وهذا الخطأ في فهم الحكمة لا يخص الكتاب والسنة؛ فما أكثر الحكم والأمثال السائرة فيها، والتي تصبح بعيدة عن الحكمة
يتصور بعض الناس أن الرأي الصواب لا يعزب (ويغيب) إلا عمن غاب عنه الوقوف على المقالةِ الهاديةِ والمثَـلِ الحكيمِ، وأن من وقف على الحكمة لا يخالفها إلا عصيانا وإجراما، ولا يخالفها أبدا وهو يريد الحق، ما دام قد وقف عليها؛ إلا وهو متعمد خلافها تمردا عليها.
وهذا خطأ! فكتاب الله تعالى وهو أساس الحكمة وينبوعها، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي نهر الحكمة الجاري كم زل ناس في فهمهما على خلاف مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم منهما.
وهذا الخطأ في فهم الحكمة لا يخص الكتاب والسنة؛ فما أكثر الحكم والأمثال السائرة فيها، والتي تصبح بعيدة عن الحكمة، بل تتحوّل ضدًّا للحكمة، بسبب فهمها على غير وجهها، وبسبب تنزيلها في محل ليس هو محلها!!.
ولهذا أمثلة كثيرة جدا، وتتضح في الحكم والأمثال التي يظنها الناس متناقضة (والحكمة لا تتناقض)، ويحسبها الناس تتضادّ (والحق لا يتضاد، بل يتعاضد).
وكمثال لذلك:
يقول حكماء العرب: (إذا عزّ أخوك فهُنْ)، ومعنى المثل بإجمال: كن لين الأخلاق طيّع الطباع مع إخوانك وأصدقائك، فإذا اشتد عليك أخوك أو أغلظ عليك صديقك، فقابله بسعة الصدر ورحابة السماح وطيب الكرم.
ويقابل هذه الحكمة حكمة أخرى تقول كما قال الشاعر:
وإني لأستحيي أخي أن أرى له ••• عليّ من الحق الذي لا يرى ليا
ومعناه: لا أرضى أن أكون في عين أخي وصديقي دون مزلتي عنده، فإما أن يراني مساويا له في المكانة والحق، وإما لا أكون أخا له وصديقا.
وقد تصور بعض الناس أن بين الحكمتين تناقضا، حتى حكى بعضهم أنه مر بباب إحدى المدن، فوجد أحدهم قد كتب على الباب: (يقول بعض الحكماء: إذا عزّ أخوك فهُن)، فلما راى هذه العبارة رجل آخر، كتب تحتها: (كذب العديم، لا الحكيم: إذا عزّ أخوك فأهنْه)!!.
والحقيقة أن هذا الذي تصور التضاد بين الحكمتين هو المخطئ، وهو الذي فهمها بخلاف مراد الحكيم، وأنزلهما في غير منزلتهما الصحيحة.
فالمقصود بقولهم (إذا عزّ أخوك فهن): من كانت جفوته زلة، وكان تعزّزه عليك عثرة غير متكررة، وليست نابعة عن تحقيرك، ولا عن انتقاصك.
أو من كانت فيه عادة تحمله على نوع عجرفةٍ في المقال أو الفعال، مع تَحَـلّيه بخلالٍ حميدة كثيرة، ومع غلبة محاسنه على هذه الصفة الذميمة فيه، ولا يصل به الأمر أن يخصك أنت بهذه العجرفة، بل هي سجية له تغلبه مع كل أحد فلمثل هذا قال الشاعر:
ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها •• كفى المرء نبلا أن تُعدّ معايبُه
وقيل: السعيد من عُدّت سقطاته.
فهذا والأول هما من يصح أن تقول فيهم وتحتكم في شأنهم بالحكمة القائلة: (إذا عزّ أخوك فهن).
وأما إذا كان صاحبك ينتقصك محتقرا، ويتعالى عليك مستخفا، ولا يرى لك عليه أي حق من حقوق الصحبة، ولا يزيده عفوك إلا تماديا في الاغترار، فهذا من يجب أن تقول فيه:
وإني لأستحيي أخي أن أرى له ••• عليّ من الحق الذي لا يرى ليا
وحق عليك أن تستحيي من هذه الصحبة، فهي مضرة بك وبأخلاقك ومروءتك وسمعتك.
ولو فهم الذي شتم الحكيم الأول هذا الفرق، لعلم أنه هو العديم غير الحكيم، وليس هو الحكيم الذي قال: (إذا عزّ أخوك فهن)!.
إذن حتى الحكمة تحتاج حكيما يُحكمها، ليكون مستفيدا منها وحتى كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يحتاجان عقل الحكماء ليفهم العقلُ حكمتهما، وينزلهما منزلتهما من الحق والحكمة!.
ولن يَعصِمَ المرءَ من الخطأ مجردُ الوقوف على الحكمة، ما لم يكن حكيمًا!! .