الخروج عن الحذاء..

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد...

فحديثي اليوم عن ظاهرة قديمة جديدة ،تخبو وتشتعل،تخفت وتستعلي، تنحصر وتستشري . وعلى كثرة من أتاها من أهل العلم يهدمُ قواعدها = إلا أنه تبقى ذبالات منها في نفوس قوم ربما جهلوا أنها فيهم ولربما ذموا أهلها وهم منهم ولكن لا يشعرون.
رسم رسام لوحة ضخمة معجبة كثيرة التفاصيل ،وكان من ضمن تلك التفاصيل الكثيرة (حذاء) ،وانتظر الرسام رأي النقاد وخبراء الفن في لوحته .فكان ممن دخل مرسمه ورأى لوحته = إسكافٍ (صانع أحذية) ،فتكلم هذا الإسكافي أول ما تكلم عن الحذاء فانتقده وانتقد طريقة رسمه ،ثم عدا إلى باقي اللوحة ينتقدها ويُبرز ما يراه من أخطاءها فلما رأى ذلك أحدُ النقاد مال على الإسكافي وهمس في أذنه قائلاً : فلتبق في الحذاء.

نعم . وآفة كثير ممن يتصدى للبحث التراثي أو نقد الفرق والطوائف والرجال والكتب أنهم يخرجون عن الحذاء، ولو بقوا فيه لكان خيراً لهم.
وللخروج عن الحذاء صور كثيرة جداً لكني أكتفي منها الآن بصورة واحدة :
تلك الصورة هي ما تراه اليوم من بعض المتصدين بحث التراثي الفقهي أو التقييمي للممارسات الشرعية الحالية= أن كان أول أمرهم الاشتغالات الفكرية المحضة أو التحليلات السياسية أو التصدي لنقد الزائغين بيقين من أهل الكتاب أو الليبراليين أو العلمانيين أو أصحاب الإسلاميات المعدلة وفق النسق الغربي أو التصدي للكلام في الواقع وأحداثه.

وإخواننا هؤلاء ممن يُصطلح على تسميتهم أحياناً بالمثقفين أو المفكرين، ويُقصد بهذه التسمية أنهم ليسوا ممن عرف بالفقه والقدرة على البحث التراثي الاجتهادي وإن كان قد يوجد من يجمع بينهما، فالكلام عن من لم يحز القدرات الفقهية.

فقد بدا لبعض هؤلاء المفكرين والمثقفين النقاد أن يتصدوا لنقد وتصحيح ما يقع داخل طوائف العمل الإسلامي ممن هو من أهل السنة والجماعة في الجملة، أو نقد بعض مادة التراث الإسلامي نصاً وفقهاً وتاريخاً..
وللأسف الشديد كان هذا منهم خروجاً عن الحذاء !!

والمراد: أنهم خرجوا عن دائرة ما يحسنون(وأنا أفترض هنا أنهم كانوا يحسنون الأولى وإلا فحتى الأولى فيها إشكالات عند كثير منهم) إلى دائرة لا تسعفهم أدواتهم فيها..

فغالب أولئك النقاد لا يسمح لهم محصولهم الشرعي بأن يتصدوا لهذا الباب الخطير..وغالبهم قضى ردحاً من زمانه في الرد على من تخالف أخطاءه ثوابت الدين فكانت لهذا آثار عليهم منها:
أولاً : أن اكتسب لسانهم لغة شديدة ولكنة فكرية زائدة تُناسب عقول المردود عليهم أولئك وتناسب ألسنتهم وطرحهم ودرجة خطأهم ومقدار بعدهم عن الحق= ولكنها أبداً لا تُناسب المخالفين من أهل السنة .
ثانياً :اكتسبت نفوسهم حالة من الصلابة الزائدة في الرأي وهذه الصلابة قد تُناسب الرد على من يُخالف في الثوابت لكنها لا تُناسب أبداً من يخالفك إما فيما ليس قطعياً وإما في تحقيق مناط القطعية.
ثالثاً : اكتسب بحثهم العلمي سطحية ظاهرة فقلة محصولهم الشرعي لم تكن لتنكشف في مقام الرد على من يُنازع في الثوابت لقلة علم جل أولئك العلمانيين ومن جاورهم بالشرعيات = فلما انتقل أولئك النقاد لبحث تصرفات المجتهدين من أهل السنة أو تحرير بعض القضايا التاريخية والتراثية مع ما في هذه البحوث من دقة فغالبها من مضايق الاجتهاد ومدارك المصالح = ظهر الضعفُ العلمي جلياً، وبانت السطحية فصيحة.
رابعاً : اكتسبت نفوسهم ولعاً شديداً بالبحث في الأغراض الخفية والدوافع المخفية والتداعيات السياسية ونظريات المؤامرة ، لغلبة هذه الأمور على أحوال الليبراليين ونحوهم وظهور بيناتها. أما عندما ينتقل البحث للدعاة وأهل العلم من أهل السنة = يُصبح استعمال هذه الأساليب من غير بينات هجنة لصاحبه وسقطة في موازين البحث.
سادساً: ظهر جلياً فقر محصولهم التراثي وخلطهم بين المسائل والمفاهيم بصورة تضل عن الحق وتضيع الغرض من النقد.

فكان خروج أولئك النقاد عن الحذاء وبالاً عليهم وجناية على العلم والمنهج قلت أن ا كان وبالاً لأسباب منها:

1- أنهم تعاملوا مع المخالفين من أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين بكثير من المفردات والسياسات والتراكيب التي كانوا يستعملونها مع الليبراليين بقصد وغير قصد.
2- في ردهم على الليبراليين كانوا يذمون من يذمه الله ورسوله ويغضبون على من يغضب عليه الله ورسوله ،فلما خرجوا عن الحذاء ودخلوا في نقد الدعاة وأهل العلم صحبهم نفس النفس وأبعاضاً منه بقصد وغير قصد ،فنسوا أو تناسوا أن الغالب والمحكم في أخطاء أهل العلم من أهل السنة أنهم لا يُذمون عليها ولا يغضب الله عليهم لأجلها بل هم في الغالب معذورون وربما مأجورون،ولكن أولئك النقاد اختلطت في نفوسهم المعاني لما قل علمهم وغلب عليهم طبع ردودهم القديم فصاروا يغضبون ويذمون من لا بينة على أن الله يغضب ويذمه.
3- ظهرت من بعضهم تناقضات مفضوحة كأن تراه يفهم إعذار بعض الواقعين في بدع مكفرة بالتأويل ويعجز عن فهم إعذار بعض المعاصرين في بدعهم وأخطائهم، وما علة هذا التناقض سوى الفقر المعرفي مع وجود الهوى والتغيظ من المعاصرين لمقام التنافس الآني.
ومن التناقضات: الدعوى للسكوت عن فصيل إسلامي لجهوده وأنه كفاكم شر كذا وكذا، والجرأة على فصائل أخرىلها جنود من جنسها وكفايات لا تقل عن كفايات تلك في ميزان الشرع.

بصيرة

قال شيخ الإسلام : ((وهكذا يصيب أصحاب المقالات المختلفة إذا كان كل منهم يعتقد أن الحق معه وأنه على السنة فإن أكثرهم قد صار لهم في ذلك هوى أن ينتصر جاههم أو رياستهم وما نسب إليهم لا يقصدون أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله بل يغضبون على من خالفهم وإن كان مجتهدا معذورا لا يغضب الله عليه ويرضون عمن يوافقهم وإن كان جاهلا سيىء القصد ليس له علم ولا حسن قصد فيفضي هذا إلى أن يحمدوا من لم يحمده الله ورسوله ويذموا من لم يذمه الله ورسوله وتصير موالاتهم ومعاداتهم على أهواء أنفسهم لا على دين الله ورسوله وهذا حال الكفار الذين لا يطلبون إلا أهواءهم ويقولون هذا صديقنا وهذا عدونا .. لا ينظرون إلى موالاة الله ورسوله ومعاداة الله ورسوله ومن هنا تنشأ الفتن بين الناس قال الله تعالى: ** وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله }.
فإذا لم يكن الدين كله لله وكانت فتنة وأصل الدين أن يكون الحب لله والبغض لله والموالاة لله والمعاداة لله والعبادة لله واالاستعانة بالله والخوف من الله والرجاء لله والإعطاء لله والمنع لله وهذا إنما يكون بمتابعة رسول الله الذي أمره أمر الله ونهيه نهي الله ومعاداته معاداة الله وطاعته طاعة الله ومعصيته معصية الله وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب لغضب الله ورسوله بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة وهو الحق وهو الدين فإذا قدر أن الذي معه هوالحق المحض دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة ؟؟!!
وهذا حال المختلفين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وكفر بعضهم بعضا وفسق بعضهم بعضاً)).

قلتُ وقد شهدتُ وقائع عدة تدل على تصديق كلام هذا الإمام الجليل ، ترى الرجلَ يرى الرجلَ يبغي ويظلم عالماً أو داعية بصنوف من البغي والظلم لا يرضاها هو على نفسه أو على من يحبه = ولما كان الكلامُ يوافق هوى في نفسه = تراه يثني ويُبرك وجزاك الله خيراً يا أخ فلان .

خلاصة

هذه ليست دعوى للكهنوت وإنما هي دعوى لاحترام العلم والدين وألا يتكلم الإنسان في باب منها إلا بعد توفر أدوات الكلام فيه، وحتى بعد توفر الأدوات يحتاج الإنسان للعدل والحلم في استعمالها، وإلا كان ممن يفسدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً، لذلك نحن نستنكر أيضاً على الفقهاء الذين يدخلون في أبواب الفكر والثقافة والسياسة يقضون فيها بغير تحصيل أدواتها اللازمة، فلست ممن يدعو للنصيحة العوراء تبصر إشكالية فريق وتداهن فريقاً.
النقد والنصيحة واجب شرعي لا يرتفع فوقه أحد بدءاً من أئمة أهل السنة وانتهاء بأئمة الكفر والضلالة مروراً بالعلماء والدعاة والمجاهدين، الجميع ليس فوق النقد، ولا يجوز الأمر بالمساكتة لفضل فصيل من هؤلاء أو سبق جهاده أو ما درأه من الشر عن المسلمين ، ولكن الله جعل لكل شيء قدراً ، ومن العقل إنزال الناس منازلهم، ولكل جنس من الناس وجنس من الأخطاء منهج من النقد ولسان في البيان، فلا يُسوى بين من لم يسو بينهم الله ، ولا يُتكلم مع المجتهد المعذور بما يتكلم به مع الضال الأثيم، ولا يُخاطب من علم عنه حسن القصد بمثل ما يُخاطب به من علم عنه إرادة الزيغ، ولا ينقد المتعالم الجاهل أو المتخرص غير المتثبت بما يُنقد به من ينطلق من أصل معرفي وبذل اجتهاد أراد فيه الحق من جهة الله والرسول.

وبعد ذلك وهو موضوع المقال : إن الكلام في أخطاء الدعاة وأهل العلم من أهل السنة يحتاج إلى رتبة علمية أرفع من الكلام في نقد النصرانية والعلمانية والليبرالية، والكلام في البحوث التراثية والفقهية والتاريخية وتحقيق القول في ممارسات أمم خلت = يحتاج لرتبة أرفع من هاتين، والكلام في مسائل السياسة الشرعية والجهاد يحتاج لرتبة أرفع من هؤلاء جميعاً .
فالعلم والعدل والحلم = مراتب إذ كانوا من الإيمان ،وكلما ضاق خطأ الرجل وضاقت المسافة بينه وبين الحق = احتاج للبصر به ونقده إلى من هو أعلم وأعدل وأحلم ممن يتصدى لنقد الأخطاء المنافية للثوابت، وهذه الرتبة العلمية لن نختبر الناس لندرك هل حازوها أم لا، بل كل نفس بما كسبت رهينة، ثم ستتوالى قرائن الضعف التراثي في أقلام إخواننا هؤلاء بما يُكَثر قرائن افتقادهم لهذه الرتبة مما يجعل سائغاً جداً اتهامهم بالتعالم والدخول فيما لا يحسنون إن أهم أصروا على الكذب على أنفسهم.
فنحن نشكر لكثير من الإخوة المتصدين لنقد النصارى والعلمانيين والليبراليين أو المتكلمين في مسائل السياسة ونحوها جهودهم، ولكن قلة قليلة جداً ممن رأيته يتصدى لهذه الأبواب هم الذين يصلح أن يقال عنهم إنهم من أهل العلم القادرين على البحث التراثي التحقيقي والنظر في نقد ونصح الدعاة والعلماء من أهل السنة ، فنشكر للباقين ولمن لم تتوفر فيهم الأهلية ونسأل الله لهم الإعانة على الثغور التي هم عليها ولكنا نهتف بهم رجاء : ابقوا حيثما أحسنتم ولا تجاوزوه.