ العنصر الإيماني ، وإقامة العدل الاجتماعي في المجتمعات الإسلامية ، ضرورة حيوية ومطلبا اساسياً – ليس فقط بهدف إن تنهض الأمة من عثراتها – بل لتستشرف أيضا آفاق المستقبل ، بتقديم الحلول التى تمكنها من الانطلاق الحضاري حتى تأخذ مكانها اللائق بها في عالم اليوم ، وتسترد مكانتها الحضارية التى كانت لها ، وتشارك بفاعلية فى ترسيخ دعائم الأمن والسلام والاستقرار فى العالم من أجل خير البشرية كلها ، خاصة وأنها تملك من أرصدة التقدم وإمكانات النهوض مالا يملكه كثير من الأمم ، هذا فضلاً عن رصيدها الدينى وإسهامها الحضارى .

ويلخص المفكر الإسلامى الدكتور محمود حمدى زقزوق التحديات والهموم الكثيرة التى تواجه الأمة على مستويين : تحديات داخلية – وتحديات خارجية .

ويذكر أهم التحديات الداخلية المتمثلة فى :

- ظاهرة التخلف الحضاري وانخفاض مستوى الوعى .

- ظاهرة التشرذم والضعف السياسي .

- ظاهرة الفهم الخاطئ للإسلام ، بالرغم من كونه " دين الاعتدال والوسطية " .

ويؤكد إن جميع التحديات والهموم الداخلية ، مترتبة أساساً على ظاهرة التخلف الحضاري وانتشار الأمية وانخفاض مستوى الوعي .


أما التحديات الخارجية فيلخصها في :

الترويج لنظرية صراع الحضارات .
التطورات العلمية المذهلة ومشكلات توطين التكنولوجيا وأدوات التنمية .


وقد تناول جمع كبير من المفكرين المسلمين والمثقفين المصريين والعرب ظاهرة النظام العالمي الجديد وتحدثوا بالتفصيل عن بعض آثار وتداعيات العولمة واتفاقيات الجات خاصة على الدول الإسلامية ومعظمها ينتمي إلى دول العالم الثالث ، فتكلموا عن احتكارية الملكيات الفكرية ووضع القيود على التكنولوجيا المتطورة من قبل الدول الغنية المروجة للعولمة ، كما بينوا أثر العولمة في تهميش دور الفرد ودور الدولة ، وابتعاد الحكومات عن التدخل في النشاط الاقتصادي وما يترتب على ذلك من تفاقم التفاوت الاقتصادي والاجتماعي ، وتقليص رعاية الدولة لمواطنيها ، وعجز الحكومات عن مواجهة تقلبات وأزمات الدورات الاقتصادية ، ومشاكل بورصات المال العالمية ، وذلك في ضوء انفتاح الاقتصاديات الوطنية على السوق العالمية المفتوحة ، ومغامرات رأس المال المتوحش ومضاربته ، هذا فضلاً عن الأنشطة المحمومة للشركات متعدية الجنسيات ، متعددة الأنشطة ، الساعية وراء الأرباح المادية والمكاسب المالية الهائلة ، ناهيك عن التداعيات الثقافية والاجتماعية والإعلامية التي تؤثر سلباً على المجتمعات ، وصياغة الرأي العام فيها ، واقتحام خلاياها الأسرية من خلال أجهزة البث الفضائي وشركات الإعلام العالمية ووكالات الأنباء ، والشبكات الإلكترونية والوسائط المتعددة ، ناشرة ومروجة لقيم وأنماط وسلوكيات معمقه للاغتراب ، مكرسة للنفعية والمادية ، ومصيغة لنموذج الإنسان العولمى النمطي الاستهلاكي ، وأثر ذلك كله على عوامل الشخصية ومقومات الهوية .2
ويذكر المفكر الإسلامي د. محمد عمارة في بحثه عن " المستقبل الاجتماعي للأمة الإسلامية " – إحصاءات وأرقاما خطيرة تنطوي على حقائق مذهلة ومخيفة عن " عبثية " الرأس مالية المتوحشة التي تحكم عالمنا من خلال العولمة وسياسات الهيمنة ، فيقول :

" أول تجارة فى عالم هذه الرأسمالية المتوحشة هي تجارة السلاح .. تليها تجارة المخدرات .. تليها تجارة الدعارة : وما ينفق على الخمور والقطط والكلاب هو إضعاف ما ينفق على الصحة والتعليم والغذاء : فـ 87 بليون دولار هي حجم الإنفاق على التسليح و 400 بليون دولار هي حجم الإنفاق على المخدرات ، و 105 بليون دولار هي حجم الإنفاق على القطط والكلاب المنزلية في أوربا وأمريكا وحدهما ، بينما لا يزيد ما ينفق على التعليم كله في العالم ، عن 6 بلايين دولار !

وما ينفق على التغذية والصحة معا لا يتعدى 13 بليوناً !

ويستطرد الأستاذ الدكتور محمد عمارة فيقول :

" إن 225 فردا من أبناء الشمال يملكون ما يساوى ملكية مليارين ونصف المليار من أبناء الجنوب ، و20% هم أبناء الحضارة الغربية – سكان الشمال – يستهلكون 86% من خيرات الإنتاج العالمي .

بينما يعيش 80% من البشر – في الجنوب – على 14% فقط من ثمرات الاقتصاد العالمي..ولم يقف هذا الخلل الفاحش عند هذه المعالم الكالحة في وحشيتها . وإنما انعكس في صورة نزيف " الديون وفوائدها الفاحشة " لحساب القلة الغنية ، وعلى حساب 80% من سكان العالم .. فالشركات متعددة الجنسيات وعابرة القارات تقترض الدولارات من أغنياء " وول سترين " بفائدة 6% ، لتقرضها لفقراء الجنوب بفائدة تتراوح بين 20% و 50% ، حتى غدت صادرات الفقراء – 80% من سكان العالم – لا تكاد تفي بسداد فوائد الديون وخدمتها .. وهذا التفاوت المتوحش بين الشمال والجنوب ، نجده متجسداً في داخل حضارات الجنوب – بين تخمة الترف وبين الفقر المدقع – ففي داخل الحضارة الإسلامية تتفاوت دخول الأفراد ما بين 31.165 دولار و 100 دولار فقط لا غير " .3

على ضوء ما سبق ، فإن الحديث عن الحقيقة الإيمانية ، ومبادرة الأمة بالتغيير ، والعودة إلى منابعها الإيمانية ، يصير واجباً لازماً وفريضة على كل مسلم ومسلمة ، فالله سبحانه " لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ، وهذا هو المنطلق الأول والأساس المكين الذي يمكن أن ننطلق من ثوابته الوضاءة الراسخة ، لنتحدث عن العلاج والإصلاح ، ومستقبل الأمة الإسلامية بصفة عامة ، مروراً بتأكيد قيمة الفرد وإعلاء مكانته التي أقرتها الأديان السماوية ، وعدم تهميشه أو اعتباره مجرد أداة إنتاج أو مصدر استهلاك ، وإقامة دعائم العدل السياسي و الاجتماعي الذي هو منطلق للتقدم الاقتصادي ، وتأشيرة مرور لاعتلاء مكانة متميزة ، وإحراز منزلة متقدمة بين الكيانات السياسية والاقتصادية الضخمة التي تحكم عالمنا ، وتؤثر بفاعلية في صياغة القرار العالمي السياسي والاقتصادي والإعلامي ، وإلا فستظل هذه ألأمة واقفة حيرى على مفترق الطرق ، لا تهتدي لدرب ، ولا تتضح لها معالم طريق ، فتغدو هكذا في مهب الريح ، قصعة بتناوشها الطامعون ، ويتناوب عليها المتوحشون ، فى عالم صار لا يحترم إلا القوة ، ولا يتنازل أو يتفاوض إلا أمام الأقوياء .


2- المقوم الإيمانى والعدل الاجتماعى : علاقة السماء بالأرض :


تقوم منظومة الدين الإسلامى على دعامتين : إيمان وإسلام ، عقيدة وشريعة ، وتتضمن هذه المنظومة الشاملة المتكامل نظماً وانسقة عقديه واخلاقية واجتماعية كثيرة ، تنتظم الحياة الخاصة للافراد والعامة للمجتمعات ، من جميع جوانبها ، وعلى كل مستوياتها ، وهذه النظم والأنسقة تقيم صرحاً شامخاً دعامته العقيدة الأيمانية أو المقوم الإيمانى ( بالله وملائكة وكتبة ورسلة واليوم الأخر والقضاء والقدر خيره وشره ) . فإذا انهارت الدعامة أو اختلت الغاية ، فقدت هذه النظم والقيم الخلقية والاجتماعية طابعها وجدواها ، وصارت شيئاً آخر ، فاقداً للأساس الراسخ والمنطلق الثابت ، وبالتالى تصير مقطوعه الأصل ، منبتة المنبع ، محدودة القيمة ، قليلة الاثر .

فالدين قبل كل شيئ ، شعور بوجود الله ، واعتراف بحقة فى حكم عباده ، ووضع المبادئ التى ينطلقون منها ، والحدود التى ينتهون إليها .

ومقتضى هذا الشعور الباطن ، والاعتراف الظاهر ، أن نفعل ما يوصينا به الله ، لا على أنه خير فقط ، بل على أنه انقياد لله وقيام بحقه ، إلى جانب ما ينطوى عليه ذلك من خيرً فرد ى أو جمعى .

إن غير المؤمن قد يرى مثلاً - الصدق فضيلة ، ولكنه لايعبد الله حين يصدق مع غيره ، فهو لايعرف الله ولا يؤمل فيما عنده .

أما المؤمن ، فالصدق عنده أولاً – طاعة لله الذى قال :

" يأيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين " - التوبة 119

إن الأعمال الصالحة كلها ، ذاتية كانت أم عامة ، فردية أم اجتماعية ، إنما تأخذ طريقها فى الحياة بكل الإيجابية وامتداديه النفع وعمومية الخير – حين تكون جزءاً من تعاليم الدين ، خاصة العقيدة الإيمانية ، أو جزءاً من سلوك المؤمنين ، مقترنة بهذا اليقين السماوى ، أو مصطبغة بهذه الصبغة الإلهية ، فيكون الإيمان بالله هو الباعث على العمل ، وتكون تقواه سبحانه إحساساً دائماً مصاحبا .

" ونحن المسلمين يجب أن تكون منطلقاتنا إيمانية ونشاطنا مشوب بهذا الإيمان ، وإلا جرفتنا تيارات الحضارة المادية التى تسود الشرق والغرب ، تلك الحضارة التى ذهلت عن الله ، وتجاهلت وحيه وآثرت أن تحيا وفق هواها .

وإذا كان التسامح واقرار حرية الفكر والاعتراف بحرية العقيدة ، مبدءاً أصيلا من مبادئ ديننا الحنيف ، وإننا نؤمن بأنه ( لا إكراه فى الدين ) ، إلا أن ذلك لا يمنعنا من إعلان رفضنا رفضا باتا – أن تعيش الخليقة بغير دين يصلح بالها ، ويزكى أحوالها ، ونرفض كذلك أن تعيش الخليقة بدين تأوي إليه الخرافة ، وتنهزم فيه الخصائص الإنسانيه العليا ، وتتأخر فى ظله الحياة ، وتذبل ملكات الابتكار والإبداع والتجمل " . 4

إن من خصائص العقيدة الصحيحة أنها تحقق للإنسان السلام النفسي والاستقرار الداخلى ، وهى تملك قوة وسلطانا على الفكر والإرادة ، فتدفع الانسان إلى أنواع من السلوك يتلاءم مع مقتضيات هذه العقيدة ، وكلما ازداد إيمان الإنسان بعقيدته ، ازداد اثر هذه العقيده فى سلوكه وتصرفاته واعماله

وبالإضافه إلى هذه الخصائص ، فإن العقيدة الواحده فى الأمة ، تلعب دورا كبيراً فى تأكيد وحدتها ، والإحساس بالترابط والتقارب الجاذب لأفراد المجتمع إلى بعضهم البعض " إنما المؤمنون إخوة " ، ليتكون منه مجتمع قوى متماسك ينطلق من منطلقات واحدة ويرنو إلى غايات وأهداف واحدة .
3- منطلق العدل الاجتماعي فى الإسلام ( العدل ناموس الكون ):

ذكرنا أن العقيدة الإيمانية هى الدعامة الراسخة لمجتمعات الإسلام والحضارة الإسلامية .

ومن سمات المجتمع المؤمن إقامة العدل الاجتماعى بين أفراده ونلاحظ فى الصياغة اللغوية ذلك الارتباط الوثيق بين الاجتماع الإنسانى والعدل ، تلك الإضافة التى تؤكد أنه لاقيمة لأى اجتماع إنسانى أو عمرانى دون عدل ، وقديماً قالوا " العدل أساس الملك " ، وقد شدد فلاسفة التاريخ والاجتماع على ضرورة العدل فى إقامة المجتمعات واستمرار الحضارات وربطوا بين انهيار الإمبراطوريات وتداعى الحضارات القديمة - وبين افتقاد العدل ، ونذكر من هؤلاء " جيبون " صاحب " سقوط الإمبراطورية الرومانية " ، والعلامة المسلم " ابن خلدون " فى " المقدمة " ، و " ويل ديوارنت " فى قصة الحضارة ، و " جوستاف لوبون " فى " حضارة العرب " ، وغيرهم قديماً وحديثاً .

والمعروف أن العدل قيمة إسلامية كبرى بل ترقى هذه القيمة الكبرى فى الاسلام حتى لتصير أشبه بناموس من نواميس الكون ، وطبيعي أن يكون أيضاً قيمة إنسانية عليا لاتصلح الحياة البشرية إلا به ، فالعدل هو قانون من قوانين الله بثه فى خليقته فهو سبحانه قد رفع السماء ووضع الميزان .

قال تعالى :

" والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا فى الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان " الرحمن 7-9

" وكذلك أمر الله الناس ، أن تكون أعمالهم في هذه الأرض على هذه الشاكلة ، لتستقيم أمورهم ، وتعتدل معايشهم ، فليس عدل الله أمرا مما يباع باليسير من متاع الحياة الدنيا ، أو يهجر للحقير من أهواء النفوس ، ولكنه نظام في العالم وفى الاجتماع البشرى ، لا يعتدل شيء فيهما بدونه .

ومفهوم العدل القرآني " أن يصرف الإنسان أمور نفسه وأمور الناس على قانون لا عوج فيه ، ولا زيغ ، ولا استثناء ، ولا ظلم ، ولا محاباة ، وان يسير أعماله على قانون إلهي لا تبديل فيه ولا تحويل ، كالقوانين التي تسير الشمس والقمر والنجوم والرياح " .5

والآيات القرآنية التي تأمر بالعدل كثيرة ، حسبنا منها الآية الجامعة في قوله تعالى :

" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون " النحل 90 .

وكما يشتد القرآن فى الأمر بالعدل كذلك يشد فى النهى عن الظلم ، ويبين عاقبة الظلم فى الأفراد والجماعات والأمم بآساليب شتى ، والظلم فى لغة القرآن " وضع الأمر فى غير موضعه أو الخروج عن الحق ، فالمجرم ظالم ، والكافر ظالم ، والكاذب ظالم " ، قال تعالى :

" فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بآياته " يونس 17.

وعاقبة الظلم هلاك ودمار للفرد والجماعة والأمة، وقل أن يذكر القرآن هلاك أمه من الأمم أو بلدة من البلاد إلا بين أنها هلكت بظلمها ، قال تعالى :
" وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوماً آخرين " الآنبياء 11

وقال سبحانه :

" فكأين من قرية اهلكناها وهى ظالمة فهى خاوية على عروشها وبئر معطله وقصر مشيد " الحج 45

وقال أيضا :

" وكأين من قرية أمليت لها وهى ظالمه ثم أخذتها والي المصير " الحج 48

إذن ،فالاجتماع البشرى ينطلق من قانون الله وناموسه فى الكون وهو العدل ، ويرتكز فى نفس الوقت – إلى نظرية متماسكة الأركان ، متعددة المحاور ، يتغلغل فيها العدل ،وتؤكد علاقة السماء بالأرض ،مستحضرة بقوه المقوم الإيمانى ،ونقصد بها نظرية " الاستخلاف " فى الأرض . 6

ونظرية الاستخلاف " إنى جاعل فى الأرض خليفة " البقرة 30 – هى قوام التصور الإسلامى فى الاجتماع البشرى والعمرانى وهى فى أركانها ومحاورها المتعددة المتشعبة – لا تغفل أمرا هاماً ، بل تؤكده وتلح عليه بقوه ، ألا وهو إعلاء قيمه المرء وتكريم الإنسان المنوط به مهمة الاستخلاف .

فمنذ بدء الخليقة متمثلة فى آدم أبى البشر عليه السلام ، وصدور أمر الله الخالق سبحانه لملائكته ، بالسجود له تكريماً وتشريفاً – تميزت مكانة هذا المخلوق ذى العقل والعلم والملكات – الخليفة – المفوض فى عمارة الأرض الذى اختصه الله فضلاً عما سبق – بالحرية والمسئولية ، للقيام بمهام الاستثمار والعمران .

ولأن مهمة الاستخلاف ستكون شاقه وممتدة على الأرض يتوارثها بنو آدم حقبا وأزمانا ، لذا فقد كفلت العقيدة الايمانية ، والشريعة الإسلامية – للإنسان – كل الضمانات التى تحمى كيانه ، وتصون حقوقه ، وتعلى مكانته ، نفسا ودما ومالا وذرية ، وهى ضمانات وحقوق واجبة ، وحرماتها عند الله عظيمة .

إن تكريم الإنسان وتعظيم حرماته وصيانة حقوقه ، شروط واجبة ، لازمة لوجوده ، لصيقة بة ، مواكبه لمسيرته ، وذلك حتى يتسنى له آداء مهمته والقيام بأعباء وظيفته ، دون قيود أو معوقات ، وليتفرغ لممارسة مسئولياته تحت ظلال وارفة من الأمن والاستقرار والسلام .

ولهذا فقد مضى الدين الإسلامى وإلى أبعد الحدود – معتدا بحرية الإنسان وكرامته ، عقيدياً وفكرياً واجتماعياً وإنسانياً ، وهذا الإطار الوقائى من الحقوق التى تصون الوجود الإنساني ، وتلك الضمانات الحامية لمسيرته – إنما هى كما يؤكد المفكر الإسلامي د. محمد عمارة – ضرورات وليست مجرد واجبات او محض حقوق . 7
وهى كما يثبت الكاتب الإسلامي الكبير الأستاذ فهمى هويدي – إنما هى أولا حقوق لله عز وجل قبل أن تكون حقوقاً للبشر . 8
4- نظرية الاستخلاف والعدل الاجتماعي :

يرتكز العدل الاجتماعي فى الإسلام على أساس من نظريه الاستخلاف ، " استخلاف الإنسان مطلق الإنسان ، وليس الفرد فقط أو الطبقة – فى عمران الأرض ، وفى حيازة واستثمار الثروات والأموال ، والانتفاع بها ، وذلك وفق بنود عقد وعهد الاستخلاف – التى حددت الشريعة الإلهية ، أصولها ومبادئها وقواعدها ، وتركت تفصيلاتها لفقه المعاملات " .9

وتتضمن النظرية أركان أساسية ومحاور متشعبة تستند إليها وتتفاعل بها وأهم هذه الأركان ما يلى :


أ*- ملكية الله الخالق للثروات والأموال :

فالمالك الحقيقي هو الخالق المنعم ، والإنسان نائبه فى ثرواته ونعمه ، والمال ذو منحى اجتماعي ، وطبيعة الثروات هى عموميه النفع " وآتوهم من مال الله الذى آتاكم " النور 33

مع النظر بعين الاعتبار لحق الملكية الفردية واحترام الجهد والدافع الذاتى ، وإشباع المشاعر الفطرية للإنسان نحو المال وغرائز التملك ، ولكن دون إن تطلق هذه الغرائز العنان حماية له من أن تتملكه الأثرة والبخل وحب التملك الطاغي " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى " العلق 2.. وخلاصة الرأي في هذا الركن الأول والاهم – أن الله الخالق الوارث – هو المالك على الحقيقة ، والإنسان المستخلف – هو المالك على المجاز .

" قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك عمن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير انك على كل شيئ قدير " آل عمران 26.

يقول الشيخ شلتوت :

" فليس لأحد أن يقول مالي ، مالي هو مالي وحدي وليس لأحد أن ينتفع به سواي .. لأن المال مال الجميع ، والمال مال الله ، ينتفع به الجميع عن الطريق الذي شرعه الله في سد الحاجات ودفع الملمات ، وهو ملك لصاحبه يتصرف فيه لاكما يشاء ، بل كما رسم الله وبين في كتابه ، حتى إذا ما أخل بذلك فأسرف أو بذر أو ضيق وقتر حجر عليه أو أخذ منه قهراً عندما يرى الحاكم أخذه منه ) .

إذن المال هنا يترجم إلى تراحم وتكافل ، يملأ ما بين الناس من فجوات ومسافات بالحب والود ، فالفرد على استعداد أن يتنازل عن جزء من ماله طواعية واختياراً ، وهذا الجزء ليس ضائعاً وإنما مردود له بمشاعر من العرفان والامتنان ، وهذا سيكون له أثر عظيم على ما بين أفراد المجتمع الواحد من تماسك وتعاضد ورحمة فلا مكان للاستغلال وما ستتبعه من بغض وإحن وكراهية ، ونفوس انطوت على ثأر تتحين الفرصة والظروف كي تثأر لكرامتها وحقوقها المهدرة .

وفى تلك الحالة يتلاشى الأمن والأمان للفرد ، لأنه يرى بعينه استغلالاً وسيطرة وتحكماً ، فجهده مسروق وحقه مهضوم ، وما يؤلمه مباركة المجتمع لهذا ورضاه عنه ، بل خول لصاحب المال حقوقاً وصلاحيات كثيرة تقنن له الاستغلال والظلم ، وهذا سيكون له أثر مدمر ومهلك على المجتمع الواحد ، فأفراده حرب على أنفسهم ، فى صراع يشتد أواره ، ومعروف إلى ما سينتهي الأمر بهذا المجتمع " . 10

ب – التكافل الاجتماعي المحقق للتوازن :
ويقود الركن الأول للنظرية – إلى ركنها الثاني ، وهو إنجاز التكافل المحقق للتوازن ، بين الفرد وشرائح المجتمع وطبقاته ، وبين هذين والأمة ، وبين الأمة والمجتمع الإنساني بعامة .

قال تعالى :

" وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه " الحديد 7

" وهذا التكافل الاجتماعي الإسلامي في شئون المعاش ، المادية والاجتماعية ، لا يعنى المساواة الحسابية بين إفراد المجتمع ، وإنما يعنى " التوازن " الذي يحقق حد الكفاية للمجتمع ، وضبط التفاوت بضوابط الحلال الديني والكفاءة في العطاء مع وضع سقف للتفاوت يمنع الاحتكار والأثرة والطغيان ، انه التوازن المحقق لغنى الكفاية للجميع ، مع فتح أبواب الثراء إمام الكفاءات والإمكانيات ، بعيداً عن " الكنز " المعطل لدوران عجلة التنمية والاستثمار ، وبعيدا عن " الاستفراد " الذي هو المقدمة إلى الطغيان " 11

وتأتى الدعوة إلى التكافل والتضامن الاجتماعي بصور وآساليب شتى سواء من خلال آيات القرآن العظيم أو سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن هدى السلف الصالح ومآثرهم ومواقفهم التي يشهد بها التاريخ .

وكل ذلك سواء آيات القرآن العظيم ، أو سنة الهادي صلى الله عليه وسلم ، أو مواقف السلف المضيئة – تضيق بذكرها هذه الصفحات المحددة للبحث ، والأمر ليس استعراض نصوص أو استظهار آيات كريمة ، أو ذكر مواقف لأمة عظيمة - لها ما كسبت ولنا ما كسبنا – وإنما المعنى هنا في مجالنا – إنما هي القدوة والممارسة العملية ، وسد تلك الفجوة الهائلة بين القول والفعل ، النظرية والتطبيق .

إن تلك الفجوة داء عظيم من أدواء الأمة ، يفتك بها ، ويفقدها المصداقية ، ويحرمها شرط الخيرية ..

" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر " آل عمران 110

وعوده إلي التكافل المنجز ، المحقق من خلال منظومة الدين " إيمان وإسلام " ، " عقيدة وشريعة " ، إي التكافل المؤسس على المقوم الإيماني ، المفعل بالتطبيق الإسلامي ، قيما وأخلاقاً وعبادات ومعاملات ، حيث الركن الثالث من أركان نظرية الاستخلاف وهو :

جـ - مستويات التكافل وآلياته وصوره :

وشمولية هذا التكافل لكل من : الفرد – الأسرة – الجماعة – الأمة – المجتمع الإنساني ، وذلك من خلال ضرورات الحقوق ، ومتطلبات الواجبات فى نطاق مستوياتها السابقة والمسؤوليات المنوطة بكل مستوى على حدة ، بداية بالفرد المكرم المكفول اجتماعياً خاصة إذا كان فقيراً أو مسكيناً أو يتيماً أو أسيرا ، مسلماً أو ذمياً – وانتهاءاً بالمجتمع الإنساني حيث لا شمال غنى أو جنوب فقير ، حيث لا مركز ولا هوامش ، بل طيبات وخيرات ونفع متبادل في حركة صاعدة هابطة ، ذاهبة آتية بالتناوب بين الشمال والجنوب ، الشرق والغرب ، والتفاضل في ذلك كله بتقوى الخالق عز وجل :

" يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم " الحجرات 13

.إذن ، فهو تكافل يبدأ بالإنسان الفرد وينتهي بالإنسانية جمعاء ، مروراً بالأسرة ، الخلية الأولى للمجتمع ، والخيط الأول في نسيجه ، الأسرة المسلمة المبنية على المودة والرحمة ، المحفوظة بالمواثيق ، في إطار من الحقوق والواجبات المتبادلة ، الأسرة المسلمة التي تحظى المرأة فيها بالإنصاف والاحترام والتقدير ، أما وأختاً وزوجة وبنتاً ، وتصان للرجل فيها حقوق القوامة ، ويكفل لأبنائها الرعاية وحسن التربية ، لحمايتهم من العصيان والانشقاق والعقوق ، أسرة معطاءة في حال الغنى ، مكفولة في حال الحاجة والعسر بكفالة الإسلام وصلة الأرحام .

ثم جماعة إسلامية متضامنة ، تجبر كسور فقرائها وترعى ضعفائها بأداء حق الله في الأموال – بإخراج الزكوات والصدقات " فريضة من الله " ، ابتغاء وجه الله الكريم .. وحق الله هنا هو نفسه حق عباده .. قال تعالى :

" وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ " المعا رج 24-25

حقوق تؤدى ، وجماعة تتضامن وتتكافل بأخلاق الإسلام الرفيعة وقيمة ومثله العليا وآدابه السامية :

" الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ " البقرة 262-263

إن الإسلام هو " دين الجماعة ، ولا وجود للجماعة بدون التكافل الاجتماعي ، لأن هذا التكافل هو موجد النسيج الاجتماعي ، المحقق لوجود هذه الجماعة ، وفى إطار الجماعة – تتمايز حظوظ الأفراد والطبقات فيما وراء حد " الكفاية " للجميع ، دون خلل فى ثراء يتركز في جانب ، بينما يتركز الفقر والحاجة في جانب آخر " . 12

إن مجتمع " التكافل " هو نقيض مجتمع القلة الغنية ، أو وفق التعبير القرآني " دولة الأغنياء"

إن التوازن الذي يحققه التكافل في الأمة ، يقي المجتمع المسلم – أخطار الاستغناء والأثرة والطغيان ، ويجنبه شرور الجريمة والتطرف والإرهاب وموبقات الانحلال الاجتماعي والصراع الطبقي .

ولقد بلغ الإسلام في التحذير من اختلال ميزان التكافل الاجتماعي – إلى الحد الذي جعله سبباً في براءة ذمه الله سبحانه وذمه رسوله صلى الله عليه وسلم من الجماعة غير المتكافلة ، وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع ، فقد برئت منهم ذمة الله تعالى " .
ويؤكد هذا المعنى الإمام على كرم الله وجهه حين قال :
" إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء ، فما جاع فقير إلا بما متع به غنى " .

ومن هنا كان عجب أبى ذر الغفاري وتعجبه عندما قال :

" عجبت لرجل لا يجد في بيته قوت يومه ، كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه " .

ومن منطلق وحدة العقيدة " المقوم الإيماني " و " الأخوة الإيمانية " و " الجسد الواحد " ، تتكافل أمه الإسلام ، وتكافلها الحيوي وتضامنها الضروري - هو المقدمة الأهم لتكاملها وانطلاقها اقتصادياً ، ومن ثم تحررها من الفقر والتبعية ، و إملاءات المعونات وشروطها المجحفة ، وأيضا من فوائد الديون وخدماتها الباهظة ، وحتى لا تظل بلاد المسلمين مجرد مصدر للمواد الخام من جهة ، وسوق هائلة للعولمة من جهة أخري ، تصرف فيها منتجاتها وتكدس من ورائها الأموال الطائلة ، لتظل الحياة الاقتصادية والاجتماعية في بلادنا راكدة جامدة ، تتسع فيها الفجوات الاقتصادية وتزداد معدلات البطالة وتتدهور مستويات المعيشة في ظل عجز الحكومات وتهميش دور الدول بموجب منطق العولمة .

وتقودنا كفالة الأمة اجتماعياً إلي الحديث مباشرتاً عن أشكال وآليات هذا التكافل الاجتماعي مع التنويه إلى التكامل الاقتصادي ، المرسخ لكيانها السياسي ودورها العالمي ، الذي غدت البشرية في أمس الحاجة إليه ، والى قيادة الإسلام الرشيدة للمسيرة الإنسانية بعد أن أفلست كل أشكال النظم الاجتماعية والاقتصادية في شرق العالم وغربه ، شماله وجنوبه .

وقد أشار د. / محمد عمارة إلى نماذج من الآليات والمؤسسات التي يمكن أن تحقق التكافل الاجتماعي على جميع أصعدته ومستوياته فرداً وجماعة وأمة 13 ، وأهمها ما يلي :
1. صندوق الزكوات العامة .

2. صندوق التنمية بالركاز .

3. استثمارات الأوقاف الإسلامية ذات التوجهات الاجتماعية .

4. مؤسسات المجتمع الأهلي ومنظمات العمل المدني من جمعيات ونقابات وأحزاب ودور رعاية وتأهيل ، والتي تؤكد دور الجماعة والأمة بمستوياتها الشعبية العامة وهو الدور الذي ميز مسيرة الحضارة الإسلامية حيث كانت المبادرات الاقتصادية والوظائف الاجتماعية تتم دائماً بمفهوم الأمة وليس الدولة ، وحيث كانت ثمار هذه المبادرات تتوجه لصالح مجموع الأمة .

إن تفعيل مؤسسات المجتمع المدني ومنظمات العمل الأهلي أنما هو في الحقيقة ، إحياء لمفهوم الأمة ودورها وهو مفهوم إسلامي أصيل ، حفظ للأمة تماسكها وكيانها الاجتماعي طوال عصور طويلة من الاستبداد السياسي والتخلف الاقتصادي ، فضلاً عن أخطار الغزو الخارجي .

وبعد :

فإننا لا نستطيع أن نتجاهل تأزم الموقف التاريخي للأمة في لحظتها الراهنة ونعود ونؤكد ، كما أشرنا في مقدمة البحث – بأن عودة الأمة إلى منابعها الأصيلة ومنظومتها الدينية المتكاملة ، مع ثقة الأمة فى إمكاناتها ورصيدها الحضاري ، ستكون أولى خطواتها نحو الانعتاق من التخلف ، وتجاوز إشكالياتها المعقدة ، وبداية انطلاقها وتواجدها الفاعل وسط عالم من الكيانات المؤثرة والتكتلات القوية .
مصادر البحث :

1. القرآن الكريم والمعجم المفهرس بحاشيته – محمد فؤاد عبد الباقى – دار الحديث الطبعة الأولى – القاهرة 1996م .

2. رياض الصالحين – للإمام أبى زكريا يحيى النووي – الطابعة الأولى – دار الريان للتراث – القاهرة 1987م .

هوامش البحث :

1. أنظر بالتفصيل : " هموم الأمة الإسلامية " – د. محمود حمدى زقزوق – مكتبة الأسرة – الهيئة العامة للكتاب – القاهرة 2001م .

2. أنظر بالتفصيل :

- " الإسلام والعولمة " محمد إبراهيم مبروك وآخرون – الدار القومية للنشر – الطبعة الثانية – القاهرة يناير 2002م .

- " الجات والتبعية الثقافية " د. مصطفى عبد الغنى – مكتبة الأسرة – هـ .م.ع للكتاب – القاهرة 1999م .

- " الإسلام والغرب " مجموعه من المفكرين – " كتاب العربى " العدد 49 – الكويت يوليو 2002م .

- " انفجار سبتمبر بين العولمة والأمركة " إبراهيم نافع – مكتبة الأسرة – هـ . م. ع للكتاب – القاهرة 2002م .

3. " مستقبل الأمة الإسلامية " مجموعة من المفكرين - المستقبل الاجتماعي د. / محمد عمارة – سلسلة قضايا إسلامية العدد 99 صــ193 وما بعدها – وزارة الأوقاف – المجلس الأعلي للشئون الإسلامية – القاهرة 2003م .

4. " عقيدة المسلم " السيخ محمد الغزالي صــ142 – دار الريان للتراث – القاهرة 1987م .

5. " القراءة العربية " مقال " العدل " د. / عبد الوهاب عزام صــ2و3 – طبعة وزارة التعليم – القاهرة 2003م .

6. أنظر : " مستقبل الأمة الإسلامية – مرجع سابق .

7. أنظر : " الإسلام وحقوق الإنسان " د. / محمد عمارة – سلسلة عالم المعرفة .. العدد 89 – الكويت مايو 1985 م .

8. أنظر : " رؤى إسلامية معاصرة " مجموعة من الكتاب صــ 141 – كتاب العربي العدد 45 – الكويت يوليو 2001م .

9. " مستقبل الأمة الإسلامية " صــ 198 – مرجع سابق .

10. " الفكر الإسلامي ومستجدات العصر " الأستاذ محمود الفليني صــ 109 و 110 – سلسلة قضايا إسلامية – المجلس الأعلى للشئون الإسلامية العدد 22 – القاهرة 2005م .

11. " مستقبل الأمة الإسلامية " صــ 205 – مرجع سابق .

12. أنظر : المصدر السابق .