لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ الْخَنْدَقِ ووَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ علبه السلام وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنْ الْغُبَارِ فَقَالَ: قَدْ وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وَضَعْتُهُ اخْرُجْ إِلَيْهِمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَأَيْنَ»، فَأَشَارَ إِلَىٰ بني قُرَيْظَةَ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم([1]).
وسارع في الخروج، وحث الصحابة علىٰ سرعة اللحاق به، حتىٰ قَالَ لهم صلى الله عليه وسلم: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بني قُرَيْظَةَ»، فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمْ الْعَصْرَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نُصَلِّي حَتَّىٰ نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ([2]).
خروج جبريل عليه السلام في كوكبة من الملائكة مع النبي صلى الله عليه وسلم إلىٰ بني قريظة:
عَنْ أَنَس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَىٰ الْغُبَارِ سَاطِعًا فِي زُقَاقِ بني غَنْمٍ مَوْكِبَ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ حِينَ سَارَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ بني قُرَيْظَةَ([3]).
وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قريظة لِحَسَّانَ بن ثابت: «اهْجُ المشركين فإن َجِبْرِيلَ مَعَكَ» ([4]).
ووصل النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلىٰ بني قريظة، وسمع بنو قريظة بقدوم النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، خمسًا وعشرين ليلة حتىٰ جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، وقد كان حُييُّ بن أخطب النضري دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان([5]).
فلما أيقنوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم أعلنوا استسلامهم فحكّم النبي صلى الله عليه وسلم فيهم سعد بن معاذ رضي الله عنه ورضي أهلُ قريظة بحكمه.
عن أبي سعيد الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَىٰ حُكْمِ سَعْدِ بن مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ النبي صلى الله عليه وسلم إِلَىٰ سَعْدٍ، فَأَتَىٰ عَلَىٰ حِمَار، فَلَمَّا دَنَا مِنْ الْمَسْجِدِ، قَالَ لِلْأَنْصَارِ: «قُومُوا إِلَىٰ سَيِّدِكُمْ – أَوْ خَيْرِكُمْ-» فقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هَؤُلَاءِ نَزَلُوا عَلَىٰ حُكْمِكَ»، فقَالَ: تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ ، وَتَسْبِي ذُرِّاريهُمْ، قَالَ: «قَضَيْتَ بِحُكْمِ الله»، وَرُبَّمَا قَالَ: «بِحُكْمِ الْمَلِكِ»([6]).
وفي رواية قَالَ سعد: وَأَنْ تُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ([7]).
النبي صلى الله عليه وسلم يميز بين الصغار والبالغين استعدادًا لتنفيذ حكم سعد رضي الله عنه:
عن عطية الْقُرَظِيِّ قَالَ: كُنْتُ مِنْ سَبْيِ بني قُرَيْظَةَ، فَكَانُوا يَنْظُرُونَ فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعْرَ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ يُنْبِتْ لَمْ يُقْتَلْ، فَكُنْتُ فِيمَنْ لَمْ يُنْبِتْ.
وفي لفظ: فَكَشَفُوا عَانَتِي فَوَجَدُوهَا لَمْ تَنْبُتْ، فَجَعَلُونِي مِنْ السَّبْيِ([8]).
قال ابن إسحاق:
ثم استنزلوا، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلىٰ سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يُخرج بهم إليه أرسالاً([9]) وفيهم عدو الله حُييُّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يُذهب بهم إلىٰ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً: يا كعب، ما تراه يُصنع بنا؟ قال: أفي كل موطن لا تعقلون؟ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله القتل فلم يزل ذلك الدأب حتىٰ فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم([10]).
وفي ذلك يقول الله تعالىٰ: (وأنزل الذين ظاهروهم )، أي: عاونوا الأحزاب وساعدوهم علىٰ حرب المسلمين، (من أهل الكتاب من صياصيهم) أي: من حصونهم، (وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديرا) [الأحزاب: 26، 27].
المرأة الوحيدة التي قتلت من بني قريظة:
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنه قَالَتْ: لَمْ تُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ – تَعْنِي بني قُرَيْظَةَ- إِلَّا امْرَأَةٌ، إِنَّهَا لَعِنْدِي تُحَدِّثُ: تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ رِجَالَهُمْ بِالسُّيُوفِ، إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا: أَيْنَ فُلَانَةُ؟ قَالَتْ: أَنَا، قُلْتُ: وَمَا شَأْنُكِ؟ قَالَتْ: حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ، قَالَتْ: فَانْطَلَقَ بِهَا، فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا، فَمَا أَنْسَىٰ عَجَبًا مِنْهَا: أَنَّهَا تَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّهَا تُقْتَلُ([11]).
قال ابن هشام رحمه الله:
وهي التي طرحت الرَّحىٰ علىٰ خلاد بن سويد فقتلته([12]).
فكان هذا آخر عهد لليهود بالمدينة، وآخرهم بني قريظة الذين نالوا جزاء خيانتهم العظمىٰ، ونقضهم العهد الذي كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وصدق الله تعالىٰ إذ يقول: (أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم) [البقرة: 100].
ثم أسلم بعض بني قريظة وآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فبقوا بالمدينة.
عَنْ عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: حَارَبَتْ النَّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ، فَأَجْلَىٰ بني النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّىٰ حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ، فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ، وَأَوْلَادَهُمْ ، وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، إِلَّا بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَهُمْ وَأَسْلَمُوا، وَأَجْلَىٰ يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلَّهُمْ بني قَيْنُقَاعَ، وَهُمْ رَهْطُ عبد الله بن سَلَامٍ وَيَهُودَ بني حَارِثَةَ وَكُلَّ يَهُودِ الْمَدِينَةِ([13]).


([1]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4122)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلىٰ بني قريظة ومحاصرته إياهم، مسلم (1769)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتال من نقض العهد.

([2]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4119)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب ومخرجه إلىٰ بني قريظة، مسلم (1770)، كتاب: الجهاد والسير، باب: المبادرة بالغزو وتقديم أهم الأمرين المتعارضين.

([3]) صحيح: أخرجه البخاري (4118)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم ومخرجه إلىٰ بني قريظة.

([4]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4124)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، مسلم (2486)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه.

([5]) «سيرة ابن هشام» 3/127.

([6]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4122)، كتاب: المغازي، باب: مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب، مسلم (1768)، كتاب: الجهاد والسير، باب: جواز قتل من نقض العهد.

([7]) هذا لفظ البخاري.

([8]) صحيح: أخرجه أبو داود (4404، 4405)، كتاب: الحدود، باب: في الغلام يصيب الحد، وصححه الشيخ الألباني «صحيح سنن أبي داود».

([9]) أرسالاً: أي طائفة بعد طائفة.

([10]) «سيرة ابن هشام» 3/130.

([11]) صحيح: أخرجه أحمد 6/277، أبو داود (2671)، كتاب: الجهاد، باب: في قتل النساء، وصححه الألباني «صحيح سنن أبي داود».

([12]) «سيرة ابن هشام» 3/131.

([13]) متفق عليه: أخرجه البخاري (4028)، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير، ومسلم (1766)، كتاب: الجهاد والسير، باب: إجلاء اليهود من الحجاز.