2- التفكير اللغوي عند اليونان:
كانت اليونان أول من اهتم بدراسة جوهر اللغة، وعنى بمسائلها، وتطلع إلى كشف أسرارها.
وقد كان "أفلاطون" أقدم فيلسوف يحدثنا عن عناية اليونانيين باللغة، وذلك في كتاب "قراطولوس" الذي كانت المسألة الرئيسية فيه تدور حول دلالة اللفظ على معناه، وهل هي طبيعية ذاتية، أو أنها ترجع إلى عرف الناس واصطلاحهم؟.
وقد أدار أفلاطون حواره حول هذه المسألة بين أشخاص ثلاثة؛ يمثل أحدهم القول بطبيعة الدلالة، ويمثل الآخر القول بعرفيتها واصطلاحيتها، على حين يقف الثالث -الذي هو شيخه "سقراط"- موقفًا وسطًا يحاول فيه التوفيق بين الرأيين السابقين.
وقد استمر الجدل حول هذه المسألة عدة قرون، وشارك فيه الفلاسفة واللغويون كلٌّ برأيه، واتصلت بذلك مسألة أخرى هي قياسية اللغة أو عدم قياستها، وقد اختلفت الآراء أيضًا حول هذه القضية.
وإذا كانت القضايا السابقة تدور في فلك الفلسفة وأصحابها فإن هناك من أوجه التفكير اللغوي عند اليونان ما هو أقرب إلى البحث اللغوي، وإن كان لا يخلو بالطبع من آثار هذه الفلسفة المسيطرة.
فقد حاول اللغويون اليونانيون تحليل مستويات لغتهم ودراستها، وظهرت عندهم عدة مدارس لغوية من أشهرها مدرسة "الإسكندرية"، ومدرسة "برجامة"، ومن أشهر النحاة المنتسبين إلى المدرسة الأولى "أرسطارقوس" السموتراقي المتوفى سنة 115 أو 145 ق. م، و"ديونسيوس" التراقي المتوفى سنة 90 ق. م.
ومن أشهر المنتسبين إلى المدرسة الثانية "ديوجينوس" البابلي، وقبله "أخروسيبس" المتوفى سنة 205 ق. م تقريبًا، وهو أحد زعماء المدرسة الرواقية في الفلسفة.
وقد كان "ديونسيوس" التراقي -السابق ذكره- صاحب أول كتاب في "الجراماتيكا" (الأجرومية أو القواعد) على طريقة الإسكندريين، "وقد بقي كتابه هذا إلى العصر الحديث، ويلاحظ أنه قد عرف فيه "ألجراماتيكا" بأنها: "المعرفة المتعمقة لكل ما هو راجع إلى اللغة، بحسب الاستعمالات الشائعة عند المؤلفين "نظمًا ونثرًا".
وقد بيّن أجزاء هذه المعرفة بما يدل على ما تميزت به هذه المدرسة من نظرة فيلولوجية تعني بالنصوص القديمة، وصور نطقها، كما تعني بالبلاغة والنقد، والاشتقاق وتأصيل الكلمات، والاعتماد في بناء القواعد على القياس.
ومن أشهر اللغويين اليونانيين كذلك "أبولنيوس ديسكولي" المتوفى سنة 150 بعد الميلاد، وقد وضع كتابًا في التراكيب لا يقل حجمه عن أربعة مجلدات، حاول فيه الابتعاد عن التحديدات المنطقية لأجزاء الكلام إلى تحديدات لغوية. ويتضح لنا هذا عندما نقارن بين تعريفه للكلمة وتعريف "أرسطو" لها، فالكلمة عند "أبولنيوس" هي لفظة ذات صيغ خاصة تدل على الزمان، وعلى الفعل والانفعال، وعلى الفاعلين وعددهم. أما عند "أرسطو" فإنها تعني: ما يدل -مع ما يدل عليه- على زمان.. وهي دائمًا دليل ما يقال على غيره... وهي ما يقال على موضوع... إلخ.
وغني عن البيان أن تعريف "أبولنيوس" أقرب إلى التصور اللغوي عند العرب وعند المحدثين من تلك التعريفات والتصورات المنطقية عند "أرسطو".
وقد تتلمذ على "أبولنيوس" هذا ابنه "هيروديان" الذي اشتهر أيضًا بدراسات طيبة، وكان مع أبيه مرجع النحاة الرومانيين، وبخاصة النحوي اللاتيني "برسيانو".
وقد آتت كل هذه الجهود ثمارها في المجالات اللغوية المختلفة:
ففي المجال الصوتي مثلًا: استطاع اليونان أن يصلوا -بمنهج علمي تحليلي- إلى تحديد أصوات لغتهم، ووضع رموز مكملة لما أخذوه عن الكتابة السامية بحيث صارت كتابتهم معبرة عن نظامهم الصوتي. كما تمكنوا من تقسيم هذه الأصوات -وإن كانت معرفتهم لم تصل إلى حد التفريق بين المجهور والمهموس، أو بين الرخو والشديد- ومن معرفة تلك الوحدات الصوتية التي نسميها بالمقاطع "Syllables" ومن القراءة الصحيحة التي تعني بالنبر.
وكذلك كانت لهم معارف نحوية، وصرفية ومعجمية ليس الآن محل تفصيلها؛ لكننا نحب أن نضيف هنا أمرين:
الأول: أن التفكير اللغوي عند اليونان يغلب عليه التأثر بالفكر الفلسفي، فقد بدأت الدراسات اللغوية عندهم -كما أشرنا سابقًا- مختلطة بالدراسات الفلسفية والأفكار الميتافيزيقية، وخضعت كثيرًا للنظريات المنطقية.
وقد رأينا -فيما سبق- كيف أن أول قضايا البحث اللغوي عندهم تتركز حول ذاتية العلاقة بين اللفظ والمعنى أو عرفيتها، ونشأة اللغة، وهل هي هبة من الله، أو أنها من صنع البشر؟، وقياسية اللغة وعدم قياسيتها، إلى غير ذلك من المسائل التي هي إلى مجال الفلسفة أقرب منها إلى مجال التفكير اللغوي القائم على الدرس والوصف.
وقد كان لذلك أثره الواضح وبخاصة في مجال القواعد والنحو، وإلا فكيف يتصور خطأ "أفلاطون" في جعله الصفة صفة للفعل بدل الاسم؟ فالاسم هو الفاعل عادة وكل ما سواه تكملة هكذا يقول المنطق.
والناظر في النحو اليوناني يجده -كما يُقال- صورة تطبيقية للقواعد المنطقية التي آمن بها الفكر اليوناني؛ "فلقد اعتبر كتاب اللغة من الإغريق (الجملة) حكمًا منطقيًّا، واعتبروا طرفي الإسناد النحوي بنفس الطريقة التي اعتبروا بها (الموضوع والمحمول) في المنطق، وإن من يقرأ ما كتبه "أرسطو" في المقولات والعبارة والتحليلات الأولى والثانية ليجدها مليئة بالنظرات التي تخلط بين التفكير اللغوي والفلسفي...
كذلك لا نكاد نجد أثرًا لمنهج المقارنة في تراث اليونانيين، ذلك أنهم قد آمنوا بأن لغتهم هي الصورة المثلى التي لا تدانيها صورة، وأن كل ما ينطق بغيرها إنما هم "برابرة" أو مثرثرون....
الأمر الثاني: أن التفكير اليوناني في اللغة قد ترك آثارًا واضحة فيما قام به الرومان من دراسات لغوية؛ فقد نشأت بتأثير النحويين اليونانيين مدرسة نحوية لاتينية من أشهر علمائها "فارو" "Varro" المتوفى في القرن الأول ق. م، صاحب كتاب "في اللغة اللاتينية"، ومعاصره "كواتيليانو" "Quintilianus" صاحب كتاب "مناهج صناعة الكلام"، و"بريسيانو Priscianus" المتوفى سنة 500 ق. م، صاحب الكتاب المشهور "أصول الجراماتيكا" وتُعدُّ هذه الكتب أهم ما اعتمد عليه الأوربيون بعد الرومان في دراستهم اللغوية.
ومن الملاحظ أن الرومان قد أخضعوا جميع ظواهر اللغة اللاتينية للقوانين والقواعد التي عرفوها في اللغة اليونانية، وأنهم استعملوا مصطلحات تلك اللغة في معالجتهم لقضايا لغتهم، وقد هيئوا بذلك لتلك المصطلحات والمفاهيم أن تعبر القرون الوسطى لتصل إلى التفكير اللغوي الحديث.
كذلك فقد ترك هذا التفكير اليوناني بصمات واضحة في التفكير اللغوي العربي مما سنوضحه فيما بعد.

ويليه: في علم اللغة العام، لأبي السعود الفخراني
الم
صدر: منتديات جامعة المدينة العالمية