وحين أردت الجواب عليه كانت عضويتي قد أوقفت مرة أخرى فاشتركت باسم آخر ونبهت على أن الكاتب هو نفسه وجيه الدين في المشاركة السابقة ، وهما جميعاً وضاح الحمادي كما في المشاركة الأولى المحذوفة،
وأجبت بما يلي :
وجيه الدين ابن عامر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين، وبعد
(فإنني أشكر جميع الإخوة من أهل السنة الذين شاركوا في هذا الموضوع، وأريد أن أطمئنهم إلى أن هؤلاء التيمية لن يزالوا متمسكين بالتهافت الذي علمهم إياه أستاذهم ابن تيمية، ولن يزالوا غير قادرين على التخلص من الإشكالات العديدة التي ورطهم فيها، وما زالوا للأسف يكتشفونها يوما بعد يوم).
أٌقول : ليس في كلامه هنا ما يستحق الرد.
قوله : "ومن هذه الأمور التي اندهشوا لما عرفوها، عبارة ابن تيمية التي يقولها منشئا إياها من نفسه معتقدا بها"
أقول : هذا دليل على جهل الرجل بكتب شيخ الإسلام رحمه الله، فإنه قد صرح في غير كتاب من كتبه أن لفظ الجسم باصطلاح المتكلمين اصطلاح حادث لم يأتِ في الشرع لا يصح نفيه نفياً مطلقاً ولا إثباته إثباتاً مطلقاً بل ينظر في معناه، فإن كان يحمل حقاً أثبتنا المعنى الحق وخالفنا في التسمية، وقد يجوز أطلاقها على سبيل التنزل كما قال الشافعي رحمه الله :
إن كان رفضاً حب آل محمد **** فليشهد الثقلان أني رافضي
فأطلق على نفسه اسم الرفض لكنه أراد معناه عند الناصبة.
وذكر رحمه الله أن الألفاظ إما شرعية ورد بها الكتاب والسنة، فهذه يجب إثباتها أو نفيها بحسب ما دل عليه النص الشرعي، وإما اصطلاحية لا ورود لها في شيء من الكتاب والسنة وأقوال السلف، فهذه ينظر في معانيها؛ فإن كانت حقاً أثبتنا المعنى وإن كانت باطلاً نفينا المعنى دون أن يكون لنا قصدٌ أوَّليٌّ إلى اللفظ بنفي أو إثبات. راجع (درء تعارض العقل والنقل) 1/229 – 249 ثم ضرب على ذلك أمثلة.
ومثل أيضاً في معرض حديثه بالجسم، فرأى أنه بالمعنى الاصطلاحي لا يثبت ولا ينفي ولكن لما كانت اصطلاحات الناس متفاوتة في الجسم وجب النظر في المعنى فإن كان حقاً أثبتناه وكان مما قال : "ومن عارضكم ـ أي يا نفاة الجسم الاصطلاحي ـ من أهل الكلام من المرجئة وغيرهم كالكرامية والهشامية وقال لكم : "فليكن لازماً للرؤية وليكن جسماً، أو قال لكم : أنا أقول إنه جسم. وناظركم على ذلك بالمعقول، لم يكن لكم أن تقولوا له : أنت مبتدع في إثبات الجسم. فإنه يقول لكم : وأنتم متبدعون في نفيه، فالبدعة في نفيه كالبدعة في إثباته، إن لم تكن أعظم، بل النافي أحق بالبدعة من المثبت، لأن المثبت أثبت ما أثبتته النصوص، وذكر هذا معاضدة للنصوص، وتأييداً لها، رداً على من خالف موجبها" انتهى.
(درء تعرض العقل والنقل) 1/248. فانظر كيف جعل إطلاق لفظ الجسم كنفيه كله بدعة، بل جعل إطلاق لفظ الجسم بالمعنى الاصطلاحي أقرب للحق من نفيه وجعل النافي أحق بالبدعة. كل ذلك على المعنى الاصطلاحي.
وذلك أن أصحاب الاصطلاح، حتى فودة في جوابه هذا ، يطلقون لفظ الجسم على الكائن في جهة، وعلى المباين لخلقه، إما على سبيل المطابقة أو التضمن أو اللزوم، وهو الأكثر. وأهل السنة وكذا الكرامية ونحوهم يثبتون أن الله جل وعلا في جهة فوق كما جاءت به النصوص كقوله تعالى : (الرحمن على العرش استوى) وقول رب العزة : (أئمنتم من في السماء) وقوله جل وعلا (ثم استوى على العرش) وحديث (أين الله) وحديث (اللهم فاشهد) وحديث (ينزل الله في الثلث الأخير من الليل) وما لا يأت عليه العد والحصر من النصوص الشرعية. وهذه النسبة لازمها التجسيم عند معطلة الصفات ومنكري النصوص والآيات، والمخضعين إياها للتحريفات المسماة عندهم تأويلات، ويثبت أهل السنة أيضاً أن الله بائن من خلقه، والمباينة عندهم أحد الأكوان الثمانية الدالة على الجسمية، ويثبتون أن له يدين وعينين ونحوها من الصفات الثابتة في الكتاب والسنة، وهذه الصفات عند المعطلة تدل على التبعض والتركيب واحتياج الكل إلى أجزائه، ويثبتون أنه جل وعلا استوى على العرش وينزل إلى السماء الدنيا، وأنه يتكلم كلاماً شيئاً بعد شيء، وأن له أفعالاً تقوم بذاته كالخلق والكلام، وجميعها عند المعطلة حادثة ودالة على حدوث ما قامت به، وهي جميعها من خصائص الجسم بحسب اصطلاحاتهم. فيبنون على ذلك أن المثبتين لصفات رب العالمين مجسمة قائلين بالجسم.
فحينئذٍ نقول : هو جسم بحسب اصطلاحاتكم هذه، كما قال الشافعي :
فليشهد الثقلان أني رافضي.
فهل يقول عاقل : إن الشافعي رافضي باعترافه هو.
قوله : "حاكيا إياها ـ أي مقالة الجسمية ـ بالمعنى عن غيره من الأئمة الذين يرضاهم أئمة له، ويعتبرهم قدوة"
أقول : عبارة شيخ الإسلام كما نقلها فودة هي : " وطوائف من النظار قالوا ما ثم موجود إلا جسم أو قائم بجسم إذا فسر الجسم بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي"
وليس فيها أولاً: أن هذه العبارة بلفظها قالها هؤلاء النظار، وهذا لم يخالف فيه فودة فإنه قال : " حاكيا إياها بالمعنى"
وليس في عبارته من قريب أو بعيد أن كل من قال بهذا من النظار فهو يرتضيه إماماً له، ويعتبره قدوة، هذا يوجد في ذهن سعيد فودة ومريديه الذين هم "كالميت بين يدي مغسله" بل فيها أن أكثر النظار يقولون يمعناها وفيهم أئمة مرضيين ومقتدى بهم، لا أن جميعهم كذلك.
قوله "وقد حكاها عن غيرهم ممن يخالفهم ويعارضهم وهم كثير من الفلاسفة على حد تعبيره، فلفظ العبارة لفظه هو، لا لفظ غيره، فلم يتلفظ الإمام أحمد بهذه العبارة، ولا عبد العزيز المكي، ومع ذلك أجاز ابن تيمية لنفسه نسبتها إليهما، وما ذلك إلا بالمعنى مفتريا ذلك عليهما"
أقول : نعم نسب إليهم ذلك القول بالمعنى، جزاه الله خيراً، وهو دليل على توسعه وتبحره في معرفة مذاهب الناس. أما لفظ العبارة فلا يضره ما دام المقصود معناها كما صرح به فودة نفسه.
قال فودة : "وهاكم قولَه لفظه وتركيبه الذي ورد فيهما، فقد قال ابن تيمية بعد كلام له: "وطوائف من النظار قالوا ما ثم موجود إلا جسم أو قائم بجسم إذا فسر الجسم بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي كما هو مستقر في فطر العامة وهذا قول كثير من الفلاسفة أو أكثرهم وكذلك أيضا الأئمة الكبار كالإمام أحمد في رده على الجهمية وعبد العزيز المكي في رده على الجهمية وغيرهما بينوا أن ما ادعاه النفاة من إثبات قسم ثالث ليس بمباين ولا محايث معلوم الفساد بصريح العقل وأن هذه من القضايا البينة التي يعلمها العقلاء بعقولهم."اهـ
من الظاهر أن ابن تيمية في هذا النص، يذكر معنى معينا يحاول أن يستدل على صحته بزعمه أن العديد من الأئمة المتبعين المقتدى بهم يقولون به، كالإمام أحمد، بالإضافة إلى أن أكثر الفلاسفة يقولون به، وطوائف من النظار يقولون به أيضا، أي يعتقد به جميع هؤلاء، وغيرهم كذلك، وأن هذا القول يعتمد على أمر مقرر واضح في عقول الناس، وفي فطرهم، وهو أنه لا يوجد قسم ثالث غير المباين والمحايث، يعني لا يوجد موجود قائم بنفسه غير متحيز ولا هو بجسم، فكل من قال بأن كل موجود إما أن يكون مبايناً أو محايثاً، فيلزمه القول قطعا بأن كل موجود إما أن يكون جسماً أو قائماً بجسم"
هكذا قال : نقل كلام ابن تيمية ثم أعاد صياغته بدون فائدة تذكر، سوى أنه وافقني في أن الكلام على الجسم بمعنى المباين المحايث، لا كما زعم هو في كتابه أن الكلام في الجسم بالمعنى الذي نسبه إلى جميع المتكلمين كذباً عليهم، وهو أن الجسم هو الذي يدخله الطول والعمق والعرض، فهذا ليس قول جميع المتكلمين، بل حتى لا يستطيع أن يثبت أنه قول أكثرهم. بل لعله لم يقل به سوى الأشاعرة والمعتزلة فقط، على أن الأشاعرة ليسوا قائلين به إلا على طريق للزوم لا المطابقة ولا التضمن.
وعلى كل تقدير ليس في كلامه شيء يعترض عليه، فقد أحسن صياغة كلام ابن تيمية رحمه الله.
وأذكر هنا قول من وافق ابن تيمية من الأشاعرة في أن القول بالمحايثة والمباينة حتى في حق الله من البديهيات التي يضطر الإنسان إلى العلم بها من دون نظر ـ باصطلاح المناطقة ـ.
قال الألوسي في تفسير قوله تعالى (وهو القاهر فوق عباده) : " ويؤيد القول بالفوقية أيضا بأن الله تعالى لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة تعالى عن دلك، فانه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد. فتعين أنه خلقهم خارجا عن ذاته. ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات، مع أنه قائم بنفسه، غير مخالط للعالم، لكان متصفا بضد ذلك؛ لأن القابل للشيء لا يخلوا منه أو من ضده. وضد الفوقية السفول. وهو مذموم على الاطلاق. والقول بانا لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، مدفوع بأنه سبحانه لو لم يكن قابلا للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها. فمتى سلم بأنه جل شأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم وانه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعا، وقد علم كل العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه. وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى البديهيات. فلا يستدل بدليل على ذلك إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه وأوضح. وإذا كان صفة الفوقية صفة كمال لا نقص فيها ولا يوجب القول بها مخالفة كتاب ولا سنة ولا اجماع كان نفيها عين الباطل لا سيما والطباع مفطورة على قصد جهة العلو عند التضرع إلى الله تعالى" (روح المعاني) 7/115.
فزاد الألوسي رحمه الله على ابن تيمية بأن ادعى أن هذا بديهي وأن كل العقلاء لا بعض المتكلمين فقط بل كل العقلاء يعلمونه بالضرورة.
هذا مع التنبيه على أن شيخ الإسلام ابن تيمية لا يوافقه ولا الأشاعرة في أن القابل للشيء وضده لا يخلو عن أحدهما كما بينه غاية البيان في (درء تعارض العقل والنقل) المجلد الثاني عند نقله لكلام الرازي في قيام الأفعال الاختيارية لله جل وعلا ولا أستحضر الآن الصفحة، وليس الكتاب بين يدي فأنقل عنه.
وأنصح بقراءة تفسير الألوسي لهذه الآية في تفسيره فإنه رائع لا مزيد عليه.
قال سعيد فودة : "هذا هو معنى عبارة ابن تيمية،ومع أنه واضح بيِّنُ الوضوح لكن أتباع ابن تيمية لشعورهم بالفضيحة التي تنشأ عن هذا القول، أي بفضيحة حقيقة اعتقادهم إذا عرف الناس هذا القول الذي يصرح به زعيمهم، يحاولون بكل ما يستطيعونه أن يحرفوا هذا القول عن دلالته"
الجواب عليه من وجهين.
الأول : الكذب حرام.
والثاني : عيب عليك.
قال سعيد فودة : "وقد اختلفوا إلى الآن على أقوال وطرق في تحريف هذا القول عن وجهته، متبعين في هذا الأسلوب طريقة زعيمهم الأكبر وشيخهم الأوحد في التحريف والتلاعب"
أقول : سيأتي معك الوجهين حالاً ولكن دعواه أن أتباع ابن تيمية يحرفون كلامه دالٌّ على جهله بمعنى التحريف، إلا أن يكون هو له اصطلاح خاص في معنى التحريف كما أن لأسلافه المعطلة لصفات رب العالمين اصطلاحات خاصة لمعنى الجسم. فأنا مثلاً أثبت ظاهر ما دل عليه كلام ابن تيمية من دون حاجة إلى تحريفه. كما سيأتي والأخ عبدالله السفر يوجه كلامه باعتباره نقلاً عن النظار لا عن نفسه من جهة، وباعتباره يتكلم في الموجودات الممكنة من جهة أخرى، معتمداً على عبارتين متكررتين في كلام ابن تيمية، هي قوله رحمه الله: " قالت المثبتة إنما أثبته هؤلاء المتفلسفة من موجودات ممكنة ليست أجساما ولا أعراضا قائمة بالأجسام كالعقل والنفس والهيولى والصورة التي يدعون أنها جواهر عقلية موجودة خارج الذهن ليست أجساما ولا أعرضا لأجسام فإن أئمة أهل النظر يقولون إن فسادها هذا معلوم بالضرورة"
ثم قال أيضاً بعد أن ذكر كثير من المتكلمة وغيرهم : "وهؤلاء وغيرهم لا يسلمون للفلاسفة إمكان وجود ممكن لا هو جسم ولا قائم بجسم بل قد صرح أئمتهم بأن بطلان القسم الثالث معلوم بالضرورة" أي أئمة النظار الذين ذكرهم.
وقال بعد ذلك مباشرة : " بل قد بين أبو محمد عبدالله بن سعيد بن كلاب إمام الصفاتية كأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي عبدالله بن مجاهد وغيرهم من انحصار الموجودات في المباين والمحايث وأن قول من أثبت موجودا غير مباين ولا محايث معلوم الفساد بالضرورة مثل ما بين أولئك انحصار الممكنات في الأجسام وأعراضها وأبلغ"
فأنت ترى أن الكلام من جهة كله في الممكنات، ومن جهة كله منسوب إلى طائفتين من المتكلمين طائفة وافقت الفلاسفة في إمكان موجود ممكن لا مباين ولا محايث، ومن أمثالهم مثبة الأحوال من الأشاعرة. ومن جهة أن السياق الكلام في الموجود الممكن"
ثم جاء بالعبارة التي فرح بها سعيد فودة فقال : "وطوائف من النظار قالوا ما ثم موجود إلا جسم أو قائم بجسم إذا فسر الجسم بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي كما هو مستقر في فطر العامة وهذا قول كثير من الفلاسفة أو أكثرهم وكذلك أيضا الأئمة الكبار كالإمام أحمد في رده على الجهمية وعبدالعزيز المكي في رده على الجهمية وعبد العزيز المكي في رده على الجهمية وغيرهما بينوا أن ما ادعاه النفاة من إثبات قسم ثالث ليس بمباين ولا محايث معلوم الفساد بصريح العقل وأن هذه من القضايا البينة التي يعلمها العقلاء بعقولهم" اهـ
فأنت ترى أنه ابتدأ هذه العبارة بنسبتها إلى النظار من جهة، ثانياً أن السياق في الجسم بمعنى المباين والمحايث، وثالثاً : أن السياق في الممكنات لا مطلق الموجودات.
فبدلاً من الاستفادة من السياق لفهم المراد، أخذ فودة يستعرض علينا معرفته باللغة بزعم أن النص في سياق النفي فهو يدل على العموم. مع أن السياق مرشد إلى المراد فلا حاجة إلى فلسفته، كما يجوز إعمال هذه القاعدة إعمالاً توفيقياً. وذلك بأن نقول : إن السياق في الممكنات لا غير، ومجيء النكرة هنا في سياق النفي دالٌ على عمومه لجميع الممكنات بخلاف ما ذهب إليه مثبتوا الأحوال والجواهر الروحانية من الأشاعرة، وبخلاف ما ذهب إليه الفلاسفة من أثبات الأنفس والعقول والهيولي ونحوها من الممكنات التي يزعمون أنها ليست بأجسام ولا قائمة بأجسام.
وليس في هذا الكلام ما يحتاج إلى لي العبارات وإبعادها عن ظواهرها، بل كلام فودة أحق بأن يسمى تحريفاً، ويكفي في الدلالة عليه أنه لا يستطيع الاستدلال بظاهره فقط، بل يحتاج معه إلى تفسير وتوجيه للكلام، وهذا يدلك على أن تفسير فودة غير مستفاد من مجرد ظاهر النص.
وأنا هنا لا أريد أن أوجه كلام أخي عبدالله السفر فهو قادر على ذلك بنفسه إنشاء الله. ولكني أردت أن أنفي التهمة العامة التي ينسبها سعيد فودة إلى أتباع شيخ الإسلام ابن تيمية مع أني أكاد أجزم أنه لم يهتم بكلام سعيد فودة من أتباع شيخ الإسلام سوى ثلاثة، أنا والأخ عبدالله السفر والرجل الذي كان سبباً في تأليف فودة لكتابة تعليقته حول عبارة "ما ثم موجود إلا جسم أو قائم بجسم" . لذا تراه لم يخرج عن هذين الوجهين في رده.
ثم عرض سعيد فودة لوجهة نظري في هذا الموضوع وجعلني فرقة فقال : "الفرقة الأولى: قالت: سلمنا أن هذا القول أي"لا موجود إلا جسم أو قائم بجسم" عام في الممكنات والواجبات، وسلمنا أن ابن تيمية يقول به ويعتقده، وسلمنا أن ابن تيمية ينقله عن الإمام أحمد وعن غيره من الأئمة الأعلام، وهؤلاء كلهم يقولون بمعنى هذه العبارة، إلا أن الخلاف معكم في معناها، فمعنى كلمة جسم لا يراد بها هنا الممتد في الأبعاد، بل المراد بها هو فقط المحايث والمباين فقط، فقالوا:" فقول ابن تيمية أنه ما ثم موجود إلا جسم، أي أنه ما ثم موجود إلا مباين ومحايث"اهـ .
والمعلوم أن المباين معناه عنده:"الذي بينه وبين غيره انفصالٌ وحدٌ"، وهذا يجب أن يكون في جهة قطعاً، ويجب أن يكون له حيز أيضاً، إذن يكون حاصل معنى العبارة هنا أن كل موجود لا بد أن يكون إما مبايناً أو محايثاً، فالله تعالى عندهم إما أن يكون مبايناً أو محايثاً لغيره."
أقول : وهنا أيضاً أحسن فودة في عرض وجهة نظري ولا اعتراض لي عليه.
ثم عقب فقال : "وقد جهل هؤلاء المساكين، أن كل مباين يجب أن يكون في جهة، وأن يكون له حد"
أقول : أن كان ثمة من جاهل هنا فهو فودة، فإن القول بالجهة والحد هو من اعتقاداتنا، وقد صرح به بعض أئمتنا، لكن لفظ الجهة والحد لما لم يرد بالشرع إثباته ولا نفيه، لم نثبته ولم ننفه، أما المعنى فكل أهل السنة من أمثال شيخ الإسلام أبي العباس يقولون أن الله جل وعلا في جهة فوق، وأنه غير مخالط لخلقه بل مباين لهم، وأنه مستوٍ فوق عرشه. وقد كنت نقلت كلام الإمام أبو الحسن الأشعري الذي جعله إجماعاً لأهل السنة في أن الله في سمائه فوق عرشه دون أرضه، وكلمة الإمام البيهقي رحمه الله.
وأزيد فأقول قال عمر الداني في (الرسالة الوافية) صفحة 9: "ومن قولهم ـ أي أهل السنة والجماعة : أنه سبحانه فوق سماواته، مستوٍ على عرشيه، ومستولٍ على جميع خلقه، وبائن منهم بذاته، غير بائن بعلمه"
وقال أبو القاسم الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة رحمه الله في كتابه (كتاب السنة) : "باب : ما جاء في استواء الله على عرشه، بائن من خلقه" (مختصر العلو) صفحة 246.
وقال ا لإمام عبدالله بن أبي زيد القيرواني في رسالته المعروفة (بالقيروانية) : "وأنه فوق عرشه المجيد بذاته" راجع (الثمر الداني) صفحة 14.
وقال أبو الشيخ في كتابه (العظمة) : "ذكر عرش الرب تبارك وتعالى وكرسيه، وعظم خلقهما، وعلو الرب فوق عرشه" (مختصر العلو) صفحة 247.
وهو قول من لا يأتي عليهم الحصر، وكثير منهم ينسب قوله إلى كافة علماء الأمصار كأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين.
وجميع ذلك دالٌّ على معنى الحد، فكيف أجهل ما هو من أصل معتقدي! لكن الشيخ أراد أن يتفلسف ويظهر أنه قد ظفر بما غفلنا عنه، وألزمنا ما ذهلنا عن لزومه، وهي أمور نلتزمها سواء خلق الله سعيد فودة أو لم يخلقه فضلاً عن أن ينبه هو عليها.
و إنما جئنا بأقوالهم للدلالة على أن ما نسبه ابن تيمية إلى أكثير النظار وعلماء الأمة يقولون بالمباينة والمحايثة وهو الجسمية أو لازمها على اصطلاح بعض المبتدعة الضلال من أهل الكلام صحيح. فلم يخطئ ابن تيمية رحمه الله في نسبة ما نسب إليهم. وتقدم معك نسبة الإمام الألوسي علم الضرورة إلى جميع العقلاء في أن كل قائم بذاته فإما أن يكون داخل العالم ـ مخالط ـ أو خارجه ـ مباين ـ .
فإن سميتم ذلك تجسيماً فلا يضرنا بعد ثبوت أنه قول الله في كتابه وسنة نبيه وقول جميع العقلاء يعلمونه علم الضرورة.
أما قوله : "وهو بعد ذلك ـ يعد إثبات أنه في جهة وأنه محدود ـ إما أن يكون ممتداً في الأبعاد الثلاثة أو لا"
أقول : ما مرادك بقولك : "أو لا" هل تريد أنه لا يكون ممتداً في الأبعاد أصلاً لا الثلاثة ولا غيرها، أم تريد "أو لا يكون ممتداً فالأبعاد الثلاثة مع جواز امتداده في بعدين اثنين أو واحد أو أربعة أو خمسة إلى آخر ذلك"؟
ثانياً : من أين لك أن ما كان ذو جهة وحد فلا بد له من أن يمتد في الأبعاد سواءً الثلاثة أو الاثنين أو الواحد.
بيانه : أن عدداً من الأشاعرة يثبتون الجوهر الروحاني ويثبتون أن الروح ليس بجهر ولا عرض، ومع ذلك يلزمهم القول بأنه محدودة، لما ثبت في الشريعة أنها تحل بدن ابن آدم وتخرج من جهة رأسه حتى يتبعها البصر، وأنها ترتفع إلى السماء ثم تعود إلى الأرض، وكل هذا عندكم من صفة الأجسام، إلا أن كثير من الأشاعرة صححوا أن الروح ليست بجوهر ولا عرض. فكما جاز أن تكون الروح محدودة وتتحيز في الجهات من دون أن يلزم من ذلك أن يكون لها أبعاد ثلاثة فكذلك الله جلا وعلى و(ولله المثل الأعلى).
ثالثاً : نحن لا نسمي كل ما له أبعاد ثلاثة جسماً كما سيأتي قريباً في النار والهواء.
قوله "وهم لا يقولون في حق معبودهم أن له بعداً واحداً فقط أو بعدين، فلا بد إذن أن يكون عندهم في ثلاثة أبعاد"
أقول : لم يثبت عن أهل السنة أنهم يقولون أن له بعداً أو بعدين ولا حتى ثلاثة، فإن قلت هو لازم نفيهم للبعد والبعدين. قلنا : لم يثبت عنهم أيضاً نفي البعد والبعدين. لما قدمنا لك أن أهل السنة لا يتكلمون في معتقداتهم باصطلاحات المتكلمين إلا على سبيل التنزل؛ لاحتواء هذه المصطلحات على عمومات باطلة. ومثال ذلك أن الجسم بحسب تعريف فودة في كتابه ـ وزعم أنه القدر المشترك لمعنى الجسم هو ذي الأبعاد الثلاثة ـ. والعرب الذين نزلت الشريعة بلغتهم لا يسمون الهواء والنار أجساماً مع أن الأبعاد الثلاثة حاصلة فيها. كما لا يسمون الأرواح أيضاً أجساماً. وإنما خوطبنا وأمرنا ونهينا بلغتهم، ولم نخاطب بلفظ الجسم والجوهر والجرم والحيز والعرض والكون والمحايثة والمباينة والتركيب والتأليف والافتقار والمغايرة ونحوها من مصطلحات المتكلمين، فاستخدامها إنما يكون على سبيل التنزل من دون التزام لاحتوائها على الباطل كما تقدم.
وعليه لا نسلم أن كل ذي ثلاثة أبعاد جسم إلا اصطلاحاً ـ لو سلمناه ـ .
فإن قال : كل المتكلمين يطلقون على ذي الأبعاد إسم الجسم.
قلنا: لم نكلف باصطلاحات هؤلاء بل بالألفاظ التي تكلم بها نبي الله والمبلغ عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهو وجميع من تكلم بالضاد لا يسمون كل ما قامت به الأبعاد جسماً.
قوله : "وهو ـ أي ذي الأبعاد الثلاثة ـ عين معنى الجسمية الذي يحاولون التملص من التصريح به بلفظه فقط، مع علمنا القاطع أنهم يعتقدون بذلك المعنى في قرارة أنفسهم"
أقول : قد قدمت في مشاركتي السابقة أن تفسير الجسم بالأبعاد الثلاثة خالف فيه كثير من النظار كالحكماء الذين أنكروا على المعتزلة إدخال الأبعاد الثلاثة في معنى الجسم لجواز خلوه عنها مع بقائه جسماً. وقد نقل ذلك عنه الأيجي في (المواقف).
وعلى افتراض أنه القدر المشترك فلا يضرنا تسمية المتكلمة له بالجسم. فكما أن تسمية الخمر مشروباً روحياً لا يجعله حلالاً فكذلك تسمية المحايث والمباين بل وذي الأبعاد لا جسماً لا يجعل المعنى المراد به باطلاً.
ثم القول بأنا نحاول التملص منه حديث خرافة، فلو جاءت الشريعة بإثبات الجسم بهذا المعنى لكنا أول من يقول به، لأنا لا نعتقد بأن ذلك يستلزم حدوثه اعتماداً على قاعدتكم الباطلة عندنا من أن الجسم لا يخلو من الحوادث وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. فليس في الجسم معنا ممتنع باصطلاحكم لنتهرب منه، ولكنا لم نطلقه لعدم إطلاق الشرع له فقط، فنحن كما قلنا نثبت ما تجعلونه أنتم لازماً للقول بالجسمية ونترك اللفظ لعدم ورود الشرع به.
على أنا لا نثبت كل ما تجعلونه لازماً للجسم كالحدوث والافتقار.
قوله : "وفضلا عن ذلك، فهؤلاء المساكين قد فسروا لفظ "الجسم والقائم بالجسم" بمعنى لم يوضع له في اللغة، وهو المباين أو المحايث، نعم قد يستلزمه لكنه لا يرادفه ولم يوضع له"
أقول : أما تفسيرنا الجسم بالمباين والمحايث فمن عنديات فودة، فإن الجسم عندنا هو الجسد والجثمان وما دل عليه كلام العرب فقط، أما المباينة والمحايثة فهي من تفسيرات المتكلمين، وتسلمينا بها كان على سبيل التنزل لا على سبيل الإقرار. أما كون اللغة لم توضع للدلالة عليه وإن استلزمته فهذا حق، ومع ذلك ذهب كافة المتكلمين إلى أن الجسم يلزمه هذين العرضين. فمن قال بأن الله في جهة ومباين لخلقه لزمه أن الله جسم اصطلاحاً تنزلاً مع المتكلمين. وهو ما ذكره ابن تيمية.
ثانياً : صرح ابن تيمية أن المعنى اللغوي غير مراد بقوله "لا اللغوي" فعلمنا أن المباينة والمحايثة غير داخلة عنده ولا عند من تبعه في المعنى اللغوي لأنه أثبت المباينة والمحايثة ونفى المعنى اللغوي.
وأخيراً هب أن الجسم هو ذو الأبعاد الثلاثة، وأنا صرحنا بأن الله جل وعلا جسم بهذا المعنى، فما الدليل على بطلان وصفه بهذا المعنى.
كان هذا هو التحدي الذي عرضته في مشاركتي الأولى ولا زال قائماً.
وأقسم بالله الذي لا إله إلا هو أن شيخكم فودة غير قادر على إثبات أن وصف الله تعالى بأنه جسم باطل عقلاً بحسب أصوله.
واعلم أني ليست أقسم لأنخي الشيخ وأدفعه إلى الحوار، ولكن لبيان أن ما تشنعون به على خصومكم لا دليل لكم على بطلانه إلا في أمر واحد ونسلم لكم به، وهو أن لفظ جسم لم يأتِ في الشرع فيجب أن لا يطلق على الله جل وعلا.
وباقي كلام الشيخ لا علاقة لي به، إذ هو متعلق بما ذهب إليه أخونا عبدالله السفر من أن هذا النقل ليس قول ابن تيمية وأنه نقله عن غيره من جهة، ومن جهة أخرى أنه متعلق بالكلام على الممكنات لا جميع الموجودات بدلالة السياق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أخوكم في الله وجيه بن عامر التيمي الوهابي السلفي.