قال الشيخ البشير الابراهيمي رحمه الله:( وأمّا المذاهب الكلامية فلم يكن أثرها بالقليل في تفرّق المسلمين وتمزّق شملهم ثم قال فما معنى إضاعة الوقت , وإعنات النّفس في معرفة هذا العلم المسمّى بعِلم الكلام؟
ولوكان هذا العلم المستحدث ذا قواعد طبيعية لا تنقض كقواعد الحساب أو الهندسة مثلاً لخف ما يلقى الناس في تعلمه من عناء , ولكننا رأينا تلك القواعد تتهاوى في المناظرات القولية أو القلمية كفقاقيع الماء , فلا يكاد يبني الباني حتى ينبري له هادم ينقض ما بنى ويتبر ما علا.
فواأسفاه على تلك الحملات العنيفة التي كانت جهاداً ولكن في غير عدو.
ووالهفاه على ذلك النقع المثار وقد انجلى عن غير فتح ولا غنيمة , وواحسرتاه على ذلك الذكاء الذي كانت تكاد تشف له حجب الغيب , ذكاء أبي بكر الباقلاني , وفخر الدين الرازي , وأبي الهذيل وابن المعلم , وقد ضاع فيما لا تعود على الإسلام منه عائدة , ولا تنحبر له منه فائدة.
وإنّك لتطالع تفسير الرازي مثلاً فتتلمّح من جملته ذكاء يشع , وقريحة تتقد , وألمعيّة تكاد تنتزع منك بنات صدرك , فتظنّ أن سينكشف لك عن الجهات المتّصلة بنفسك من القرآن , ويجلي لك سُنن الله في الأنفس والآفاق
وإذا بالظّن يخيب , والفال يكذب , وإذ ترى تلك القوى مصروفة إلى جهة غير التي تريد , وترى الرجل وقد غُلِب على ذكائه , وجرفته العادة التي تملكه إلى الآراء والعقليات وإثارة الشبهات.
وترى ذلك الذهن العاتي يتخبّط في مضائق هي دون قدر القرآن ودون قيمة ذلك الذهن حتى ليسف فيزعم لك -مثلاً - أنّ أولى العلم في قوله تعالى: " شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط " هم أهل الأصول.
ونحن نعتقد أن الرّجل وأمثاله من الأذكياء ما أتوا إلا من غرامهم بهذه المباحث الكلامية واستهتارهم فيها.
ويميناً , لو أنّ تلك الجهود التي تفرقت على الكلام تألّفت على جهة عقلية أخرى لفتحت في العلم فتحاً أغر زاهراً , ولتعجّلت به الفخر بالإسلام وأهله.
) كتاب اثار الابراهيمي