يُعد هذا الكتاب ترجمة للمناقشة الحوارية المنظمة من لدن "الأكاديمية الكاثوليكية" بميونخ (2004م) بين أحد أعمدة ممثلي العقل في الغرب حاليًّا، وهو الفيلسوف الألماني "يورجن هابرماس"، وأحد أعمدة ممثلي الكاثوليكية الأوربية الكاردينال الألماني "جوزيف راتسنجر"، وقد قام "حميد لشهب" بترجمة المداخلتين من الألمانية وتقديمهما في شكل كتاب واحد أصدرته "دار جداول" في طبعته الأولى سنة 2013م.
ويشير مقدم الكتاب ومترجمه إلى الخطأ الكبير الشائع الذي سقط فيه الفكر العربي، بأن الفكر الأوربي التنويري والحديث لم يحاولا محاورة الفكر الكلاسيكي واللاهوتي، بل أعلنا بكل جدية واعتزاز أنهما قد تجاوزاه؛ لكن الحقيقة تقول بأن كبار الفلاسفة الغربيين في عصر الأنوار -وخصوصًا الجرمانيين منهم- اهتموا بموروثهم المسيحي ودرسوه بعناية فائقة قبل أن يأخذوا منه موقفًا مناوئًا أو مناصرًا، وينطبق هذا على "كانط" و"هيجل" و"ديكارت"؛ فإذا كانت الكنيسة في الغرب قد فقدت سيطرتها على السلطة السياسية فإنها لم تفقد دورها الرُّوحي والفكري.
وإذا كان الفكر الكلاسيكي الجديد متعدد المذاهب والتوجهات والمشارب العقائدية والفكرية لأوربا وأمريكا، فإن ما يوحده على مستوى التنظير هو رغبته في إعادة الاعتبار للدين المسيحي، سواء في جانبه الطقوسي الشعائري أو في جانبه الأخلاقي بمقاومة الاختلالات الرُّوحية الناتجة عن الحضارة المعاصرة.
ويعتبر موضوع العقل والدين من بين أقدم المواضيع التي شغلت العقل الإنساني منذ ظهور البوادر الأولى للتفكير الإنساني في الحضارات المختلفة التي عرفها التاريخ الطويل للإنسانية. ويرجع سبب هذا إلى كون البعدين معًا (الديني والعلمي) من الأبعاد التي وشمت اهتمامات الإنسان منذ ظهوره ولازمت وجوده في مختلف مراحل تطوره، وقد وصلت حدة الصراع بين الدين والعلم في المجتمعات الغربية إلى ذروتها في عصور الأنوار وبداية عصر النهضة، وانتهت في آخر المطاف في الكثير من الدول الأوربية بانتصار العلم والقضاء على السلطة السياسية للدين.
إن المحور الرئيسي للقاء بين كل من "راتسنجر" و"هابرماس" يدور حول الأسس الفكرية لمجتمع يحصن الكرامة الإنسانية، حيث وجد "هابرماس" هذه الأسس في العقل العملي للفكر "ما بعد الميتافيزيقي" العلماني، بينما وجده "راتسنجر" في الإنسان كمخلوق من طرف الله؛ فقد أكد "هابرماس" أن الفلسفة واعية بما فيه الكفاية بتعرضها للخطأ ونسبية أطروحاتها في ظل وضعها غير المستقر في المجتمع الحديث، فجوهر أطروحة "هابرماس" تتمثل في إصراره على ضرورة أخذ الدولة المشرعة للقوانين تمثلات كل الثقافات التي تعيش بين ظهرانيها -بما في ذلك التمثلات الدينية- يعني الاعتبار والاعتراف لها بفضاء خاص لها في إطار ما يسميه (الوعي الـ"ما بعد علماني" للمجتمع)، هذا ما يبرز من خلال عنوان مداخلته (الأسس الـ"قبل السياسية" للدولة الديمقراطية القانونية)، مقترحًا أن تفهم "اللائكية" الثقافية والمجتمعية كصيرورة تعلم مزدوجة يكون في حاجة لها أتباع تقاليد الأنوار والتعاليم الدينية -على حد سواء- للتفكير في حدود تخصصهما، منطلقًا من كون الحاجة لـ"شرعنة" دستور الدولة "الليبرالية" تجد جذورها في هذه الدولة؛ أي: من الاستمرارية العقلية المستقلة عن أي وحي ديني و"ميتافيزيقي".
وفي معرض تفاعله مع سؤال: إلى أي حد يمكن لشعوب موحدة في دولة تضمن حرية الأفراد أن تستمر في الوجود دون حبل رابط بين هذه الأفراد يسبق هذه الحرية؟ يجيب "هابرماس" بأن الدولة الدستورية الديمقراطية لا توفر الحرية السلبية فقط من أجل رفاهية مواطنيها، بل تجندهم عن طريق حرية التواصل للمشاركة في المناقشات العامة حول القضايا التي تهم الكل، فالطبيعة العلمانية للدولة الدستورية الديمقراطية لا تتضمن أي ضعف داخلي في نظامها السياسي يمكنه أن يهدد -من وجهة نظر عقلية أو عاطفية- استقرارها الخاص، على حد قول "هابرماس". فتعبير "ما بعد العلماني" في نظر "هابرماس" لا يقر للجماعات الدينية للاعتراف العلني بها لمساهماتها الوظيفية في إنتاج التصورات والدوافع، لكن يمكن للمجتمع العلماني والديني إذا ما فهمنا علمانية المجتمع كصيرورة تعلم متكامل أن يقدما مساهماتهما في ما يتعلق بالمواضيع المختلف حولها في الحياة العامة،لكنه يعقب بأنه على الدِّين أن يتنازل عن حقه في السلطة، وفي احتكار التأويل، وتنظيم الحياة الشامل؛ نظرًا لشروط علمانية العلم، وحياد سلطة الدولة، والحرية الدينية الشاملة، مع فتح إمكانية أن تمارس الجماعات الدينية تأثيرها الخاص عن طريق الرأي العام السياسي.
ويختم مداخلته بأنه لا يحق للمواطن العلماني أن يُنكر صحة أو مصداقية التصورات الدينية للعالم، ولا حرمان المواطن المؤمن من حقه في التعبير بلغة دينية، وطرح مواضيع للمناقشة في الفضاء العمومي.
أما "راتسنجر" فقد حاول من خلال مداخلته المعنونة بـ(ماذا يوحد العالم؟) تأسيس الحرية الـ"ما قبل السياسية" لدولة حرة على خمسة مرتكزات وهي:
1- النداء إلى التعاون بين العقل والإيمان.
2- التحديات الجديدة التي تواجه الإنسان.
3- فكرة الحق الطبيعي كحق عقلي.
4- التعدد الثقافي كفضاء لارتباط العقل والإيمان.
5- ضرورة المراقبة المتبادلة بين الدين والعقل.
إن ما شغل "راتسنجر" هو التطور الأعمى للعلوم الحقة، وهذا الفهم الجديد للإنسان من طرفها كموضوع دراسة وبحث في المقام الأول، داعيًا الفيلسوف إلى تحمل مسئوليته النقدية للعلماء، وطرق عملهم، وأهداف بحوثهم، مع تأكيده على مسئولية السلطة السياسية في خضوعها للقانون، منبهًا إلى دوره في ضمان العدل والمساواة، وليس ضمان امتيازات لأقلية معينة، أو توظيف مبدأ الأغلبية لهضم حقوق الأقليات، مستحضرًا السؤال الآتي: كيف يقوم القانون؟ وكيف يمكن التوصل إلى قانون يصبح مركبة للعدالة، وليس امتيازًا للذين لهم سلطة تطبيق القانون؟ ومن ثَم مستشكلاً أسئلة أخرى من قبيل: هل يمكن اعتبار الدين سلطة مشفية ومنقذة أم سلطة قديمة وخطيرة تبني عوالم خاطئة وتقود إلى عدم التسامح والإرهاب؟ ألا يجب هنا أن نضع الدين تحت رقابة العقل ونحد من سلطته؟ ومَن يستطيع أن يقوم بذلك؟ وكيف يمكن عمل ذلك؟
وينحاز الكاردينال إلى أن الدين في الحقيقة قوة أخلاقية إيجابية لا يمكن إغفالها؛ فالعقل الحديث بدوره أنتج كوارث تهدد وجود الإنسان من القنبلة النووية إلى استنساخ الإنسان والتلاعب في الجينات، متسائلاً: ألاَ يستدعي العقل بدوره مراقبة من لدن الدين؟ كما توقف عند تحدي الإرهاب والتقدم الخطير لعلوم البيولوجيا وتداعيات ذلك على الإنسان.
وختم مداخلته قائلاً: إن عقلانيتنا العلمانية على الرغم من أنها تضيء عقلنا المشكَّل بطريقة غربية غير مفهومة لكل عقل؛ فوضوحها هذا يقتصر على نوع محدد من المضامين الثقافية، ويجب عليها أن تعترف أنها ليست مفهومة لكل الإنسانية، ومن هنا لا يمكن أن تكون فعالة في كل الأماكن.
وهكذا ترتكز أطروحة "راتسنجر" في تَكرار الدعوة الضمنية للهدنة بين العقل والدين، على شكل مشروع طموح يُسمح لكل واحد منهما فيه بأخذ الآخر تحت المجهر؛ من أجل تطهيره، وتجاوز الخلافات؛ من أجل الدفاع عن الكرامة الإنسانية أولاً وأخيرًا.
تعريب وتقديم - حميد لشهب
4/23/2013