قال الشيخ مقبل بن هادي رحمه الله : من أهل العلم من يقول: إنه يحمل على السماع، قال ابن دقيق العيد -كما في «فتح المغيث» -: إن في النفس شيئا. فهو محمول على السماع، لأن مثل الإمام البخاري لا يخفى عليه هذا، وهو الأحوط، حتى لا يتجرأ على تضعيف أحاديث في «الصحيحين»، ما ضعفها أحد من المتقدمين، والله أعلم. قال ابو الحسن المأربي في كتابه اتحاف النبيل عنعنة المدلّسين في «الصحيحين» محمولة على السماع، بل نحن نجد في رواة الأحاديث في «الصحيحين) رجالاً قد تكلّم فيهم من قبل الحفظ، فضلاً عن التدليس، ومع ذلك نجد صاحبي «الصحيح» لم يتأخرا في التخريج عن هؤلاء الرجال.

فإمّا أن تكون هذه العنعنة قد ثبت تصريح المدلّس فيها بالسماع في موضع آخر، فتكون – والحمد لله – قد زالت العلّة، ولو فرضنا؛ أننا قد بحثنا في كلّ الطرق، فوجدناها بالعنعنة.

فنحن نقول أيضاً: إنَّ إخراج البخاري أو مسلم – يرحمهما الله تعالى – لهذا الرجل وتلقي الحفّاظ لـ «الصحيح» بالقبول كافٍ؛ لأن ما وسع الحفاظ يسعنا، ولا نريد أن نزعزع ثقة المسلمين في «الصحيحين»، فنفتح المجال للناس في ذلك، وقد سمعنا أنّ هناك من يحقق «صحيح البخاري» أو «صحيح مسلم»، والله المستعان.
الشاهد من هذا أن قول من يقول: لماذا نضعف أحاديث المدلسين خارج «الصحيحين» ولا نضعِّفهما داخل «الصحيح»؟

وقال: نحن بهذا نكون متشبهين ببني إسرائيل الذين إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد.

أقول: فرق واسع، وبون شاسع بين هذا وذاك، فإننا نتكلّم على الأحاديث من جهة الصحة والضعف بكلام علمائنا، فإذا سبقنا علماؤنا وصحَّحوا الحديث وأجمعوا على صحته، مَنْ مِنّا يتجرأ على تضعيفه؟! وإذا أجمعوا على ضعفه فَمن يتجرأ على تصحيحه؟!
فحقيقة الأمر، أنَّ الفرق واسع جداً بين هذه وتلك، وما ينبغي أن يكون هناك مقارنة، أو وجه شبه في ذلك.
لأنِّي أقول لقائل هذه المقالة: من أين عرفت أنَّ عنعنة المدلسين لا تُقْبل إلا إذا صرّحوا بالسماع؟ أبآية من القرآن؟! أم بحديث نبوي؟! أم بأقوال العلماء – أعني: علماءَ الحديث -؟!.

فلا شك؛ أننا أخذناها عن علماء الحديث، ونحن نقول – كما قال الإمام أبو حاتم الرازي – يرحمه الله -: «أهل الحديث إذا اتفقوا على شيء كان اتفاقهم حجة».
وقد اتّفق أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل العلم، والأمّة على تسمية كتابّي البخاري، ومسلم بـ «الصحيحين» إلا الأحرف اليسيرة التي انتقدت، فّمن نحن حتى نأتي فنزعزع الثقة في «الصحيحين» ونقول: هذا صحيح، وهذا ضعيف؛ لأنَّ فيه فلاناً، وهو مدلس، أو لأن فلاناً له أوهام، أو لأنَّ فلانا قد اختلط أو تغيَّر؟! مَنْ نحن حتى نفعل هذه الأشياء؟!.

وكما نحن قد عرفنا من قواعد الأئمة أنَّ عنعنة المدلس لا تقبل، والمختلط إذا روى حديثاً فلا بدّ من تمييز هذه الراوية: هل هي في زمن الاستقامة، أو في زمن الاختلاط؟ وعرفنا أيضاً من قواعد الأئمة أنَّ كلام الحفّاظ إذا أجمعوا على شيء كان الأمر كما قالوا، وقد ذكر هذا أبو حاتم الرازي كما في كتاب «المراسيل» لابنه، (ص:192) برقم (703) ترجمة محمد بن شهاب الزهري. المؤلف.
فيا من تأخذ بالقواعد! هذا أيضاً من القواعد! فلماذا تأخذ ببعضها، وتترك بعضها؟!.
الأمر الآخر أننا نعلم أنَّ السند قد يكون ضعيفاً، ولكن الحديث صحيح بالمتابعات، ونحن نعرف أنَّ صاحبي «الصحيح» أخرجا من أحاديث أصحاب الضعف والأوهام، إما من أصول كتبهم، وإما أخرجا لهم ما توبعوا عليه، أو ما كان له أصل، أو ما ليس فيه نكارة، ثم الحفّاظ بعد ذلك يسلمون لهما، ولا يردون عليهما قولهما أو إدخالهما ذلك الحديث في الكتاب الموسوم بالصحة.

فمن نحن حتى نناقش حفّاظ الأمّة الذين أجمعوا على ضعف حديث، أو صحته؟!! ثم إنِّي أسأل المخالف في ذلك: لو أنَّك وقفت على سند رجاله كلهم ثقات، ورأيت ثلاثة من حفاظ الحديث كأحمد وابن مهدي ووابن المديني قالوا: هذا الحديث لا يشبه حديث فلان – أحد رجال السند – إنّما هو يشبه حديث فلان – ذاك الضعيف – وفي الجهة الأخرى: لو وقفت على سند فيه ضعيف، ورأيت هؤلاء الثلاثة مع تضعيفهم للراوي يصححون الحديث، وأنت لم تقف على هذه الشواهد، هل تسلم لهم في الأمرين أم لا؟ فإن سلمت لرسوخ قدمهم في هذا الباب، رجعت إلى قولنا، مع أنَّ قولنا يؤيده الإجماع لا مجرد ثلاثة فقط من الحفّاظ، وإن خالفتهم فأنت أهل لأّن تُخَالَف، وليس هذا من التقليد، بل هذا من إتباع خبر العدل، كما قبلنا قولهم في الراوي: فلان ثقة أو ضعيف، فنحن نقبل كل حديث في «الصحيحين» إلا الأحاديث التي انتقدت، فالانتقاد يفتح لنا باب الاجتهاد في تحكيم القواعد، والحكم عليها بما تستحق، أمّا أن نرد كلام هؤلاء الحفّاظ إذا أجمعوا فلا.

منْ منّا مثل الحفاظ الذهبي – يرحمه الله – في علمه وحفظه ونباهته؟! ومع ذلك لمّا ذكر حديث: «منْ عادى ليّ وليّاً، فقد آذنته بالحرب» وذكر أنَّه من غرائب خالد بن مخلد القطواني، وأنَّ خالداً خالف فيه جماعة، وعدّد أسباباً لضعفه، ومع ذلك قال: ولولا هيبة «الجامع الصحيح» لعُدَّ هذا من مناكيره أو غرائبه، انظر ترجمة خالد في «الميزان».

«فالجامع الصحيح» له هيبة؛ قد هابه الحافظ الذهبي؛ الذي قال في العقيلي: «أفما لك عقل يا عقيليُّ؟!»، والذي قال في ابن القطّان: «ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطّانّ» والذي قال في وكيع: «أما كان لك عقل حين حدّثت بهذا الحديث المنكر» الذي رواه في وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والذي كادت أن تذهب نفسه بسببه، الشاهد من هذا أنّه – يرحمه الله – مع شدّة لسانه، وجرأته على العلماء، رأيناه ضعيفاً مستضعفاً أمام «الجامع الصحيح».

وكنت قد تكلّمت مع شيخنا الألباني – حفظه الله تعالى – في مدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في موسم الحج سنة 1410هـ في هذه المسألة، وكان مناصراً لقول من يجيز النظر في أسانيد «الصحيحين» أو أحدهما، وإن لم يُسبق من العلماء السابقين، واستدل بأنَّ عدم عِلْمِنا بأن هذا الحديث منتقد هو جهل منّا بذلك، وأن عِلْمَنا بأن أبا حاتم – يرحمه الله – مثلاً قد ضعف أحد رواة السند، هو علم منّا، فيقدم العِلْمُ على الجهل، ويضعف الحديث وإن كان في «الصحيحين»، أو أحدهما.

والجواب على ذلك: وقد ذكرته لفضيلته آنذاك: أنَّ هناك فرقاً بين تضعيف الراوي، وتضعيف المتن، فلا يلزم من تضعيف إمام من الأئمة لأحد رواة السند، أن يضعف الحديث، وقد سبق ذكر بعض الأسباب التي بوجودها يخرج صاحب «الصحيح» لمن تُكُلِّم فيه، ولا شك أن تضعيف أبي حاتم – مثلاً – قد أطّلع عليه الحفّاظ؛ لأنّه لا يفوت الحفّاظ كلهم، نعم قد يفوت بعضهم أمّا كلُّهم؛ فلا، ومع ذلك لم يضعفوا هذا الحديث بعينه، فما وسعهم يسعنا.
فإن قيل: ما هو الحد الزمني الذي يُقبل قبله قول الناقد وبعده لا يقبل؟

فالجواب: أنَّ ذلك ليس له حدٌّ محدود، إنّما هو راجح إلى زمن وقوع التلقي للكتابين بالقبول، فمنذ ذاك الزمن وبعد اشتهار الكتابين، ووسمهما بالصحة، وعدم اعتراض الحفّاظ على ذلك إلا في أحرف يسيرة، ثم يأتي جيل وراء آخر مع توفر الدواعي للكلام وللنقل أيضاً، ولو وقع كلام لنقل لنا خلال مئات السنين الخالية بعد الحفّاظ المنتقدين على الكتابين، ولو طُلِب من المخالف أن يأتي بحافظ تكلّم في الكتابين أو أحدهما والمتكلّم من أهل الشأن في الكلام على العلل منذ سبعمائة سنة فيما أذكره الآن لما ظفر بذلك فيما أعلم والله أعلم، أفبعد هذه المئات من السنين، نرى من يأتي لما لم يسبق إليه وينفرد بالكلام على أحاديث في «الصحيحين» أو أحدهما؟! فتلقي الأمة بالقبول أقوى في النفس من متابعة سيء الحفظ أو نحوه.