قاعدة عدم الإنكار على من عمل بفتوى عالم


وهذه القاعدة ليست على إطلاقها بل تحتاج لبعض القيود، فيختلف الأمر بحسب الفتوى وبحسب السائل.
أولًا: طبيعة الفتوى، هل هذه المسألة من المسائل المختلف فيها بين أهل العلم المتقدمين، وقد اختار العالم فيها قولًا مبنيًّا على دليل، أم أن هذه المسألة قد اتبع فيها العالم قولًا شاذًّا مخالفًا للدليل؟
فمثلًا: قد وقع اختلاف بين العلماء في مسألة المسافة التي إن قطعها المسافر يعد بها مسافرًا ويترخص برخص السفر، وقد ذهب العلماء على أقوال؛ فمنهم من قدرها بمسيرة ثلاثة أيام، ومنهم من قدرها بمسيرة يومين أو يوم وليلة، ومنهم من لم يعتبر حد المسافة وجعل حد السفر في كل ما يسميه العرف سفرًا.
فهذه أقوال لأهل العلم؛ كلٌّ نظر في الدليل ووقف على فهمه، ورجح ما تبين له من قول.

فعلى أي الأقوال لا ينكر على من عمل بأيها وأفتى بأحدها، ما دام هذا العامل بفتوى العالم ليس من أهل النظر في الدليل ولا التحرير العلمي للمسألة.
ولكن لو أن المسألة من المسائل التي قَلَّ فيها الخلاف العلمي وقَلَّ المخالف، وشذ فيها القول بقول مخالف فلا تعد هذه المسألة من المسائل التي لا ينكر على من عمل فيها بفتوى عالم.
ومثال ذلك تحريم الغناء المصحوب بالمعازف وآلات الطرب: فالمشهور عند الأئمة من المذاهب الأربعة (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة) تحريم استعمال الآلات التي تطرب كالعود والطنبور والمعزفة والطبل والمزمار والرباب وغيرها من ضرب الأوتار والنايات والمزامير كلها (1).

وأما ابن حزم رحمه الله فلا يرى تحريم الغناء، و يمضي ابن حزم في عرض مجموعة الأحاديث التي تنهى كلها عن الغناء وتحذر من اللهو، ويعقب على كل حديث بالطعن فيه بعلّة من العلل، والعلماء قد ردوا قوله وبينوا ضعف حجته.
فهنا قول ابن حزم يعد قولًا شاذًّا لا يعتد به، ولا يصح أن يكون خلافًا سائغًا في المسألة، ومن ثم لا يقال هنا: لا ينكر على من أخذ بفتوى عالم.
فالمسائل تختلف بعضها عن بعض، وليس أي خلاف يكون مقبولًا لا ينكر على من أخذ به، وقلد العالم فيه.

وأيضًا حال السائل: هل هو مستفتٍ عاميٌّ لا يستطيع النظر في الدليل وتحرير المسائل، أم هو من أهل النظر والعلم والتحرير، فحال السائل هنا له أثر في حكم تقليده للعالم؛ ومن ثم يختلف حكم الإنكار من عدمه في هذه الحالة.
فالإنكار على من قلد عالمًا وأخذ بفتواه متحريًا الصواب لا يبحث عن الرخص والزلات يختلف عن من يذهب للعالم ليفتيه ويرخص له فعل أمر يريده، فهذا متبع هواه ومراده.
فالأول لا ينكر عليه فهذا علمه وجهده، أما الثاني فينصح ويبين له الصواب.

قال الشيخ عبد الله الشنقيطي في (المراقي):
وقول من قلد عالمًا لقي * الله سالما فغير مطلق
ثم قال في الشرح: إنما يسلم إذا كان قول العالم راجحًا، أو ضعيفًا عمل به للضرورة مع حصول شروط العمل بالضعيف، أو لترجيحه عند ذلك العالم إن كان من أهل الترجيح.
وقد نقلت هذه العبارة عن عدد من علماء المذاهب الفقهية.
ففي كتاب (الإتقان والإحكام على تحفة الحكام) لميارة المالكي أن يحيى السراج سئل فقيل له: ما تقول فيمن قلد الأبهري الذي يقول: لا شيء في هذه اليمين سوى الاستغفار (الأيمان اللازمة)؟ أو قول ابن عبد البر الذي يقول إن عليه كفارة يمين؟
قال ابن السراج: فمن قلد ذلك فهو مخلص، فإن من قلد عالم لقي الله سالمًا.

وكذلك نقلت هذه العبارة عن أصحاب المذاهب الأخرى، ففي كتاب (رد المحتار على الدر المختار) لابن عابدين الحنفي قال: من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله رجوت أن لا يخاف؛ لأنه قلد إمامًا عالمًا صحيح الاجتهاد سالم الاعتقاد، ومن قلد عالمًا لقي الله سالمًا.
وعلى ذلك، فهذا القول صحيح النسبة لكثير من أهل العلم، ولكنه ليس على إطلاقه كما تقدم (2).

ويمكن أن يضبط الأمر بأن يكون هذا المقلد للعالم عاميًّا لا يحسن النظر في الدليل وليس من أهل العلم ككثير من أصناف الناس اليوم الذين ينشغلون بأعمال مختلفة ولا يعرفون عن أمر الفتوى ولا الدليل شيئًا، ويكون هذا العالم ممن شهد له بالعلم والدين والورع ولم يعرف باتباع شواذ الأقوال الفقهية، وقتها من الممكن أن تستقيم القاعدة، ولا ينكر على من أخذ بفتوى العالم هنا؛ لأنه قد أدى ما عليه من سؤال أهل العلم.

وقد ذكر ابن فرين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك، قال: ليس كل ما قال رجل قولًا وإن كان له فضل يتبع عليه؛ لقول الله تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] فإن قال: قصري وقلة همتي وعلمي يحملني على التقليد، قيل له: أما من قلد في نازلة معينة تنزل به من أحكام الشريعة عالمًا يتفق له على علمه فيصدر في ذلك علمًا يخبر به فمعذور؛ لأنه قد أتى ما عليه وأدى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالمه فيما جهله لاجتماع المسلمين أن المكفوف يقلد من يثق بخبره في القبلة؛ لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك (3).


ـــــــــــــــ ــــــــــ
(1) ينظر الفقه الإسلامي وأدلته، للزحيلي (4/2265).
(2) نقلًا من فتاوى الشبكة الإسلامية فتوى بعنوان "ما صحة القول: من قلد عالمًا أتى الله سالمًا؟".
(3) إعلام الموقعين (2/138).

http://www.forislah.com/%D9%82%D9%88...A7%D9%84%D9%85