أثر تعدّد الآراء النّحويّة في تفسير الآيات القرآنيّة (1- 2) الدكتور سامي عوض(1)
ياسر محمّد مطره جي(2)
المقدّمة:
يُقْصَدُ مِنَ الدّورِ النّحْويِّ الخاصِّ بالعلومِ الشّرعيَّةِ ههنا، أَنْ يكون منطلقاً لدراسة القواعد الّلغويّة في الإفصاح عن معاني العديد من آي الذّكر الحكيم، باشتماله على القضايا الدّلاليّة والصّوتيّة والنّظميّة والأسلوبيّة والاصطلاحيّة والفكريّة، التي تتعلّق بالّلغةِ وأوجه استخدامها؛ والنّصِّ ومحاولة استيعاب رسالته، وما يندرج في ذلك من المسائل الفقهيّة والعقديّة، المستنبطةِ من الآيات القرآنيّة، والمبنيّةِ على القضايا النّحويّة والدّلالات الّلغويّة، المستفادة من المفردات والتّراكيب والأدوات والصّيغ وقواعد الاستنباط والاستدلال من الخطاب.
وقد حصر ابن رشد القرطبيّ الأسبابَ المؤدّيةَ إلى الاختلافِ بينَ الفقهاء، في تحديد معاني الألفاظ التي بنى عليها الأحكام في ستّةٍ، السّببُ الثّالث منها:«اختلاف الإعراب»(3)؛ وذلك لأهمّيّته في التّمييز بين المعاني التّركيبيّة، وقد ذكر الغزاليّ أنَّ أعظم علوم الاجتهاد، تشتمل على ثلاثة فنونٍ:«الحديثِ، والّلغةِ، وأصولِ الفقهِ»(4)، وكان الفرّاء يرى أنّ النّظر الصّحيح في الّلغة العربيّة يساعد على فهم أكثر العلوم، ويُروى أنّ أبا عمر الجرميّ مكث ثلاثين سنةً يُفتي النّاسَ في الفقه من كتاب سيبويه(5).
ومن ذلك كلّه يتّضح أنّ معظم أسباب الاختلاف في أحكام الفروع الفقهيّة، وبعض توجيهات الآيات القرآنيّة قائمٌ على أساسٍ نحويٍّ، وقد أشار إلى ذلك الزّمخشريّ، في قوله:«ويرون الكلامَ في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنيّاً على علم الإعراب، والتّفاسيرَ مشحونةً بالرّوايات عن سيبويه والأخفش والكسائيّ والفرّاء وغيرهم من النّحويّين البصريّين والكوفيّين، والاستظهار في مآخذ النّصوص بأقاويلهم، والتّشبّث بأهداب تأويلهم، وبهذا الّلسان مناقلتهم في العلم ومحاورتهم وتدريسهم ومناظرتهم، وبه تقطر في القراطيس أقلامهم»(6)؛ ممّا يدعو للرّجوع إلى الّلغة رجوعاً كلّيّاً في توجيه قصدِ الإنسان لإصدار الحكم الشّرعيّ على تصرّفه(7)، ويوضّح مدى التّلازم أو التّآخي بين علوم الّلغة العربيّة وعلوم الشّريعة الإسلاميّة عامّة، وعلوم القرآن خاصّة، حتّى غدا كلّ ُواحدٍ لا يتمّ إلاّ بالآخر، وهذه لحمةٌ أكّدها افتقار كلٍّ إلى الآخر؛ إذ لا يستطيع دارس علوم القرآن أَنْ يفيدَ منها-كما ينبغي-إلاّ بعد درسِ العربيّة وعلومها المختلفة، في حين لو تخلّت علوم العربيّة عن القرآن أو نأتْ، لتحولت جُثَّةً هامدةً، ولفقدت روحها الفاعلة وما فيها من مقوماتٍ أسلوبيّةٍ وبيان ناصع.
وعليه فالتّخلّي عن الإعراب-كما يقول الدّكتور مازن المبارك-في لغةٍ تعتمد حركات الإعراب للتّعبير عن المعاني النّحويّة كالّلغة العربيّة:«هدمٌ لها وإماتة لمرونتها، وإنّ في ترك حركات الإعراب إلباساً لكثير من الجمل والتّعبيرات، لباسَ الإبهامِ والغموض... إنّ كثيراً من الجمل تضيع معانيها بضياع الإعراب فيها، ومَنْ ذا الذي يستطيعُ أَنْ يقرأَ من غير إعرابٍ، فيفهمَ مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}(8)، وقولنا: ما أحسن زيد...»(9).
فَمِنْ تلك الجولةِ العجلى، يتّضحُ لنا شدّة ارتباط النَّحْو بالدّلالة، والإعراب بالمعنى، وهذا ما سنسعى إلى تأكيدِهِ، من خلال الوقوف على بعض الآيات القرآنيّة التي تتعدّد معانيها وتتنوّع دلالاتها بتعدّد أعاريبها، وتنوّع وجوهها النّحويّة، مبرزين أثر الاختلاف في الأوجه الإعرابيّة في تفسير الآيات القرآنيّة في ذلك كلّه؛ إذ إنّ اختلاف النَّحْويّين في إعراب آيةٍ ما يؤدّي -من غير شكٍّ- إلى اختلاف في معناها؛ ولعلّ في ذلك أكبرَ دليلٍ على أنّ النَّحْوَ مفتاحُ المعنى، وأنّ الإعرابَ سبيلُ الفهمِ، وأنّ أيّةَ دعوةٍ لإلغائهما أو إلغاء أحدهما تؤثّر بشكل فعّال في إغلاق الأفهام عن تدّبر معاني القرآن، وتسير بالنّحو إلى المكان الذي لا يريد، وتلغي غاية وضعه الأولى، وهي حفظ القرآن الكريم من الّلحن والضّياع.
أنواع الاختلاف:
إنَّ معرفةَ الإجماع ِواختلافِ العلماءِ، ضرورةٌ لابدَّ منها لكلِّ مَنْ قاده بحثُهُ لتدبّرِ طبيعة النظام التركيبيّ، والعناصر التي يتشكّل منها، من حيث الأسس التي تحكمها، والمعاني التي تتمثّل بها. أمّا الإجماع، فمصدر من مصادر التّشريع، لا يجوز مخالفتُهُ على قولِ العلماء، إذا قامتِ الحجّةُ بأنّه إجماعٌ تامٌّ(10)؛ لأنَّ الأمّةَ لا تجتمعُ على خطأ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -:«لا يَجْمَعُ اللهُ هَذِهِ الأُمَّةَ عَلَى ضَلالَةٍ أَبَدَاً»(11). وأمّا الاختلاف بينَ الأئمّةِ العلماءِ، فمضبوطٌ بقواعدَ وأصولٍ ومقاييسَ وعللٍ، تقوم على المنطق والحجّة والبرهان؛ ومرسومٌ بشروطٍ علميّة ٍوأخلاقيّة ٍونفسيّةٍ وجغرافيّةٍ؛ لئلاّ يضرّ بأساس المشروع الاجتماعيّ له، المتمثّل في بناء المجتمع الإنسانيّ، والمشروع العلميّ، والروحيّ، وفي محاكاة النّصوص، واستنباط ما أمكن من معانيها المتنوعة. ولابدَّ من الإشارة-قبل أَنْ نبحثَ في أهمّ أسباب الخلاف بين النّحويّين في استنباط قواعدهم النّحويّةِ-إلى أنَّ الاختلافَ نوعانِ: نوعٌ مذمومٌ: وهو ما كان نتيجةً للهوى وحبِّ الشهرة ِومجرّدِ المزاحمةِ، بغير منطقٍ ولا حجّةٍ إلا ّواهية، وهذا ليسَ موضوعَ بحثِنا. ونوعٌ آخرُ محمودٌ: وهو ما كان نتيجةً للاجتهادِ المنضبط بجميع مستوياته، الموصلِ إلى الحقائقِ المكنونةِ بالحجّةِ الدّامغةِ والبرهانِ السّاطعِ والقولِ القاطعِ، وهو وجهةُ بحثنا، والطريقُ الذي نسير عليه للوصولِ إلى المعاني المتعدّدة بتعدّد الأوجه الإعرابيّة.
الإعراب، والعلامة الإعرابية، وأثرهما في تنوّع المعاني:
من الواضحِ لدى المهتمّين بعلمِ النَّحْوِ أنّ الإعرابَ في حقيقته، عبارةٌ عن بيان موقع الكلمة أو الجملة من الكلام، وذلك يعتمد على فهم المعنى وتحديده؛ ولذلك جعله ابن جني دليلاً على اختلاف المعاني بقوله:«ألا ترى أنّ موضوع الإعراب-على مخالفة بعضه من حيث كان-إنّما جيء به دالاً على اختلاف المعاني»(12) ومعنى هذا أنّ الإعرابَ بيانُ ما للكلمةِ في الجملةِ مِنْ قيمةٍ نحويَّةٍ، أو معنىً إعرابيٍّ، وهذا الفهم السّليم للإعراب الذي يتلاءم مع طبيعةِ الدّرس الّلغويّ، وأسرارِ التأليف، كان ينبغي له أَنْ يسود، ليبطلَ أَنْ يكون الإعراب أثراً للعامل في المفعول، وما يترتّب على هذا كلّه(13). ومن هنا كانت علامات الإعراب تقوم على تغيّر المعنى في أثناء الكلام، وقد وضِعتْ للّفظ المفرد؛ لتكون دليلاً على موقعه من الكلام، أو علامة قرائيّة لبيان المعنى، وهي ميزة للغة العربية؛ لأنّها في حقيقتها ضربٌ من ضروب الإيجاز(14)، فقد تكون الإبانة بالحركات أو بالسكون أو بالحذف أو بالحرف أو بالتنوين أو حذفه(15). أمّا النّصوص التي دلّتْ على العلاقة بين العلامات الإعرابيّة والمعاني فكثيرةٌ، والإلحاح فيها على وظيفةِ العلامات واضحٌ؛ فقد ربط الزّجّاجيّ بين الإعراب والمعنى، حين قال:«والإعرابُ إنَّما دخل الكلامَ؛ ليفرّقَ بينَ الفاعل ِوالمفعول، والمالكِ والمملوك، والمضاف إليه، وسائر ما يَعْتَورُ الأسماء من المعاني»(16)؛ والإعراب عند ابن جنّي:«هو الإبانة عن المعاني بالألفاظ، ألا ترى أنَّكَ إذا سمعت "أكرمَ سعيدٌ أباه"، و"شكرَ سعيداً أبوه"، علمْتَ برفعِ أحدهما ونصبِ الآخر، الفاعلَ من المفعول، ولو كان الكلام شرجاً واحداً، لاستبهمَ أحدُهما من صاحبِهِ»(17)؛ وهو عند السّكاكيّ مرتبطٌ في جميع جزئيّاته بالمعنى؛ إذ به توجّه المعاني وتعرف الدّلالات، وذلك بقوله:«إنَّ كلَّ واحدٍ من وجوه الإعراب دالٌّ على معنىً، كما تشهد لذلك قوانينُ علمِ النّحْو»(18).
وهذا يؤكّد أنَّ العلاقة بين الحركات والمعنى، كانت من قبيل المسلّمات، أليسوا قد ذكروا(19) أنَّ أبا الأسود سمع أعرابيّاً يقرأ:«أنَّ اللهَ بريءٌ من المشركينَ ورسولِهِ» بالجرّ، فقال: معاذَ الله أَنْ يكونَ اللهُ بريئاً مِنْ رسولِهِ، اقرأ:{أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}(20)، فالكلامُ واحدٌ، ولم يتغيّر فيه، إلاّ حركةُ الّلام؛ فإذا حُرّكت بالجرّ أدّى إلى الخروج عن المعقول والعقيدة، وإذا حُرّكت بالرّفع أدّى إلى معنىً مستقيمٍ لا لبسَ فيه ولا إنكار؛ فهل كانوا يرون ذلك، وهم يظنّون أنَّ حركاتِ الإعراب لا تدلّ على معنىً، ولا أثرَ لها في تصوير المفهوم؟!. ومن هنا كان إعراب النّصوص مدخلاً طبعيّاً وأساساً لفهم المضامين، ولذلك تضمّ المكتبة الّلغويّة عدداً كبيراً من هذه النّصوص المعربة، من جملتها: "إعراب الحديث" للعكبريّ، و"إعراب لاميّة العرب الموسوم بأعجب العجب" للزمخشريّ، و"شرح لاميّة العجم" للشّيخ المكّيّ البطاوريّ. كما أفرد إعرابَ القرآنِ بالتّأليفِ عددٌ لا بأسَ به من العلماء، من أمثال: الفرّاء والأخفش والزّجّاج والنّحّاس وابن خالويْهِ والعكبريّ وأبي حيّان... وكتبهم مطبوعةٌ متداولة، وقد كانت مقدّمات هذه الكتب تشير إلى ضرورة هذا الأمر، ومنها مقدّمة القيسيّ التي يقول فيها:«ورأيت من أعظم ما يجب على طالب علوم القرآن، الرّاغب في تجويد ألفاظه وفهم معانيه ومعرفة قراءاته ولغاته، وأفضل ما القارئ إليه محتاجٌ، معرفة إعرابه، والوقوف على تصرّف حركاته وسواكنه؛ ليكونَ بذلك سالماً من الّلحن فيه، مستعيناً على إحكام الّلفظ به، مطّلعاً على المعاني التي قد تختلف باختلاف الحركات، متفهّماً لما أراد اللهُ-تبارك وتعالى-به من عباده؛ إذ بمعرفة حقائق الإعراب تُعرف أكثرُ المعاني، وينجلي الإشكال، وتظهر الفوائد، ويفهم الخطاب، وتصحّ معرفة حقيقة المراد»(21).
وما ذلك إلاّ لأنّه بالإعراب تميّز المعاني، ويوقف على أغراض المتكلِّمِيْنَ(2 2)، ومن هنا كان لا بدّ أَنْ يراعى المعنى في فهم حقيقة المراد من التّركيب أو الجملة أو العبارة أو المفرد قبل إعرابه، فإنّه فرع المعنى(23)، ويقول ابن هشام معبّراً عن ذلك أدقّ تعبير:«وها أنا مورِدٌ بعون الله أمثلةً، متى بُنِيَ فيها ظاهر الّلفظ ولم ينظر إلى موجب المعنى، حصل الفساد، وبعض هذه الأمثلة وقع للمعربين فيه وهمٌ بهذا السّبب... أحدها قوله تعالى:{أَصَلاَتُ كَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}(24)، فإنّه يتبادر إلى الذّهن عطف "أنْ نفعلَ"، على "أنْ نتركَ"، وذلك باطلٌ؛ لأنّه لم يأمرْهم أنْ يفعلوا في أموالهم ما يشاؤون، وإنّما هو عطفٌ على "ما"، فهو مفعولٌ للترك، والمعنى "أنْ نترك أنْ نفعل..."، وموجب الوهم المذكور أنَّ المعربَ يرى "أنْ" والفعل مرّتين، وبينهما حرف العطف»(25)، وقد ذكر ابن هشام أنّه من الجهات التي يدخل الاعتراض على المعرب من جهتها، أنْ يراعيَ ما يقتضيه ظاهرُ الصّناعة، ولا يراعي المعنى، إذ كثيراً ما تزلُّ الأقدام بسبب ذلك(26)؛ وذلك لأنَّ الخطأ والتّحريف في الحركات، كالخطأ والفساد في المتحرّكات، كما يقرّر السّيرافيّ(27). ويذهب العلويّ إلى أنَّ المعاني التي تدلُّ عليها الحركات الإعرابيّة هي معانٍ مطلقة، بقوله:«فالنّظرُ في علم الإعراب، إنّما هو نظرٌ في حصول مطلق المعنى، وكيفيّة اقتباسه من الّلفظ المركّب فلا بدَّ من الإحاطة بصحّة التّركيب، ليأمن الخلط في تأدية المعاني وتحصيلها»(28)؛ بمعنى أنَّ الإعراب في المرحلة الأولى، يحدّد المعاني التي يؤدّيها التّركيب بعيداً عن أيِّ غرضٍ جزئيٍّ، ثم يفهم الفاعليّة والمفعوليّة والإضافة، إذ إنَّ هذه المعاني الثّلاثة تنحصر فيها كلُّ المعاني، ومنها تؤخذ جميع الدّلالات، وعليه فمعرفتها مقدّمة على غيرها؛ ومن هنا كان الاتّكال على العلامة الإعرابيّة، باعتبارها كبرى الدّوالّ على المعنى، وعليه فمن الواجب أنْ ندرسَها، ونبحثَ-في أثناء الكلام-عمّا تشيرُ إليه كلُّ علامةٍ منها، ونعلمَ أنَّ هذه الحركاتِ تختلفُ باختلاف موضع الكلمة من الجملة، وصلتها بما معها من الكلمات. وقد أدرك بعضُ الّلغويّين المحدثين بعض هذا، يقول ريمون طحّان:«ولئن ألفينا الآن الاعتمادَ على مواقع الكلمات في الّلغة العربيّة، وأخذنا نقوم أحياناً دون العودة إلى الحركة، بالقرائن الخلاّقة التي تنقل إلينا بسرعة ما يمكن أنْ يولّده النّصّ من أرجاعٍ ذهنيّة، تساعدنا على فهم ما نقرأ فهماً صحيحاً وعلى نقده وتحليله، فإنّنا لا نزال نستأنس بالحركة، عندما يغلق المعنى علينا ويحدث الّلبس»(29).
ولعلَّ خير ما قيل في الحركات الإعرابيّة من العلماء المحدثين، قول الدّكتور مازن المبارك: « وتتميّز الّلغة العربيّة-فيما تتميّز به-بحركات الإعراب التي هي-في حقيقة الأمر-ضربٌ من الإيجاز، إذ يدلّ بالحركة على معنىً جديدٍ غير معنى المادّة الّلغويّة للكلمة، وغير معنى القالب الصّرفيّ لها، وهو معناها أو وظيفتها النّحويّة، كالفاعلية أو المفعوليّة... وهكذا، فحركات الإعراب ليست شيئاً زائداً أو ثانويّاً، وهي لم تدخل على الكلام اعتباطاً، وإنّما دخلت لأداء وظيفةٍ أساسيّةٍ في الّلغة؛ إذ بها يتّضح المعنى ويظهر، وعن طريقها نعرف الصّلة النّحويّة بين الكلمة والكلمة في الجملة الواحدة»(30)، وبهذا المفهوم يكون الإعراب في مبدئه القائم على الحركات، لغةً نضيفها إلى لغتنا الأولى التي هي الألفاظ، فإذا نحن أمام ثروةٍ لغويّةٍ لا نفاد لها(31).
وبقراءةٍ واعيةٍ وموضوعيَّةٍ لما سبق، وبمعرفةٍ عقلانيَّةٍ أنّ القرآن الكريم-إضافة إلى ما يشتمل عليه من أحكام وتشريعات وغيرها-هو آية في البلاغة والفصاحة والإتقان اللغويّ، ينبغي أنْ ندركَ أنّ تفسيرَ آياته وتحليلَ تراكيبه وفهمَ معانيه وإدراكَ غريبه، يحتاجُ إلى فهمٍ واعٍ وعميقٍ للنَّحْو والإعراب، فقد روى القرطبيّ عن ابن الأنباريّ قوله:«وجاء عن أصحاب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، وتابعيهم - رضي الله عنه -، من الاحتجاج على غريب القرآن ومشكله باللغة والشعر، ما بيّن صحةَ مذهبِ النحويّين في ذلك، وأوضح فسادَ مذهبِ مَنْ أنكر ذلك عليهم»(32).
دورُ الاختلافاتِ في الأوجهِ الإعرابيّةِ في توجيه ِالمعاني في القرآن ِالكريمِ:
وممّا سبقَ يتبيّنُ لنا أنَّ التفات النَّحْويّين وتوجّههم-بعد أن صاغوا هيكليّة هذا العلم الجميل-إلى تفسير القرآن الجليل كان التفاتاً طبعيّاً، وتوجّهاً بدهيّاً؛ لأنّهم لم ينسوا أنَّ الغاية من وضعهم للنَّحْو هي خدمةُ معاني هذا الكتاب الخالد وتحليلُها واستنباطُ الأحكامِ منها، كما أنَّ دراسةَ النَّحْو لأسلوب القرآن الكريم في جميع رواياته، فيها دفاعٌ عن النَّحْو، تعضدُ قواعدَهُ، وتدعمُ شواهدَهُ. ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ النّاظرَ في كتب إعراب القرآن وكتب التّفسير، يلحظ كثرة اختلاف النّحويّين في إعراب القرآن، وتعدّد المعاني النّاتجة عن تلك الاختلافات وتنوعها، وقد أرجع الأستاذ عضيمة ذلك إلى أمرين: «1ـ أسلوب القرآن معجز، لا يستطيع أحدٌ أن يحيط بكلّ مراميه ومقاصده، فاحتمل كثيراً من المعاني وكثيراً من الوجوه. 2ـ يحتفظ النّحويّون لأنفسهم بحريّة الرّأي وانطلاق الفكر، فلا يعرفون الحجر على الآراء، ولا تقديس رأي الفرد، مهما علت منزلته»(33)؛ وهذا يعني أنّ اختلاف النَّحْويّين في إعراب آيةٍ ما، ينعكس على اختلاف في فهم معناها واكتشافه ومِنْ ثَمَّ إدراكه، ممّا يستوجبُ توفّر القدرة اللغويّة لدى المفسّر في هذا الحقل من علوم اللغة، ولا سيّما أنّ مساحة هذا المجال في القرآن الكريم واسعة وذات أثر مهمّ. ومِنَ الملحِّ ذكرُهُ في هذا المقام، أنّ هذه المعاني التي تتعددّ وجوهها الدّلاليّة بتعددّ وجوهها الإعرابيّة، تتمخّضُ عنها وجوه متعدّدة في فهم الآية القرآنيّة الواحدة؛ فمنها ما يؤدّي إلى قوةٍ أو ضعفٍ في إظهار الدّلالة أو إبراز المعنى، ومنها ما يؤدّي إلى اختلافٍ في الأحكام الفقهيّة للدِّين التي سنّها اللهُ- تعالى- للخَلْقِ في كتابه الكريم؛ وذلك يعود إلى أسباب عديدة لا يمكنُ حصرُها جميعِها في هذا البحث، وسأتناول منها ما يلي: القرينة المعنويّة: ولعلّ خيرَ شاهدٍ نستدلُّ به على فضل مكانة الإعراب في هذا الجانب، قولُهُ تعالى: {كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (34)، فقد بدا بالإعراب فاعليّةُ العلماء، ومفعوليّةُ لفظ الجلالة، وكشفت عن ذلك القرينة المعنويّة؛ فقوله "كذلك" فيه وجهان، أظهرهما أنّه متعلّقٌ بما قبله؛ أي مختلفٌ اختلافاً مثل الاختلاف في الثمراتِ والجُدَدِ، والوقف على "كذلك"، والآخر أنّه متعلّق بما بعده؛ أي مثل ذلك المطرِ والاعتبارِ في مخلوقات الله تعالى، واختلافِ ألوانها يخشى اللهَ العلماءُ(35)، وإلى هذا نحا ابن عطيّة(36)، وهو فاسدٌ عند أبي حيَّان، من حيثُ إنّ ما بعد "إنّما" مانع من العمل فيما قبلها(37)، وعليه فَمِنَ الواضحِ أنّ الوقف عند "كذلك" كان لعلّة نحويّة أشار إليها علماء الإعراب، ممّا يؤدي إلى وضوح في المعنى، وإتقان في التأويل، ثُمّ يأتي الاستئناف في قوله:«إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ». ويطرح الزّمخشريّ في كشّافه السؤال التالي: هل يختلف المعنى إذا قدّم المفعول في هذا الكلام، أو أخّر؟ ويجيب قائلاً: لا بدَّ من ذلك، فإنّك إذا قدّمت اسم الله وأخّرت العلماء، كان المعنى: أنّ الذين يخشون اللهَ مِنْ بين عباده هم العلماء دون غيرهم، وإذا عملت على العكس، انقلب المعنى إلى أنّهم لا يخشون إلاّ الله، كقوله تعالى:{وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ}(38)، وهما معنيان مختلفان(39)؛ لأنّ "إنّما" في هذه الآية تخصيص العلماء لا الحصر، وهذا القصر المستفاد من "إنّما" قصرٌ إضافي؛ أي لا يخشاه أهل الشرك، فإنّ من أخصِّ أوصافهم أنّهم أهلُ الجاهلية، أي عدم العلم، فالمؤمنون-يومئذ-هم العلماء، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله(40)، فإنْ قلتَ: ما وجهُ اتّصالِ هذا الكلام بما قبله؟ فالجواب: لمّا قال: "ألم ترَ" بمعنى: ألم تعلم أنّ اللهَ أنزلَ من السماء ماءً، وعدّد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك:«إنّما يخشى اللهَ من عباده العلماء» كأنّه قال: إنّما يخشاه مثلك، ومَنْ على صفتك مِمَّنْ عرفه حقّ معرفته(41)؛ إذ إنّ ظاهر قوله تعالى: "ألم ترَ" خطابٌ للرّسول - صلى الله عليه وسلم -. ولا يرى ابن هشام مانعاً من أنْ تكون "ما" في "إنّما"، بمعنى الذي-وإنْ كان النحويّون قد جزموا بأنّها كافّة-ومحلّها الرفع على الابتداء، والعلماء خبرها، والعائد مستتر في "يخشى"(42)، وفي هذا الوجه ضعفٌ من جهتين: الأولى أنّ "ما" الموصولة تكون قد أطلقت على جماعة العقلاء وهم "العلماء"، والثّانية لِمَا في الآية من تخصيصٍ بَيِّنِ الدّلالةِ، ظاهرِ المعنى، دلّ عليه أداة القصر "إنّما" الكافّة والمكفوفة، وتقديم المفعول لفظ الجلالة "الله" على الفاعل "العلماء". التقديم والتأخير: ويعدّ التّقديم والتّأخير من مصادر الّلبس الكبرى، فالأصل فيه عدم الّلبس؛ لذلك كان من وصايا النقّاد للكتّاب أَنْ يتجنّبوا ما يكسب الكلام تعمية، فيرتّبوا ألفاظهم ترتيباً صحيحاً، ولا يكرهوا الألفاظ على اغتصاب الأماكن(43)؛ أمّا إذا خيفَ الّلبس وهدّد القصد وأمكن للسّامع أَنْ يحمل الخطاب على غير المراد، فينتقض العهد وينحلّ العقد وتتبدّل القضيّة والحكم، فلا مناص من إيفاء الّلغة أقدارها وإحلال الكلمات محالّها(44)، يقول جبر ضومط:«فإذا راعيتَ هذه الأغراض: المحافظة على حسن الرصف والفاصلة، فقدِّمْ ما شئت وأخِّرْ ما شئت، على شرط ألاّ يقعَ التباسٌ في الجملة... ولذلك لا يصحّ في جملة [لو اشتريت لك بدرهم لحماً تأكلينه] تأخير الجار والمجرور الأول، وتقديم الثاني عليه، ولا في جملة:{وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى}(45) أنْ تؤخّر المجرور أصلاً؛ لأنّ التأخير يؤدّي في الحالين إلى الالتباس»(46). فالتّقديم قد يكون دافعاً للّبس أو جالباً له حسب المباحث، ومثال تأخير الجار والمجرور الممتنع بسبب اللّبس قوله تعالى:{وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ}(47)؛ إذ جعلوها مثالاً على أنّ تأخير الجار والمجرور يخلّ بالمعنى، يقول الزّركشيّ: «فإنّه لو أخّر من آل فرعون"، لما فُهِمَ أنّه منهم» (48)؛ وذلك لأنّ في التأخير خيفة أنْ يلتبس المعنى بغيره، فالرجل المقصود بالآية الكريمة هو من آل فرعون(49)، وقيل: كان ابن عم فرعون، وكان قبطيّاً(50)؛ وعليه فإنّ "من آل فرعون" متعلّق بصفة محذوفة من رجل، وقال السدّيّ: كان هذا الرّجل إسرائيليّاً يكتمُ إيمانَه من آل فرعون(51)، ففي الكلام على هذا تقديم وتأخير، والتقدير: "وقال رجل مؤمن يكتم إيمانه من آل فرعون"؛ فَمَنْ جعل الرجلَ قبطيّاً، فـ "من" عنده متعلّقة بمحذوف صفة لرجل، والتقدير: وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون؛ أي من أهله وأقاربه، ومَنْ جعله إسرائيليّاً فـ"من" متعلّقة بـ"يكتم"، في موضع المفعول الثاني له(52)، ومَنْ جعله إسرائيلياً، ففيه بعد؛ لأنّه يقال كتمه أمر كذا، ولا يقال كتم منه، كقوله تعالى:{وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا}(53)، وأيضاً ما كان فرعون يحتملُ من بني إسرائيل مثل هذا القول(54). ومن يتدبّر معنى هذه الآية يدرك تماماً أنّه بالإعراب تتوضّح المعاني، وتنكشف الأغراض، فقد قدّم تعالى "من آل فرعون"، على: "يكتم إيمانه"؛ لئلا يظنَّ ظانٌّ أنّه متعلق به فيلتبس المعنى، ويختلّ المقصود(55)، والذي أكّد ذلك أنّ الفعل "يكتم" يتعدى إلى مفعوله بنفسه، ولا يحتاج إلى حرف الجر "من". ففي الآية السّابقة ثلاثة نعوت، قدّم أهمّها، وهو"مؤمن"، وأخّر النعت الجملة [يكتم إيمانه] منعاً من الالتباس، ومراعاةً لحسن النظم معاً؛ إذ يمكنُ إجمال صور التركيب الممكنة فيما يلي: 1ـوقال رجلٌ مؤمنٌ من آلِ فرعونَ يكتمُ إيمانه. 2ـوقال رجلٌ مؤمنٌ يكتم إيمانه من آل فرعون. 3ـوقال رجل من آل فرعونَ مؤمنٌ يكتم إيمانه. 4ـوقال رجل من آل فرعونَ يكتم إيمانه مؤمنٌ. 5ـوقال رجلٌ يكتم إيمانه من آل فرعون مؤمنٌ. 6ـوقال رجلٌ يكتم إيمانه مؤمنٌ من آل فرعونَ. فمن هذه الجمل الستّ، الجملة الثّانية والخامسة ممنوعتان، لوقوع الالتباس فيهما، والثّالثة والرّابعة والسّادسة جائزات بحسب الّلغة، إلاّ أنّ البلاغة تنكرهنّ لتقدّم غير الأهمّ فيهنّ على الأهمّ(56). ___________________________ يتبع .