ظاهرة التوسع في المعنى في اللغة العربية دراسة لنماذج قرآنية - د.بلقاسم بلعرج (ابن أحمد) *
ورد في مقاييس اللغة لابن فارس أن "الواو والسين والعين كلمة تدل على خلاف الضيق والعسر، يقال: وسع الشيء واتسع، والوسع: الغنى. والله الواسع أي الغني. والوسع: الجدة والطاقة. وهو ينفق على قدر وسعه. وقال تعالى في السعة "لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سَعتَه". وأوسع الرجل: كان ذا سعة. والفرس الذريع الخطو وساع"(1).
ومن معانيه اللغوية: استعمال اللفظ للدلالة على أكثر مما وضع له، أو هو أن يؤتى في آخر الكلام بشيء مفسر بمعطوف ومعطوف عليه نحو قول الشاعر: (بسيط).
إذا أبو القاسمي جادت لنا يده *** لم يُحْمد الأجودان: البحر والمطر
وهو أيضاً من أغراض الزيادة، ويكون بتكثير الصيغ لا لمعنى من المعاني(2):
والناظر في اللغة العربية يجد فيها كثيراً من العبارات والاستعمالات الموجزة التي تحتمل أو تتضمن أكثر من معنى، وكلٌّ مراد مطلوب، بمعنى أن المتكلم بدلاً من أن يوسع في الألفاظ لأجل المعاني نجده يوجز(3) ويصيب هدفه بسهولة ويسر من غير خلل، وهو أمر لا يتأتى إلا لقلّة من أساطين الشعر والنثر، كيف لا والإيجاز ذروة البلاغة كما يقال، والبلاغة لمحة دالة، وأنها إصابة المعنى وحسن الإيجاز، وهي كذلك إجاعة اللفظ وإشباع المعنى"(4).
وقد دأب عليه المفسرون وأعطوه من العناية ما لا يخفى، فقد عدوه أمراً رئيساً وحجر الزاوية في التعبير البلاغي القرآني، وقد نسب إلى علي رضي الله عنه قوله: (ما رأيت بليغاً قط إلا وله في القول إيجاز وفي المعاني إطالة)(5).
وهو ما يفهم منه أن البلاغة في تقليل الألفاظ وتكثير المعنى.
وقد أشار ابن جنّي إلى هذا الموضوع في كتابع الخصائص تحت (باب في اللفظ يرد محتملاً لأمرين أحدهما أقوى من صاحبه، أيجازان جميعاً فيه أم يقتصر على الأقوى منهما دون صاحبه).
"اعلم أن المذهب في هذا ونحوه أن يعتقد الأقوى منهما مذهباً ولا يمتنع مع ذلك أن يكون الآخر مراداً وقولاً، من ذلك قوله(6):
كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا
فالقول أن يكون (ناهيا) اسم الفاعل من (نهيت) كساعٍ من سعيت وسارٍ من سريت. وقد يجوز مع هذا أن يكون (ناهيا) هنا مصدراً، كالفالج والباطل والعائر والباغز ونحو ذلك مما جاء فيه المصادر على فاعل، حتى كأنه قال: "كفى الشيب والإسلام للمرء نهياً وردعاً، أي ذا نهي فحذف المضاف وعلقت اللام بما يدل عليه الكلام"(7).
كما ورد في اللغة العربية ألفاظ، تظهر للقارئ على صورة وتحتمل أ، تكون على صورة غيرها من نحو قوله تعالى: {وجعلوا لله شركاءَ الجنَّ}(8)، فهي تفيد معنيين: معنى: وجعلوا الجن شركاء لله وعبدوهم معه. ومعنى آخر: وهو ما كان ينبغي أن يكون له شريك، لا من الجن ولا من غيره(9).
ومن نحو من قول الخنساء كذلك في رثاء أخيها معاوية:
أبعد ابن عمرو من آل الشر ي *** د حلّت به الأرض أثقالها
فكلمة (حلت) في البيت إما من (الحلية) أي: زيَّنت به موتاها أو كما قال ابن الأعرابي من (الحَل) كأنه لما مات انحل به عقد الأمور (10).
يتبين من خلال هذه الأمثلة أن في اللغة العربية ميزة قد لا نجدها في كثير من اللغات وهي التعبير عن المعنى الكثير باللفظ القليل، بمعنى أن يزاد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ، ومن ثم يصل المتكلم إلى مراده من أيسر طريق وبأقل جهد، وهو مأمل كل إنسان.
ونتناول في هذه الدراسة بعض الظواهر اللغوية التي تُوسِّع فيها من حيث المعنى، من خلال نماذج قرآنية مختارة.
1 الاشتراك اللفظي:
يوجد في اللغة العربية شواهد كثيرة للمشترك اللفظي الذي يتوسل به لاستيعاب المعاني غير المتناهية خلافاً للألفاظ وتغطية المدلولات الاجتماعية التي تجدّ في المجتمع حتى تفي بمطالب الحياة والأحياء(11).
والمشترك اللفظي: ما اتفقت صورته واختلف معناه، نحو: وجدت عليه من الموجدة، ووجدت: إذا أردت وجدان الضالة، ومثل هذا كثير(12).
ومنه كذلك كلمة (النوى) التي تعني: الدار، والنية، والبعد.
والعين التي تعني: النقد من الدراهم والدنانير، والمطر المستمر وعين الإنسان التي ينظر بها، وعين الماء، والجاسوس...
ولاشك في أن التعبير يتسع من طريق الاشتراك، إذ يرد للفظ المشترك أكثر من معنى واحد، وهو ما يكون مادة صالحة للتورية والتجنيس عند أصحاب البديع، من مثل ما نسب إلى الخليل أن له ثلاثة أبيات على قافية واحدة يستوي لفظها ويختلف معناها:
يا ويح قلبي من دواعي الهوى *** إذ رحل الجيران عند الغروب
أتبعتهم طرفي وقد أزمعوا *** ودمع عيني كفيض الغروب
كانوا وفيهم طفلة حرة *** تفتر عن مثل أقاحي الغروب
فالغروب الأول: غروب الشمس، والثاني: جمع غرب: وهو الدلو العظيمة المملوءة.
والثالث: جمع غرب: وهي الوهاد المنخفضة(13).
يفهم من هذه الأمثلة وغيرها كثير في كلام العرب أنّ فائدة المشترك اللفظي تقوم على الكم لا على الكيف، فهو يوسع القيم التعبيرية ويعين الشاعر والناثر على أداء الغرض.
وقد ورد شيء من هذا كثير في القرآن الكريم، نحو قوله تعالى في سورة القمر: {إن المتقين في جنات ونَهَر} فجاءت كلمة (نهر) بالإفراد لا الجمع خلافاً لكلمة (جنات) قبلها التي جاءت مجموعة، وهو أمر تنفرد به في باقي الآيات القرآنية إذ لم ترد الكلمة فيها إلا مجموعة لجمع (جنات) نحو قوله تعالى: {جنات تجري من تحتها الأنهار}.
مما يرجح أنه عند إرادة تضمين كلمة (نَهَر) أكثر من معنى وفائدة جيء بها مفردة، وهو ما لا تؤديه وهي مجموعة، أضف إلى ذلك أن فواصل الآيات تقتضي (النَّهَر) وليس (الأنهار) لأن آيات السورة جاءت كلها على هذه الفاصلة أو على هذا الوزن.
هذا تفسير، وهناك تفسير آخر، وهو: دلالة النَّهَر على الجنس أي أنها اسم جنس بمعنى (الأنهار) ومن ثم هو بمعنى الجمع(14).
والإتيان بالواحد والمراد به الجمع كثير في كلام العرب وفي القرآن الكريم(15)، ومن معاني (النَّهَر) التي وردت كذلك في كتب الأولين: السعة، نحو قول قيس بن الخطيم يصف طعنة:
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها
يقصد ب(أنهرت فتقها) وسعت فتقها(16).
ورد عن ابن فارس أن (النون والهاء والراء) بهذا الترتيب أصل صحيح يدل على تفتح شيء أو فتحه. تقول: أنهرت الدم إذا فتحته وأرسلته. وسمي النهر نهراً، لأنه ينهر الأرض أي يشقها، ومنه المنهرة: وهي فضاء يوجد بين البيوت تلقى فيه الكناسة(17).
ويبدو أن السعة المستنبطة من الكلمة في الآية عامة، تشمل: سعة المعيشة والأرزاق والمنازل. كما وردت بمعنى الضياء، لأن الجمة ليس فيها ليل، إنما هو نور يتلألأ(18).
ومن كل هذا يتبين أن الكلمة تعددت معانيها وكلها مطلوب. ف(المتقون) يتنعمون في المأكل والمشرب والملبس والمسكن. إن في الجنة أنهاراً كثيرة جارية، وسعة عيش، ورزقاً كريماً، وقصوراً من ذهب وفضة، وسرراً مرفوعة، وأكواباً موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابي مبثوثة، وضياءً ونوراً حيث لا ليل ولا ظلمة.
ونجد في الموضوع نفسه كلمة (أحكم) في قوله تعالى: {أليس الله بأحكم الحاكمين((التين: 8) فهي تحمل أكثر من معنى، فقد تكون من الحُكم، أي القضاء وأقضى الحكماء، كما أنه أحكم القضاة وأحكم الحكماء، فيكون قد اجتمع أربعة معان في كلمة واحدة كلها صالحة مقصودة(19).
{تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حَرَضاً أو تكونَ من الهالكين}(يوسف:85) هذه الكلمة لا تستعمل إلا في النفي، ولا تتكلم إلا مع الجحد، حتى وإن ذكرت من غير (ما) فهذه الأخيرة منوية، وهي هنا في الآية بمعنى (ما تفتأ تذكر يوسف) أي لا تزال تذكره(20). وتأتي بمعنى (نسي) تقول: فتئت عن الأمر أفتأ. إذا نسيته. وبمعنى أطفأ النار كذلك(21).
وقد تضمن الفعل في الآية كل هذه المعاني، أي أنّ يعقوب عليه السلام لا يمكن أن ينسى ذكر يوسف ولا يكف عن ذلك ولا يهدأ له بال وأن نار فراقه لا تنطفئ، وكل هذا لا يمكن تأديته بفعل آخر ك(ما زال وما برح وما في منزلتهما)(22). وهذا من صور الإعجاز اللفظي والمعنوي.
2 الصيغ المشتركة:
إن مجيء صيغة بمعنى صيغة أخرى كثير في لسان العرب، وكذلك اشتراك معان متعددة في صيغة واحدة. ف(فعيل) مثلاً صيغة تشترك مع الأسماء والمصادر واسم الفاعل واسم المفعول وصيغ المبالغة والصفة المشبهة، والمصدر الميمي واسمي الزمان والمكان(23).
وكذلك الأمر مع اسم المفعول من الثلاثي المزيد نحو: (مُفعَّل ومُفاعَل ومفعَل) يشترك مع المصدر الميمي واسمي الزمان والمكان، وهو ما يجعل التفريق بين هذه الصيغ صعباً إلا بالرجوع إلى السياق، فكلّها تتفق في صياغتها من غير الثلاثي المجرد بإبدال حرف المضارعة ميماً مضمومة وفتح ما قبل الآخر.
فكلمة (مختار) مثلاً مشتركة بين عدّة مشتقات: اسم الفاعل واسم المفعول والمصدر الميمي واسمي الزمان والمكان. فعندما نقول (هذا مختارُنا) يكون له عدّة معان محتملة، فهي اسم فاعل إذا قصدنا: هذا هو الذي اختارنا، وهي اسم مفعول إذا قصدنا: هذا هو الذي اخترناه.
ومصدر ميمي إذا قصدنا: هذا هو اختيارنا، واسم مكان إذا قصدنا: هذا مكان اختيارنا، واسم زمان إذا قصدنا: هذا زمان اختيارنا. ومنه يتبين أنه بإمكان المتكلم أن يضمِّن أكثر من معنى في تعبير واحد، وهو باب من أبواب الاتساع في المعنى(24).
وفي القرآن الكريم كثير من هذا القبيل من نحو كلمة (المُسْتَقَر) في قوله تعالى: {إلى ربّك يومئذ المُسْتَقَر}(الق يامة:12) فهي تتضمن أكثر من معنى: فقد تفهم بمعنى الاستقرار، ومن ثم تكون مصدراً، وقد تفهم بمعنى مكان الاستقرار، ومن ثم تكون اسم مكان، ويمكن أن تكون بمعنى زمان الاستقرار فتكون اسم زمان.
ورد عن الزمخشري في شرحه الكلمة: "إلى ربك خاصة (يومئذ) مستقر العباد. أي استقرارهم: بمعنى أنّهم لا يقدرون أن يستقروا إلى غيره وينصبوا إليه. أو إلى حكمه ترجع أمور العباد لا يحكم فيها غيره. كقوله: (لمن الملك اليوم). أو إلى ربك مستقرهم: أي موضع قرارهم من جنة أو نار"(25).
والمعنى نفسه نجده عند أبي حيان، فقد ذهب إلى أن معنى (المستقر): الاستقرار أو موضع استقرار من جنة أو نار(26).
كما يمكن أن تدل على زمان الاستقرار وهو وقت الفصل بين المخلوقات ودفعهم إلى مستقرهم، فمدّة مكوثهم في ذلك اليوم مرتبط بمشيئة الله تعالى, وهكذا فإنّ لهذه الكلمة ثلاثة معان محتملة يمكن استنباطها من الآية، ولو وضعت كلمة (الاستقرار) بدلها ما أدت هذه المعاني(27).
ومن نحو كلمة (حَفَدة) في قوله تعالى: {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحَفَدة}(المحل:72) فهي تحتمل أكثر من معنى وكل مطلوب مراد، تعني: الخدم والأعوان، وقيل: أبناء المرأة من غير زوجها. وقيل: الأصهار، وقيل: ولد الولد.
وإذا بحثنا عن معنى الكلمة في المعجمات وجدناها لا تخرج عن الدلالة على الخفة في العمل والسرعة في المشي. يقول ابن فارس: "الحاء والفاء والدال أصل يدل على الخفة في العمل والتجمع. فالحَفَدة: الأعوان لأنهم يجتمع فيهم التجمع والتخفف، واحدهم حافد. والسرعة إلى الطاعة حفد ولذلك يقال في دعاء القنوت: إليك نسعى ونَحْفِد(...) ويقال في باب السرعة والخفة: سيف محتفد، أي سريع القطع والحفدان: تدارك السير"(28).
وقد علق الطبري عند تفسيره الكلمة بقوله: "ولم يكن الله دل بظاهر تنزيله لا على لسان رسوله، ولا بحجة عقل على أنه عنى بذلك نوعاً من الحفدة دون نوع منهم. وكان قد أنعم بكل ذلك علينا، ولم يكن لنا أن نوجه ذلك إلى خاص من الحفدة دون عام، إلا ما اجتمعت الأمة عليه أنه غير داخل فيهم، وإذا كان ذلك فلكل الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرنا وجه في الصحة ومخرج في التأويل"(29).
وكلمة (رَهْواً) في قوله تعالى: {واترك البحر رَهْواً إنهم جند مغرقون}(الدخان: 24) فقد تعددت الأقوال في معناها فهي بمعنى: ساكناً وبمعنى: مفتوحاً، وبمعنى طريقاً يَبَساً، وبمعنى: سهلاً، وبمعنى: منفرجاً(30)، وكل مراد مقصود.
3 الجمع بين ألفاظ وصيغ متباينة في الدلالة:
عندما نقرأ القرآن الكريم ونتدبره نجد من هذا أمثلة كثيرة من نحو قوله تعالى: {من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً}(البقرة: 245).
الفعل (يقرض) في الآية من الثلاثي المزيد (أقرض) والوجه في مصدره أن يكون (إقراضاً) ولكن جيء باسم المصدر (قرضاً) الذي هو في الوقت نفسه مصدر الفعل الثلاثي (قرض) فكأنه قال (إقراضاً) ومن ثم تحتمل كلمة (قرض) معنيين: معنى الإقراض فيكون مفعولاً مطلقاً، ومعنى القرض الذي هو بمعنى المقروض، أي قطعة من المال كالخلق بمعنى المخلوق بمعنى المخلوق أي (فَعْل بمعنى مفعول) فيكون مفعولاً به.
وكلا المعنيين مقصود، الإقراض الحسن والمال الحسن ووصفه بالحسن إما لكونه طيب النية خالصاً لله تعالى، وإما لأنه يحتسب ثوابه عند الله، أو لأنه جيد كثير، أو لأنه مبرّأ من الشوائب والرياء وبلا منّ ولا أذى(31).
ومن نحو كلمة (ضلالاً) في قوله تعالى: {ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً}(النساء:
60). فالقياس أن تكون (إضلالاً) لأجل الفعل يضل، فمصدر (أضل): الإضلال، في حين أن (ضلال) مصدر (ضل). قال الله تعالى: {فقد ضل ضلالاً بعيداً}(النساء:16) والمقصود والله أعلم أن الشيطان يضلهم فيضلون ضلالاً بعيداً، فيكون الضلال أثراً من آثار الإضلال ونتيجة من نتائجه، بل هو استجابة له.
وقد جمع بين المعنيين: (الإضلال والضلال) في آن واحد. بمعنى أن الشيطان يريد أن يضل الناس ويهيئ لهم الأسباب ويزيّنها لهم ويريد أن يضلوا ويفعلوا ذلك بأنفسهم، فهو يفتح الباب ويبدأ المرحلة وهم يتمونها(32).
ومن ذلك أيضاً كلمة (يُضارَّ) في قوله تعالى: {ولا يضارَّ كاتب ولا شهيد} (البقرة:282) فقد يكون المقصود بها (يضارِر) بفك الإدغام وكسر الراء الأولى والبناء للفاعل، وعندها يكون المعنى: نهي الكاتب والشهيد إذا دعي أحدهم وهو مشغول "...أن يضاراً أحداً بأن يزيد الكاتب في الكتابة أو يحرِّف، وبأن يكتم الشاهد الشهادة أو يغيرها أو يمتنع من أدائها (...) بأن يقولا علينا شغل ولنا حاجة..."(33).
وقد يكون المقصود (يضارَر) بفك الإدغام وفتح الراء الأولى والبناء للمفعول، وفي هذه الحال نهي كذلك، لكنه نهي عن "...أن يضارهما(34) أحد بأن يعنتا ويشق عليهما في ترك أشغالهما، ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة"(35).
ومحصلة هذا أن المعنيين مرادان في الصيغة: إذ على الكاتب والشهيد ألا يضرا غيرهما وعلى الغير ألا يؤذيهما أو يهددهما ويوقع عليهما الضرر، وربما لأجل هذا جاءت الكلمة بالإدغام، إذ لو أريد تحديد كل واحد منهما لفك الإدغام، ولقيل: لا يضارِر أو لا يضارَر.
4 العدول عن تعبير إلى آخر:
قد يعدل في اللغة العربية عن تعبير إلى آخر لغرض مقصود يقتضيه المعنى أو المقام، وهو كثير في القرآن الكريم، من ذلك مثلاً كلمة (فتيلاً) في قوله تعالى: {ولا تظلمون فَتيلاً}(النساء: 49) قيل: هي القشرة والخط الذي في بطن النواة، ومن ثم يكون اسماً، وقيل: ما فتلته بإصبعك من وسخ اليد وعرقها(36). ومن ثم هو مشتق على وزن (فعيل بمعنى مفعول).
والكلمة في كل الأحوال تشير إلى أقل شيء وهو شبيه بقوله تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة}(النساء:40)، وهي تحتمل من هذه الناحية معنيين:
الأول: أن يقصد بالفتيل (الظلم) أي لا تظلمون ظلماً قدر فتيل أو مهما يكن قليلاً، وعندها تكون الكلمة مفعولاً مطلقاً نائباً عن المصدر المحذوف فهو صفته.
والثاني: أن يقصد بالفتيل معناه الحقيقي، فيكون مفعولاً ثانياً بتضمين (يظلمون) معنى (ينتقص) أو (ينقص) وهو متعد إلى مفعولين(37).
ومنه كلمتا (خوفاً وطمعاً) في قوله تعالى: {وادعوه خوفاً وطَمَعًا}(الأعرا ف:56) هاتان الكلمتان من أفعال القلوب انتصبتا إما على المفعول لأجله، أي يكون الدعاء لأجل خوف منه وطمع فيه، وإما على أنهما مصدران في موضع الحال. وعدول القرآن عن الحال (خائفين طامعين) إلى المصدر توسيع للمعنى وتكثير له. من الحالية التي هي معنى واحد إلى المصدرية التي تشمل هنا: الحالية والمفعول لأجله والمفعولية المطلقة أي (خائفين طامعين، ولأجل الخوف والطمع، وتخافون خوفاً وتطمعون طمعاً، أو دعاء خوف وطمع، وكل المعاني مرادة مطلوبة)(38).
أي "قد شمل الخوف والطمع جميع ما تتعلق به أغراض المسلمين نحو ربهم في عاجلهم وآجلهم، ليدعوا الله بأن ييسر لهم أسباب حصول ما يطمعون، وأن يجنبهم أسباب حصول ما يخافون. وهذا يقتضي توجه همتهم إلى اجتناب المنهيات لأجل خوفهم من العقاب وإلى امتثال المأمورات لأجل الطمع في الثواب"(39).
ومثل هذا كلمة (شيئاً) في قوله تعالى: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً}(النساء:36). قيل: إن الشيء هو الذي يصح أن يعلم ويخبر به كما أنه اسم مشترك المعنى إذا استعمل في الله وفي غيره، ويقع على الموجود والمعدوم.
وعند بعضهم يقع على الموجود. وأصله: مصدر شاء. إذا وصف به الله تعالى فمعناه: شاء. وإذا وصف به غيره فمعناه: المشيء(40).
وعن معاذ بن جبل () قال: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير؟ فقال: يا معاذ، هل تدري حق الله على عباده، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)(41).
ومنه يمكن أن تكون كلمة (شيئاً) في الآية كناية عن الشرك أي لا تشركوا به أي شيء من الشرك ولو كان قليلاً، فتكون حينئذ مفعولاً مطلقاً أو نائباً عنه، ويحتمل أن يقصد (بالشيء) ما يعبد من دون الله فتكون عندئذ مفعولاً به.
وعلى هذا الأساس يمكن القول أن الكلمة جمعت بين معنيين في آن واحد النهي عن إشراك أي شيء من الشرك بالله وأي نوع منه. والنهي عن إشراك به أحداً من خلقه. فبدلاً من أن يقول: ولا تشركوا بالله شركاً ما، ولا تشركوا به أحداً، قال: ولا تشركوا به شيئاً.
ونجده في آخر سورة الكهف الآية: 110 عندما أراد التنصيص على أحد المعنيين فعله، فقال سبحانه وتعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}(42).