صناعة التطرف
التطرف ليس قدرا محتوما ومصيرا لا يمكن دفعه، بل له أسبابه ودوافعه، بعضها ذاتي (أي: من داخل الصف الإسلامي)، وبعضها خارجي (أي: البيئة المحيطة بالصف الإسلامي).
فمن تلك الأسباب:
1- الداعية إذا لم يكن خطابه متزنا سمحا فاهما للواقع المراد تغييره، يخاطب الناس على قدر عقولهم، قد يكون أحد صناع التطرف.
لنضرب مثلا: شيخ يدندن في كل وقت حول الحكم بما أنزل الله، وتحكيم الشريعة، والطاغوت، أمام عوام الناس، يوشك أن يحول مخاطبيه إلى وقود للتطرف، لأن العامي وخصوصا إذا كان شابا وملتحقا بركب الالتزام حديثا لن يستوعب عقله القليل الخبرة هذا الخطاب ويضع كل شيء في موضعه. ولهذا لما عزم عمر بن الخطاب على التحدث لعموم الناس في موسم الحج بخصوص مسألة الإمامة الشرعية والخلافة، اعترض عبد الرحمن بن عوف على ذلك، وقال له: يا أمير المؤمنين لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها . فقال عمر والله - إن شاء الله - لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة. رواه البخاري (6/6442).
ولن تجد شابا تطرف هنا أو هنالك إلا وله شيخ قدوة في ذلك بحسن فهم أو بسوء فهم.
مع أن الحكم بما أنزل الله شرع لازم وواجب محتم، لكن إشغال عوام الناس بالشق المتعلق بالحكام منه والدندنة حوله في كل وقت وتحويله إلى أول واجب يجب تعلمه، قد تكون له عواقب وخيمة على الصف الإسلامي.
2- أجهزة الدولة:
إذا كانت أجهزة الدولة متطرفة في الملاحقة والمتابعة والقمع لكل التيارات الإسلامية، وكان شغلها الشاغل هو كل (ملتح)، مع غض الطرف عن باقي التيارات، وأرخت العنان للعربدة والفجور والمجون، فإن عقول الشباب المتحمس لن تحتمل هذه الأوضاع وستنجر للتطرف شاءت أم أبت.
علما أن بعض الأجهزة من مصلحتها وجود التطرف، لتستغله داخليا في وقت ما لضرب معارضيها السياسيين، وخارجيا لإظهار جديتها في محاربة ما يسمى بـ"الإرهاب". ولهذا فهي تقوم بما أسميه: "حضانة التطرف".
3- الإعلام العلماني.
يمارس العلمانيون حريتهم الكاملة في الترويج لخطاب غربي مستورد (جنس- عري- اختلاط- قبلات- مهرجانات ماجنة- حرية مطلقة)، ويبدلون قصارى جهدهم لنشر هذه الثقافة وسط مجتمعاتنا المحافظة، ضدا في شريعتنا، وضدا في ثقافتنا، وضدا في تاريخنا، مع سكوت مريب وأحيانا تشجيع مستمر من قبل جهات متعددة ومختلفة.
هذا التطرف العلماني يقابل بالتصفيق والإشادة من قبل النخبة الفرانكفونية، ويقابل بالاستنكار والاستهجان من قبل عموم الشعب المغلوب على أمره. لكن هناك فئة أخرى ستحدث لها ردود أفعال معاكسة وغاضبة اتجاه ما ترى.
الإعلام العلماني في إطار حربه الضروس على الإسلاميين يركز على السبب الأول، ويتناسى الأسباب الأخرى التي هي في نظري أشد تأثيرا وأكثر حسما في صناعة التطرف.
والإسلاميون يركزون على السبب الثاني والثالث ويهملون السبب الأول.
وعليه فأي مقاربة لعلاج هذه الظاهرة لابد فيها من مقاربة شاملة تشمل كل هذه الحيثيات التي ذكرنا. فالتطرف تطرف سواء صنعه الشيخ بتسرعه وحماسته، أو صنعته بعض أجهزة الدولة في كيلها بمكيالين، أو صنعه العلمانيون بتنكرهم لكل ما هو إسلامي. هذا ما احتملته هذه المقالة المختصرة. وهو يستحق بسطا أكبر وشرحا أكثر. لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. والحمد لله رب العالمين.