بسم الله الرّحمن الرّحيم
الفَصْلُ بَيْنَ المُضَافِ وَ المُضَافِ إِلَيْهِ : اِعلم أنّ المضافَ والمضافَ إليه صارا بالتّركيب الإِضافيّ بمثابةِ الكلمةِ الواحدة؛وأنّ (المضافَ إليه يتنزّلُ مِن المضافِ منزلةَ التّنوينِ؛فهو مِن تَمامِه؛فالقياس ُ يَقتضي أن لا يجوز الفصلُ بينهما إلاّ على سبيلِ الضّرورة ) ؛لذا اعتبرَ بعضُ العلماءِ الفصلَ بينهما مِن اللَّحْنِ القَبيحِ؛إلاّ أنْ يضطرَّ إليه شاعرٌ.قالَ ابنُ جِنِّيّ :(وعلى الجملةِ فكلّما ازدادَ الجُزءانِ اِتِّصالاً؛قَوِ يَ قُبْحُ الفصلِ بينهما)،وقال :(والفصلُ بين الجارِ ومَجرُورِهِ لا يجوزُ،وهو أقبحُ مِنه بين المُضافِ والمُضافِ إليه،وربّما فَرَدَ الحَرْفُ مِنه فجاءَ مَنْفُورًا عنه).
وإنّما جازَ الفصلُ بينهما بالظَّرف،وحرف الجرّ؛لأنّ الظَّرف،وحرفَ الجرِّ يُتَّسَعُ فيهما ما لا يُتَّسَعُ في غيرِهما .
وقد حكى الخلافَ في هذه المسألة البغداديُّ في الخزانة (2 /93) نقلاً عن ابن الأنباريّ في كتابه " الإنصاف في مسائل الخلاف ".وممّا جاء فيه قولُه:(فقال :ذهبَ الكوفيّون إلى أنّه يجوزُ الفصلُ بين المضافِ و المضافِ إليه بغيرِ الظَّرْفِ وحرفِ الخَفْضِ،لِضرور ةِ الشِّعرِ،وذهبَ البَصريُّون إلى أنّه لايجوزُ ذلك بغيرِهما … ) .
وأمّا ابنُ هشامٍ فقد أجادَ – لِلَّهِ دَرُّه - تحريرَ الصّوابِ في المسألة في " أوضح المسالك " قال – رحمه اللّه -:(زعمَ كثيرٌ مِن النّحويين أنّه لا يُفصَلُ بين المتضايفينِ إلاّ في الشّعرِ.والحقُّ أنّ مسائلَ الفصلِ سَبْعٌ،مِنها ثلاثٌ جائزةٌ في السَّعَة،وأربعٌ جائزةٌ للضّرورة.أمّا الثّلاثُ الجائزةُ في السَّعَةِ فهي :
1. أن يكونَ المضافُ مَصدرًا والمضافُ إليه فاعله،والفاصِلُ إمّا:
أ*- مفعولُ المضاف،كقراءةِ ابنِ عامر :( وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهُمْ شُرَكَائِهْمْ ) .والتّقدير:قتلُ شركائِهم
أولادَهم؛ففصلَ بالمفعولِ بين المضافِ والمضافِ إليه؛لأنّ المضافَ مصدرٌ،والمصدرُ شبيهٌ بالفعل .
وقال الشّاعر: فَسُقْنَاهُمْ سَوْقَ البُِغَاثَ الأَجَادِلِ
وسلك المتنبِّي هذه الطريقة عندما قال:
حَمَلَتُ إليهِ مِن لِسَانِي حَدِيقَةً * سَقَاهَا الحِجَى سَقْيَ الرِّياضَ السّحائِبِ .
والتّقدير:سقيَ السَّحائبِ الرياضَ،بإضافة السَّقي إليها؛ففصلَ بين المضافِ والمضافِ إليه بالمفعول .
ب*- ظرفُه،كقولِ بعضِ مَن يُوثَقُ بعربيَّتِهِ:تَر كُ يومًا نفسِك وهواها،سَعيٌ لها في رَداها .قال في موسوعة النّحو والصّرف
والإعراب :المصدر " تَرْكُ " أُضيفَ إلى " نَفْسِكَ "،وفصلَ بينهما الظَّرفُ " يومًا " .
2. أن يكونَ المضافُ وصفًا (اسم فاعل) والمضافُ إليه إمّا:
أ*- مفعولُه الأوّل والفاصلُ مفعولُه الثاني،كقراءة بعض السّلف :(فَلَا تَحْسِبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدَهُ رُسُلِهِ) ؛ففصلَ بين "مُخْلِفَ"
و"رُسُلِهِ" بالمفعول وهو "وَعْدَهُ"؛لأن ّ المضافَ اسمُ فاعلٍ،واسمُ الفاعلِ شَبيهٌ بالمضافِ .
وقول الشاعر: وسِواكَ مَانِعُ فَضْلَهُ المُحتاجِ
ب*- أو ظرفُه ،أَنْشَدَ الجَوْهَرِيُّ : فَرِشْني بخَيْرٍ لا أكونُ ومِدْحَتي *** كَناحتِ يومًا صَخْرةٍ بعَسيلِ
تّقديره:كناحِتِ صخرةٍ يَوْماً؛ففصلَ بالظّرفِ بين المضافِ والمضافِ إليه .
ت*- أو مجرورًا:ويُلحَق بالظَّرفِ المَجرورُ،في جوازِ الفصلِ بين المتضايفين؛إذ الظرفُ و المجرورُ مِن وادٍ واحدٍ،قال - عليه الصلاة
والسلام - في حديث أبى الدّرداء:(هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي) .وقول الآخر:
لَأَنتَ مُعْتَادُ فِي الهَِيْجَا مُصابَرَةً * [يصلى بها كلُّ مَن عاداكَ نِيرانا]
ففصل بين " معتاد " و " مصابرة " بقوله:" الهيجا ".تقديره:ومعتا ُ مصابرةً فِي الهَِيْجَا .
ونحوه قول [دُرْنا بنت عبعبة أو عمرة الخثعميّة ]:
وهما أخوا في الحرب مَن لا أخا له ... إذا خافَ يوماً نبوةً فدعاهما
فصلَ فيه بين المضافِ إليه والمضافِ إليه بالمجرور لضرورة الشِّعر،فلذلك حُذفتِ النّون من أخوان؛فهو كقول ذي الرُّمّة (البسيط): كأنَّ أصواتَ مِن إِيغالِهنَّ بنا * أَواخِرِ المَيْسِ إِنْقَاضُ الفَراريجِ
الأصل:كأنّ أصواتَ أواخرِ المَيْسِ مِن إيغالهنّ بنا إنقاضُ الفَرَارِيجِ؛فف صلَ بين المضافِ والمضافِ إليه بقولِه:مِن إيغالهن بنا .
3. أن يكونَ الفاصلُ قَسَمًا.حكى الكِسائيُّ:(هذا غلامُ و اللّهِ زيدٍ)،ففصلَ بين "غلام" و "زيد" بالقسم.و التّقدير:هذا غلام زيد
واللّه.وحكى أبو عبيدة سماعاً عن بعض العرب:( إنّ الشّاةَ لَتَجْتَرُّ فتسمعُ صوتَ و اللّهِ ربِّها ).يريد:فتسمعُ صوتَ ربِّها واللّه .
والأربع الباقية تختصُّ بالشِّعر .وهي:
4. الفصلُ بالأجنبيّ ،ونعنِي به معمولَ غيرِ المُضافِ؛كأنْ يأتيَ:
أ*- فاعلاً لغيرِ المضافِ،كقول الأعشى : أَنْجَبَ أَيَّامَ والِداهُ بِهِ * إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ ما نَجَلا ! .
قال الفارسيّ:أنجبَ والداه به في زمانه،والكلام مُقدَّمٌ ومُؤَخَّرٌ .
وقال صاحب الموسوعة :المضافُ " أيام " والمضاف إليه " إذ نجلاه " والفاصلُ بينهما " والداه " فاعل " أنجبَ " الذي لا عَلاقة له بالمضاف .
ب*- أو مفعولاً به كقول [جرير ]: تَسقِي اِمْتِيَاحًا نَدَى المِسْواكَ ريقَتِها * كما تَضَمَّنَ ماءَ المُزْنَةِ الرَّصَفُ
والتّقدير:تَسقِ نَدَى رِيقَتِهَا المِسْواكَ .قال صاحبُ الموسوعة :(حيث فصلَ بين المضافِ " ندى " والمضافِ إليه " ريقتِها " بمفعول به " المِسْواك " لغير المضاف.أي مفعول به ل " تسقي ") .
ت*- أو ظرفًا،كقول أبي حيّة النُّميريّ (الوافر): كما خُطَّ الكتابُ بكَفِّ يَوْمًا * يَهُوديٍّ يُقاربُ أو يُزيلُ
والتّقدير:بكفّ يهوديّ .قال صاحب الموسوعة :(المضافُ " كَفِّ " والمضافُ إليه " يَهوديٍّ "،فصلَ بينهما الظَّرفُ يومًا)،وهو أجنبيٌّ من المضاف " كَفٍّ "؛لأنّه غيرُ معمولٍ له،بل هو معمولٌ للفعل " خُطَّ " .
ونحوُه قولُ عَمرو بن قَميئَة (السّريع):
لمّا رَأَتْ سَاتِيدَما اِسْتَعْبَرَتْ * لِلَّهِ دَرُّ اليومَ مَنْ لامَها
الأصل:لِلَّهِ دَرُّ مَنْ لاَمَها اليَوْمَ .
5. الفصلُ بفاعلِ المضافِ،كقولِ الشّاعر:
مَا إنْ رَأَيْنا لِلْهَوَى مِن طِبِّ * وَ لاَ عَدِمْنا قَهْرَ وَجْدٌ صَبِّ
قال صاحب الموسوعة :المضاف " قَهْرَ "،والمضافُ إليه " صَبِّ "،والفاصلُ " وَجْدٌ " فاعلُ المضاف .
6. الفصلُ بنعتِ المضافِ،كقولِ [معاوية بن أبي سفيان – رضي اللّه عنه -] :
نَجَوْتُُ وَقَدْ بَلَّ المُرادِيُّ سَيْفَه * مِن ابنِ أبي شيخِ الأباطحِ طالِب
قال صاحب الموسوعة :المضافُ " أبي "،والمضافُ إليه " طالب "،والفاصلُ " شيخِ الأباطح "،هو نعتٌ للمضاف،والتّقدي ر:مِن ابنِ أبي طالبِ شيخِ الأباطح .
وقال الآخر: وَ لَئِنْ حَلَفْتُ عَلى يَدَيْكَ لَأَحْلِفَنَّ * بِيَمِين أصدقَ مِن يَمِينِكَ مُقْسِمِ
الأصل: بيَمينِ مُقْسِمِ أصدقَ مِن يَمينِكَ .
7. الفصلُ بالنّداءِ،كقول الشّاعر: كأنّ بِرْذَوْنَ أبا عِصَامِ * زَيْدٍ حِمارٌ دُقَّ باللِّجامِ
الأصلُ:كأنّ برذونَ زيدٍ يا أبا عصام،حمارٌ دُقَّ باللِّجامِ .قال صاحبُ الموسوعة :(المضافُ "برذون"،[و] المضافُ إليه "زيد"،والفاصلُ بينهما النّداءُ " أبا عصامٍ ") .
وقال بُجير بن زهير (البسيط): وِفَاقُ كَعْبُ بُجَيْرٍ مُنْقِذٌ لَكَ مِنْ * تَعْجِيلِ تَهْلُكَةٍ وَالخُلْدِ فِي سَقَرِ
الأصلُ:وِفاقُ بُجَيْرٍ يا كَعْبُ .
و يراجع :
1. أخطاء ألفناها (ص12) .
2. ارتشاف الضَّرَب من لسان العَرَب (2 /533-535) .
3. أسرار البلاغة (1 /33) .
4. الأصول في النّحو (1 /240 ،923) .
5. إعراب ثلاثين سورة (ص125) .
6. أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (3 /177، 179- 180- 182- 183- 184- 185 ... 190، 192 - 195).
7. البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها (1 /437، 549) .
8. تاج العروس (1 /7324 - 7325) .
9. تصحيح التّصحيف وتحرير التّحريف (1 /89) .
10. تفسير القرطبيّ (7 /92 - 93) .
11. حاشية الصبّان على شرح الأشمونيّ لألفية ابن مالك (1 /1095) .
12. خزانة الأدب (1 /497 و 2/89 – 91 ،94) .
13. الخصائص (1 /219 - 220) .
14. زاد المسير (3 /129- 130) .
15. شرح ابن عقيل على الألفيّة (2 /82-86) .
16. شرح المكوديّ على ألفية ابن مالك (ص108 - 109) .
17. شرح ديوان الحماسة (1 /333) .
18. شرح ديوان المتنبيّ (1 /168) .
19. العقد الفريد (1 /250) .
20. العمدة في محاسن الشعر وآدابه (1 /133) .
21. فتح الباريّ (7 /376 كتاب فضائل أصحاب النبيّ- باب5) .
22. الكامل في النّحو و الصّرف و الإعراب (ص181 - 182) .
23. الكتاب (1 /148) .
24. الكشكول (1 /249، 289) .
25. لسان العرب (11 /444، 447) .
26. المحكم والمحيط الأعظم (1 /487 و 9/45) .
27. معجز أحمد (1 /190) .
28. مغني اللّبيب (2 /392، 672 ) .
29. المفصَّل في صنعة الإعراب (1 /17) .
30. المقتضب (4 /376 هذا باب ما يقع مضافاً بعد اللام) .
31. موسوعة النّحو و الصّرف و الإعراب (ص82 - 83) .
32. الوساطة بين المتنبيّ وخصومه (1 /121) .

يتبع / وكتب : محمّد تبركان