نسبه ابن سعد إلى التدليس، فأقول:
حماد بن أسامة حمل عنه الأئمة واحتجوا به مطلقًا، ووثقوه وثبتوه، ولم يذكره أحدٌ منهم بشيء من التدليس.
فقد روى عنه ابن مهدي على تقدمه، وأحمد، وابن المديني، وابن معين، وإسحاق بن راهوية، والشافعي، والحميدي، وغيرهم، واحتج به البخاري ومسلم وباقي الستة.
وقال أحمد: كان ثبتًا، ما كان أثبته، لا يكاد يخطئ. «العلل ومعرفة الرجال» (745).
وقال في موضع آخر: أبو أسامة أثبت من مائة مثل أبي عاصم -يعني النبيل- كان أبو أسامة صحيح الكتاب، ضابطًا للحديث، كيسًا صدوقًا. «العلل» (772، 4891).
وقال الثوري: ما بالكوفة شابٌ أعقل من أبي أسامة. «تهذيب الكمال» (7/223).
أما ابن سعد فقد قال في «طبقاته» (6/395): كان ثقة مأمونًا كثير الحديث، يدلس وتبين تدليسه. كذا
وليس ابن سعد ممن يُقبل منه تفرده بمثل هذا؛ فإن مادته من شيخه الواقدي، والواقدي ليس بعمدة، وانظر ترجمة ابن سعد فيما يأتي من هذا الكتاب.
ولعل ابن سعد أو شيخه قد بَنَى على ما لا يصح، أو ما لا يُفيد الوصف بالتدليس.
فقد قال الآجري عن أبي داود: دَفَن أبو أسامة كتبه فما أخرجها، وكان بعد ذلك يستعير الكتب. «سؤالات الآجري» (284).
وقال عنه أيضًا: قال وكيع: قد نهيتُ أبا أسامة أن يستعير الكتب، وكان دفن كتبه. «سؤالاته» (585).
ومثله في «العلل ومعرفة الرجال» لعبد الله بن أحمد عن أبيه عن وكيع، بدون ذكر دفن الكتب. «العلل» (1726).
فقد كان أمرُ دَفْنِه كتبه واستعارته كتب غيره معروفًا عند الآخذين عنه من الأئمة الأثبات، ومع ذلك لم يغمزه أحدٌ بذلك، ولا وصفه أحدٌ بتدليسٍ أو غيره، وانتظر.
لكن قد قال الحافظ ابن حجر في «تهذيب التهذيب» (3/4): «حكى الأزدي في «الضعفاء» عن سفيان بن وكيع، قال: كان أبو أسامة يتتبع كتب الرواة، فيأخذها وينسخها. قال لي ابن نمير: إن المحسِنَ لأبي أسامة يقول: إنه دفن كتبه ثم تتبع الأحاديث بَعْدُ من الناس. قال سفيان بن وكيع: إني لأعجب كيف جاز حديث أبي أسامة! كان أمره بَيِّنًا، وكان من أسرق الناس لحديثٍ جيد». اهـ.
أقول: هاهنا أمور:
الأول: الأزدي في نفسه متهم، فلا يؤتمن على مثل هذا النقل.
الثاني: سفيان بن وكيع قد اتهمه أبو زرعة بالكذب، وأسقطه غيرُ واحد، فليس هو ممن يقبل قوله في مثل هذا، وستأتي ترجمته، فلعلَّه سمع قول أبيه، فأساء فَهْمَهُ.
الثالث: ذكر الذهبي حكاية الأزدي في «الميزان» (2/ت2235) لكن وقع له: عن سفيان الثوري، ووهمه الحافظ في «التهذيب» (3/3). ثم قال الذهبي: أبو أسامة لم أورده لشيء فيه، ولكن ليُعرف أن هذا القول باطل. اهـ.
الرابع: لابن نمير -وهو محمد بن عبد الله- قول في أبي أسامة يوهم تهمته له بالتدليس.
فقد قال يعقوب الفسوي في «المعرفة والتاريخ»(2/801): قال ابن نمير: هو الذي يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، ونرى أنه ليس بابن جابر المعروف، ذكر لي أنه رجل يسمى بابن جابر، فدخل فيه، وإنما هو إنسان يسمى بابن جابر.
قال يعقوب: صدق، هو ابن تميم، وكأني رأيت ابن نمير يتهم أبا أسامة أنه علم ذلك وعرف، ولكن تغافل عن ذلك، قال لي ابن نمير: أما ترى روايته لا تشبه شيئًا من حديثه الصحاح الذي روى عنه أهل الشام وأصحابه الثقات. اهـ.
قال الذهبي في «تاريخ الإسلام»: تلقت الأُمَّةُ حديث أبي أسامة بالقبول لحفظه ودينه، ولم يُنْصِفْهُ ابن نمير اهـ.
أقول: لو ثبت أن ابن نمير اتهم أبا أسامة بتدليس اسم هذا الرجل، فقد عَذَرَ أبا أسامة سائر الأئمة، ووصفوه بالوهم فيه، وقد شاركه في هذا الوهم: حسين الجعفي -وهو ثقة أيضًا- كما حكاه البخاري في «التاريخ الكبير» (5/ت1156)، وأبو زرعة وأبو حاتم «الجرح» (5/ت1423)، وراجع «تهذيب الكمال» (17/482-486)، (18/8) وغيره.
الخامس: قضية دفن أبي أسامة كتبه واستعارته كتب غيره -إن ثبتت الاستعارة- لا تخدش فيه؛ وذلك لأنه هو في نفسه قد سبق أنه كان ثقةً ثبتًا حافظًا صحيح الكتاب، كيِّسًا عاقلًا، لا يكاد يخطئ، فقد دفن كتبه ثقةً بحفظه، وربما لغير ذلك أيضًا، وقد دفن بعض الأئمة كتبهم، انظر «سير أعلام النبلاء» (11/377).
وأما استعارته الكتب، فقد قال وكيع: «نهيتُ أبا أسامة أن يستعير الكتب، وكان دفن كتبه». فليس في هذا القول تصريح بأن أبا أسامة كان يستعير الكتب، وإنما فيه نهي وكيع له عن ذلك، فلعلَّ وكيعًا لما رأى أبا أسامة دفن كتبه بادر فحذَّره من استعارة الكتب، خشيةَ أن يروي أبو أسامة ما فيها من أحاديثه، فتقع له أشياء لم تكن في كتبه التي دفنها.
لكن لو ثبتت الاستعارة، فلا يلزم منها أن يروي حماد ما ذُكر، ولو ثبت أنه نظر في كتب غيره، فوجد فيها أحاديث يحفظها فرواها، فلا يقدح هذا فيه البتة؛ لأن مدار الأمر على الضبط والتثبت، وقد كان حافظًا ضابطًا متثبتًا، فلا يُظَنُّ به إلَّا أنه يروي ما حفظه وضبطه، يدل على ذلك تداول الأئمة النقاد لحديثه والاحتجاج به، دون الإشارة إلى روايته من كتب غيره، وذلك اطمئنانًا إلى ضبطه رحمه الله.
وقضية الرواية من كتب الغير قد تناولها الأئمة، وبَيَّنوا أن الرواةَ في ذلك ليْسَوْا على وتيرة واحدة، وأنه بينما يُقْبَلُ هذا الأمرُ من البعض، فربما سقط به آخرون، وربما أُعِلَّ به أحاديث قوم من الثقات ممن لم يبلغوا من الضبط ما بلغ مثل حماد بن أسامة.
فمثال الأول: قول الخطيب في بندار محمد بن بشار: «وإن كان يقرأ من كل كتاب، فإنه كان يحفظ حديثه». «تاريخ بغداد» (2/104). وقد قال الدارقطني في بندار: «من الحفاظ الأثبات». «تهذيب التهذيب» (9/73). وقال الذهبي في «الميزان» (3/ت7269): «ثقة صدوق، احتج به أصحاب الصحاح كلهم، وهو حجة بلا ريب، كان من أوعية العلم».
ومثال الثاني: أقوام من الرواة أخذوا كتب الناس بغير سماع، فرووا ما فيها سرقةً وانتحالًا، انظر على سبيل المثال ترجمة عبد الله بن زياد بن سمعان، وستأتي إن شاء الله تعالى.
ومثال الثالث: ما رواه أبو بكر الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل ذكر الحديث الذي رواه الأنصاري -وهو محمد بن عبد الله بن المثنى- عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون، عن ابن عباس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم». فضعَّفَهُ، وقال: كانت ذهبت للأنصاري كُتُبٌ، فكان بَعْدُ يُحدثُ من كُتُبِ غلامه أبي حكيم، أُراه قال: وكان هذا من ذلك. اهـ. «تاريخ بغداد» (5/410).
والأنصاري ثقة، ولكنه لم يكن مبرزًا في الحفظ، وكان قد غلب عليه الرأي، ولم يكن من فرسان الحديث. انظر «تهذيب الكمال» (25/542-545).
والمقصود هنا أن مَنْ وَصَفَ أبا أسامة بالتدليس، إن كان بنى على قضية استعارته للكتب، فليس فيها أنه كان يروي منها ما لم يسمع مما ليس من حديثه، كما سبق بيانه.
وإن كان بنى على كلام ابن نمير، فقد كان ابن نمير متحاملًا عليه، أما سائر الأئمة فقد بَيَّنُوا أن أبا أسامة إنما أخطأ في ذلك ووهم فيه -كما مَرَّ- والواهم غيرُ قاصدٍ للإيهام، فليس بمدلسٍ.
ومما يحسن التنبيه عليه بهذه المناسبة، ما وقع من الأستاذ/ نور الدين عتر في تعليقه على كتاب «شرح علل الترمذي» من الإغراب في تصور معنى كلام الحافظ ابن رجب في تبويبه لما وقع لأبي أسامة وغيره بنحو هذا الوهم:
فقد قال ابن رجب (2/679): «ذِكْرُ من حَدَّث عن ضعيف وسماه باسم ثقة». وأورد ما وقع لأبي أسامة، ومثله لحسين الجعفي، ولزهير بن معاوية، ولأبي بلج الواسطي، ولجرير ابن عبد الحميد، ولأهل الشام عن زهير بن محمد.
وبيَّن ابن رجب أخطاء هؤلاء في تسمية بعض شيوخ لهم، فأبو أسامة وحسين الجعفي أخطئا في عبد الرحمن بن يزيد فجعلاه: ابن جابر، وإنما هو: ابن تميم.
وزهير بن معاوية انقلب عليه اسم: صالح بن حيان، فجعله: واصل بن حيان، ولم يوصف زهير بتدليس أصلًا.
وأبوبلج الواسطي أخطأ في اسم عمرو بن ميمون، وليس هو ذاك المشهور، وإنما هو ميمون أبو عبد الله مولى عبد الرحمن بن سمرة، وهو ضعيف. ونحو ذلك الباقون، وليس في هذا الباب ذكر التدليس، وإنما هي أوهام وأخطاء، إلا ما كان من قول ابن نمير في أبي أسامة، وقد سبق الجواب عليه.
ثم قال ابن رجب بعد ذلك (2/690): «ذِكْرُ من روى عن ضعيف وسماه باسم يتوهم أنه اسم ثقة».
فزاد في العنوان هنا لفظ الإيهام، وهو شرط التدليس، ثم ذكر ما وقع من: عطية العوفي، والوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، وحسين بن واقد.
وبَيَّن ابن رجب تدليس هؤلاء -وبخاصة الثلاثة الأُوَل- لبعض أسامي شيوخهم.
فأما عطية فكان يأخذ عن الكلبي التفسير -والكلبي كذاب- ويكنيه بأبي سعيد، يوهم أنه أبو سعيد الخدري الصحابي.
وأما الوليد بن مسلم فكان يروي عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم الدمشقي -وهو ضعيف جدًّا- ويكنيه بأبي عمرو، موهمًا أنه أبو عمرو الأوزاعي الإمام.
وأما بقية بن الوليد فكان ربما روى عن سعيد بن عبد الجبار الزبيدي، أو زرعة بن عمرو الزبيدي -وكلاهما ضعيف الحديث- فيقول فيه: نا الزبيدي، موهمًا أنه محمد بن الوليد الزبيدي الثقة صاحب الزهري.
ثم ذكر ابن رجب ما يتعلق بمن كان يدلس تدليس التسوية، بعد ذكره تدليس الشيوخ.
أقول: واضح مما سلف من سياق ابن رجب أنه قرن بين صورتين تتشابهان في إبدال اسم راوٍ بغيره، لكن افترقا في القصد، فأولاهما محمولة على الخطأ، والثانية محمولة على التدليس.
لكن الأستاذ/ نور الدين عتر قد حمل الصورتين على تدليس الشيوخ، وقد بان بحمد الله الفرق بين الصورتين، والله تعالى الموفق.
يتبين مما سبق براءة أبي أسامة من التدليس، وأنه لم يثبت في حقه اتهامه بذلك، ولا ما يخدش في روايته البتَّة، والله تعالى أعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل.