استشكال موضع قبر يوسف
وأما قول بعضهم: جاء في الحديث: «إن عظام يوسف كانت مطمورة في بحيرة مستنقع ماء» وهذا جِدُّ عجيب!
قلت: نعم هذا عجيب مُطْرِب، وقد أخبرنا رسولنا الكريم أنه كانت في بني إسرائيل: «الأعاجيب»، وهذا الحديث منها؛ ولذلك قال في رواية أخرى: «حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج»، أي ولا حرج عليكم في رواية مثل تلك العجائب والغرائب التي كانت منتشرة بين القوم في عصرهم.
أمَّا إذا كان القصْد من التعجب هنا: هو ردُّ الخبر جملة! فنقوله لصاحبه: ما ثمَّ عُجْبٌ إلا في خيال المعترض وحده!
وقد مضى أنه كان بين يوسف وموسى أزمان ودهور، وأيام وعصور، عفَتْ فيها مآثر كثير من الأشياء التي يُبْلِيها تناسُخُ المَلَوَيْنِ، ويُخْلِقُها تعاقُبُ الجَدِيدَيْن، فلا يبعد أنْ كانت تربة يوسف-عليه السلام- في أرض مستوية يغشاها مَنْ يغشاها، ثم أصابتْها عَوَادِي الزمان، مع ما اشتهر في تلك العصور الغابرة من السيول والفيضانات، فأصابها ما أصابها حتى انقلبتْ التربةُ إلى مستنقع ماءٍ يُشْبه البحيرةَ الصغيرة.
ومثل هذه التغيُّرات في الأماكن والقبور والمَعاهِد: أمرٌ مشهور لا ينكره إلا من يجهل عبَثَ الدنيا بأهلها، وتصاريف أقدار الله في معالِمِها وأرْضِها.
وها نحن في القرن الخامس عشر وقد سمعنا وقرأنا عن مقابر دُفِن فيها جماعة من الأعيان منذ عهد قريب لا تكاد العين ترى لها أثرًا في تلك الأيام! ومن طالع كتب «الخُطَط والآثار» للمقريزي وعلي مبارك وغيرهما، أو كتاب النور السخاوي: « تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والتراجم والبقاع والمباركات»، أو سواه من كتب: «مَزَارات الصالحين»، لوجد أصحابها قد نصوا على ما لا يُحْصى من القبور والمشاهد التي اندثرتْ بعوامل الزمان.
وهذا كله مع قُرْبِ العهد، وتقارب الأيام، فكيف إذا بَعُد الوقت، وطال الأمد، وعزَّ الدَّرَك!
استشكال عظام يوسف
وقد استشكل بعضهم: قوله في الحديث: «عظام يوسف» ؟
وأجاب عن ذلك الإمام الألباني في «السلسلة الصحيحة » [1/623-624] بقوله:
« [فائدة] كنت استشكلت قديمًا قوله في هذا الحديث «عظام يوسف»؛ لأنه يتعارض بظاهره مع الحديث الصحيح: «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء»!
حتى وقفت على حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَدُن، قال له تميم الداري: ألا أتخذ لك منبرًا يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: بلى؛ فاتخذ له منبرًا مِرْقاتَيْن ».
أخرجه أبو داود (1081) بإسناد جيد على شرط مسلم.
فعلمتُ منه أنهم كانوا يطلقون « العظام »، ويريدون البدن كله، من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، كقوله تعالى « وقرآن الفجر» أي: صلاة الفجر.
فزال الإشكال والحمد لله، فكتبتُ هذا لبيانِه».
قلت: وهو جواب حسن، وقبله أجاب الحافظ الشمس السخاوي عن هذا الاستشكال بقوله في كتابه: « الدر المنضود في الصلاة والسلام على صاحب المقام المحمود» [ص/ 161/طبعة دار المنهاج]، وهو بصدد تقرير حياة الأنبياء في قبورهم:
« ولا ينافي ما تقرر من حياتهم ما في «صحيح ابن حبّان» في قصة عجوز بني إسرائيل: أنها دلَّتْ موسى على الصندوق الذي فيه عظام يوسف على نبينا وعليهما أفضل الصلاة والسلام، فاستخرجَه وحمَلَه معهم عند قصْدِهم الذهابَ من مصر إلى الأرض المقدسة؛ إما لأنها أرادت بالعظام كلَّ البَدَن، أو لأن الجسد لَمَّا لَمْ تشاهد فيه روح.. عُبِّرَ عنه بالعظم الذي من شأنه عدم الإحساس، أو أن ذلك باعتبار ظنها أن أبدان الأنبياء كأبدان غيرهم في البِلَى.... ».
قلت: وبعض هذه الأجوبة حسن كما ترى.
[تنبيه] قول السخاوي: « أنها دلَّتْ موسى على الصندوق الذي فيه عظام يوسف ... » فلفظ «الصندوق» ليس في سياق ابن حبان!
فإما أن يكون السخاوي أخَذَه من قول ابنِ إسحاق المُطَّلِبِي: « قبر يوسف كما ذُكِرَ لي في صندوق من مَرْمَر في ناحية من النيل في جوف الماء». أخرجه عنه ابن جرير في «تاريخه» [1/ 219/الطبعة العلمية].
أو أخذَه من قول كعب الأحبار الأتي: « فوجدوا يوسف -عليه السلام- في تابوت من مرمر فاحتملوه».
وإما أن يكون أخذه مما جرَتْ به عادة بني إسرائيل والقدماء من اتخاذ التوَابِيت للموتى.
التعلل بردِّ الأخبار الثابتة بكونها وردتْ في كتب الأقدمين
2- دعوى أن الحديث أصله من «الإسرائليات»! لا يزال يتسلَّط بها طوائف من أهل البدع والزائغة أبصارهم في التنكب عن صحاح الأخبار مما استعجم عليهم فلم يجدوا لها في صدورهم مساغًا ولا بَلاغًا! وراحوا يُحِلِّون- بتلك الدعوى- نِقْمَتهم على ما يشتهون ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا!
ومن قبلُ: زعم أحدُ الهَلْكى من الروافض أن حديث: «مَنْ عادَى لِي وليًّا » أصله إسرائيلي لا يثبت مرفوعًا! فقال هذا الخاسر في كتابه «أضواء على السنة النبوية» [ص/176]:
« ومَنْ له حاسة شَمِّ الحديث يجد في هذا الحديث رائحة إسرائيلية»!هكذا يقول هذا المَخْشُوم الذي انْسَدَّ مُتَنَفَّسُه فما عاد يشُّمُّ شيئًا! وقد ردَّ عليه إمام العصر العلامة المعلمي اليماني بقوله في «الأنوار الكاشفة» [ص/ 205]:
« قد علمنا أن كلام الأنبياء كله حق من مشكاة واحدة، وأن الرب الذي أوحى إلى أنبياء بني إسرائيل هو الذي أوحى إلى محمد -صلى الله عليه وسلم-. ولو جاز الحكم بالرائحة لَمَا ساغ أدْنَى تشكُّكٍ في حُكْمِ البخاري؛ لأنه أعرف الناس برائحة الحديث النبوي ... ».
قلت: فكلام الأنبياء يُصدِّق بعضه بعضًا، وهذا أمرٌ قد تناصَرَتْ عليْه الأخْبار، وتظاهرَتْ لنُصْرَته الأنْباء، وتوَاطأتْ به الروايات.
ثم أوقفني بعض أصحابنا على كلام جيد للشيخ المحقق البارع عبد الله بن يوسف الجديع في كتابه النفيس «تحرير علوم الحديث» [2/ 751- 752/طبعة مؤسسة الريان] يقول فيه:
«رابعًا: أن يأتي الحديث موافقًا للمنقول عن أهل الكتاب.
هذه علامة لا تصلح لتعليل أحاديث الثقات، حتى تقوم حجة على كون الحديث مما أخطأ فيه بعض الرواة فنسبه مرفوعاً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وهو من الإسرائيليات.
والعلة في منع التعليل بمجرد موافقة ما عند أهل الكتاب، أن الوحي الذي أنزل على نبينا -صلى الله عليه وسلم- جاء مصدقًا لِمَا جاء به النبيون من قبل، وفي القرآن الكثير مما يوافق ما عند أهل الكتاب، فتأمل.
ولم أجد في منهج أهل العلم بالحديث مثالًا واحدًا أعلوا به رواية ثقة بمجرد وقوع تلك الموافقة، حتى يقوم دليل على وهم الثقة، كأن يروي ثقة حديثًا عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم يوجد من رواية من هو أوثق منه عن أبي هريرة عن كعب الأحبار، يحكيه عن التوراة.
ولكني وجدت بعض أهل زماننا ممن ليس من هذا العلم في شيء يشكك في بعض الحديث؛ لكونه وجد نظيره في التوراة التي عند اليهود.
كما سمعت من أحدهم في حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم قال: «خلق الله آدم على صورته، طوله ستون ذراعًا... » الحديث.
قال: «هذا آية في التوراة»!
وأقول: لو صح ما زعمه ما ضر ذلك في صحته حديثاً عن نبينا -صلى الله عليه وسلم، فيكون من العِلْم المصدّق لِمَا عند أهل الكتاب».
تابع البقية: ...