ضوابط مصطلح الحرب الأهلية
المنهج السديد في ضبط المصطلحات الشرعية والدخيلة، لا يجوز الخوض فيه بدون معرفة وجوه الأدلة الشرعية ومعاني المصطلحات ودلالاتها ومعرفة السِّياق الذي وقعت فيه تلك المفاهيم .

وفي القرون المتأخرة كثر الخلط بين المصطلحات الشرعية وبين المصطلحات الدخيلة، وصرفها عن المعاني الصحيحة التي سيقت من أجلها لقوة دلالاتها ، وقد وقع ذلك عمداً بسبب التغريب في الثقافة الاسلامية ، أو جهلاً بسبب اغفال القيود الشرعية على المصطلحات ومعانيها .

والمتأمل للشريعة الاسلامية يلحظ أنها ترجع إلى قول واحد في فروعها وأصولها ، فلا يجوز ايقاع الناس في الحيرة في مسائلها . وهذا أصل متفق عليه بالاجماع .

وفي الآونة الاخيرة شاع استعمال مصطلح الحرب الاهلية في كثيرٍ من من المقالات الاسلامية التحليلية .

والأمانة العلمية تُحتِّم توضيح مفهوم مصطلح الحرب الأهلية ومتى ينتقض هذا المصطلح ، لأن كثيرا من الباحثين والصحفيين طفقوا يُسوِّقون هذا المصطلح على كل نازلة تنزل في بلاد المسلمين وتسيل فيها الدِّماء وتكون مسرحاً للأحداث والنكبات . والقاعدة الأصولية أن ما جاز لعذر بطل بزواله ، فلا يصح التعميم .

1- مصطلح الحرب الاهلية مصطلح حادث ولا مخالفة شرعية في استعماله من حيث التقعيد ، إذ لا ينبني عليه تعبُّد حين اطلاقه ، إلا إذا اقترن بتأصيل مخالف للشرع . ومصطلح الحرب الاهلية تصنيف لفظي لصفة الحرب ، والعلة من اطلاقه : التفريق بين العدوان الخارجي والعدوان الداخلي الذي يحدث بين أهل بلدٍ واحد ، بلا اعتبار لمذاهبهم ودياناتهم . وفي المرفوع : " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضربُ بعضكم رقاب بعض" . متفق عليه .

2- الحرب الأهلية تقع في البلاد المسلمة وغير المسلمة ، بغض النظر عن صفة من يحكمها .
وتعتبر الأرض دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جُلُّ أهلها من الكفار.
وتعتبر الأرض دار كفر بظهور أحكام الكفر فيها، وإن كان جل أهلها من المسلمين .

3- الأصل العام لوقوع الحرب الأهلية هو الجور والجوع والفساد، ويُستبعد حدوثها إذا تم العدل والأمن بين أفراد الأمة ، سواء كانت كافرة أو مسلمة .
وقد نصح الرسول صلى الله عليه وسلم المضطهدين في أول الاسلام بالهجرة الى الحبشة ، لأن فيها ملكا لا يُظلم عنده أحد .
فالخوف من الاستئصال العقدي يوجب الحرب أو الهجرة .
ومما يُؤثر عن أبي ذرِّ( ت: 32هـ) رضي الله عنه قوله : "عجبتُ لمن لا يجد القوتَ في بيته ، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه" . وهو إن صح اسناده ، فمحمولٌ على طلب الحق والكفاية التي يُحرم منها من وجبت له بلسان الشرع ، في بلد لا يقام فيه حكم الله . لكنه ليس قطعي الدلالة في المسألة .

4- إذا اشترك المسلم مع الكافر في قتال كافرٍ آخر، فلا تُسمى الحرب حربا أهلية ، للحديث المرفوع : " ستُصالحون الروم صلحا أمنا ، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائهم ، فتسلمون وتغتنمون ثم تنزلون بمرج ذي تلول ، فيقوم رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول غلب الصليب ، فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله ، فتغدر الروم وتكون الملاحم ، فيجتمون لكم في ثمانين غاية ، مع كل غاية اثنا عشر ألفا" .أخرجه أبو داود باسناد صحيح .

5- إذا حاربت فئةٌ مسلمة فئةً مسلمة أُخرى ، فلا يخلو الأمر من حالتين :
الأولى : أن تكون الولاية والشوكة لأحدهما ، فتكون الثانية باغية وظالمة ، فيجب الأخذ على يدها أو الاصلاح بينهما على حسب مقتضى الحال ، وقد تكرر في أحداث التاريخ الاسلامي مثل هذه الحالة . وتسمى هذه حرب البغاة .
الثانية : أن تطلب الفئة المسلمة التي لها الولاية والشوكة والمنعة من الفئة الأخرى التي تحكمها ، اقامة شرع الله وتنفيذ حدوده ، فتأبى ذلك أو بعضه ، فتحاربها وتقاتلها لاقامة دين الله .
وقد وقع لأبي بكر (ت: 13هـ ) رضي الله عنه بعضٌ من ذلك ، حين قاتل مانعي الزكاة وقال قولته المشهورة : " والله لو منعوني عقالا كانوا يُؤدُّونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه " متفق عليه . وهو نصُّ قطعي الدلالة في الموضوع كله .

6- يجب التفريق بين عِلة القتال والقتل في البلاد الاسلامية وغيرها ، بدعوى وجود الكفار فيها ، فلا يجوز قتل غير الحربي المقاتل، فالعلة في القتل هي المحاربة وليس الكفر، فلا يجوز قتل الكافر مالم يكن محارباً . قال الله تعالى : ""لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدِّين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبرُّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"( الممتحنه : 8 ) .

7- من المغالطات الشهيرة عند بعض الناس أن حماية الأرض هي أعظم فروض الأعيان ، والصحيح أن التوحيد الصحيح هو الأعظم ، لأنه دعوة الرسل وما بعده فرع منه ، وإنما شرع الجهاد لأجله وليس العكس . ومقاصد حفظ الدِّين مُقدَّمة على مقاصد حفظ النفس .

8- من واجبات الجهاد المهجورة ترك العدو الداخلي الذي يتربَّص بعلماء الاسلام وأئمته ، والواجب على الحاكم المسلم تطهير البلد المسلم من المنافقين المندسِّين والحاقدين على المِلَّة ، ثم الصعود إلى الجهاد المتيسر على حسب المصلحة الشرعية .

9- القتلى في الحروب الأهلية التي تحدث بسبب الطمع في الاستيلاء على الأرض أو السلطة - إذا كانوا كلهم مسلمون في الظاهر ولم يستحلُّوا القتل - فإنهم تحت المشيئة في الآخرة ، ولا يخلُ حالهم من الإثم بسبب تأويلهم للقتل ، ولا يجوز وصفهم بالكفر أو الفسق .

10- الفرق بين الجهاد والحرب الأهلية : أن الجهاد يُعرف بطلب أهله لرفع كلمة الدِّين ودحض كلمة الكفر، والدفاع عن النفس والعرض والمال .

والحرب الأهلية تُعرف بطلب أهلها السلطة والجاه والنفوذ واستئصال المؤمنين . ولا تخلو آيات الجهاد في القرآن من تقرير هذا المعنى .

11- إذا نشبت حربٌ في بلد لا يُحكم فيه بالاسلام ، وتم العدوان فيه على الدِّين وأهله ، فلا يصح تسميُتها حرباً أهلية . قال الله تعالى :"الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامع وبِيعٌ وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز "(الحج : 40 ) .

12- التحريض على الثورات في البلاد الاسلامية – إن كانت مستتبة – لا يصح لا شرعاً ولا عقلاً ، وفيه افتئات على حقوق الحاكم المسلم الذي اجتمعت له الأمة .

وقد ظهرت بوادر الربيع العربي اليوم عياناً بياناً ، بعد أن نُسجت خيوطها على يد "برنارد لويس" اليهودي ، وقدَّمها للكونغرس سنة 1980م ، وتمت الموافقة عليها بسرية تامة ، وبدأ العمل لتقسيم العالم العربي منذ سنة 1990م بحروب الطوائف والمذاهب .
والقاعدة الأصولية تُقرِّر وجوب النظر في مآلات الأفعال سواء كانت موافقة أو مخالفة . قال الله تعالى : " لئلا يكون للناسِ على الله حجةٌ بعد الرسل "( النساء: 165) .

والاقتضاء التبعي للأحكام يوجب على المتأمِّل الترويِّ في الحكم على النوازل في الممارسات السياسية ، خشية أن يبوء بإثم لا طاقة له به .
نسأل الله أن يردَّ كيد الأعداء في نحورهم ، وأن يُعزَّ الاسلام وأهله ، ويُذلَّ الكفر وأهله .
هذا ما تيسر تحريره ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .

أ/أحمد بن مسفر بن معجب العتيبي
عضو هيئة التدريس بقوات الأمن الخاصة

( منقول)