مما ذكر في قصة رحلة الشافعي في المصنف المقصود : عن عمارة بن زيد قال : كنت صديقاً لمحمد بن الحسن فدخلت معه على الرشيد, فسأله عن أحواله فقال: في حبرة يا أمير المؤمنين. ثم تسارا فسمعت محمد بن الحسن يقول: يا أمير المؤمنين إن محمد بن إدريس الشافعي يزعم أنه للخلافة أهلٌ. قال: فغضب الرشيد فقال: علي به. فأتي به وأجثي بين يديه, فكره الرشيد أن يعجل عليه من غير امتحان فقال: هيه. فقال: فما هيه يا أمير المؤمنين؟ أنت الداعي وأنا المدعو, وأنت السائل وأنا المجيب. قال: كيف علمك بكتاب الله فإنه أولى أن يبتدأ به؟ قال: جمعه الله في صدري وجعل دفتيه جنبي، فقال: كيف علمك به؟ قال: أي علم تريد يا أمير المؤمنين, علم تأويله, أم علم تنزيله, مكيه أم مدنيه, ليليه أم نهاريه, أم سفريه أم حضريه, أم إنسيه أم وحشيه, أم نسقه وصفته, أم تسمية سوره؟ قال: فأعجب الرشيد ذلك فقال: لقد ادعيت من القرآن أمراً عظيماً فكيف علمك بالفرائض؟ قال: إني لأفرض الصلب, وأعرف اختلافهم في الجد. قال: فكيف علمك بالأحكام؟ قال: في عتاق أم طلاق, أم في قضاء, أم في الأشربة, أم في المتاجرات. قال: فكيف علمك بالطب؟ قال: أعرف منه ما قالت الروم وبابل وبقراط وساهمور وأرسطو طاليس وجالينوس. قال: فكيف علمك بالنجوم؟ قال: أعرف منه القطب الدائر والمائي والناري, والمذكر والمؤنث, وما يهتدى به في البر والبحر. قال: فكيف علمك بالشعر؟ قال: أعرف الشاذ منه وما نبه للمكارم. قال: فكيف علمك بأنساب العرب؟ قال: أعرف منه نسب الكرام وفيهم نسب أمير المؤمنين ونسبي. فقال: لقد ادعيت من العلوم أمراً عظيماً تطول به المحنة فعظ أمير المؤمنين بموعظة -قد جرى ذكرها في الحكاية الأولى- قال: ثم التفت إلى محمد بن الحسن فقال: ناظره بين يدي حتى أكون فاصلاً بينكما. قال: فالتفت محمد بن الحسن إلى محمد بن إدريس فقال: ما تقول يا شافعي في رجل تزوج بامرأة ودخل بها, وتزوج ثانية ولم يدخل بها, وتزوج ثالثة ودخل بها, وتزوج رابعة ولم يدخل بها, أصاب الثانية أم الأولى والرابعة عمة الثالثة؟ قال الشافعي: ينزل عن الثانية والرابعة من غير أن يلزمه شيءٌ, ويتمسك بالأولى والثالثة. قال محمد: ما حجتك؟ قال: أما الثانية فإن الله عز وجل يقول: {فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم} , وأما الرابعة فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها. ما تقول أنت يا محمد بن الحسن كيف استقبل النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر وكبر؟ قال: فتعتع محمد بن الحسن. قال عبد الله بن محمد البلوي: ولو سأله كيف فعل أبو حنيفة لأخبره. فقال الشافعي: يا أمير المؤمنين سألني عن الأحكام فأجبته, وسألته عن سنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إليها الصادر والوارد فلا يجيبني, أمن الإنصاف هذا؟ فتبسم الرشيد وأمر له بعشرة آلاف درهم. فخرج الشافعي ففرقها على باب داره, وانصرف مكرماً .

قال النووي في المجموع شرح المهذب : ... ثم رحل الشافعي من مكة إلى المدينة قاصدا الاخذ عن ابي عبد الله مالك بن أنس رحمه الله: وفي رحلته مصنف مشهور مسموع فلما قدم عليه قرأ عليه الموطأ حفظا فأعجبته قراءته ولازمه وقال له مالك اتق الله واجتنب المعاصي فانه سيكون لك شأن: وفي رواية أخرى أنه قال له انه الله عز وجل قد القى على قلبك نورا فلا تطفه بالمعاصى: وكان للشافعي رحمه الله حين اتى مالكا ثلاث عشرة سنة ثم ولى باليمين: واشتهر من حسن سيرته وحمله الناس على السنة والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة . وكذا نقل شيئا منها في كتابه تهذيب الأسماء واللغات .

أما الذهبي فيقول في السير : سَمِعْنَا جُزْءاً فِي رِحْلَةِ الشَّافِعِيِّ، فَلَمْ أَسُقْ مِنْهُ شَيْئاً، لأنَّهُ بَاطِلٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ ، وَكَذَلِكَ عُزِيَ إِلَيْهِ أقوَالٌ وَأُصُوْلٌ لَمْ تَثْبُتْ عَنْهُ، وَرِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ عَنْهُ فِي مَحَاشِّ النِّسَاءِ ( أي الدبر ) مُنْكَرَةٌ، وَنصُوصُهُ فِي تَوَالِيفِهِ بِخِلاَفِ ذَلِكَ.أهـ
هذا الجزء المنسوب للشافعي مروي من طريق عبد الله بن محمد البلوي الكذاب الوضاع، وأما الإمام البيهقي فإنه أورد خبر هذه الرحلة عن طريق البلوي هذا في مناقب الشافعي وما بعدها، ولم ينبه على وضعها، مع أنه لا يخفى عليه بطلانها، فانخدع بصنيعه هذا غير واحد ممن ألف في مناقب الشافعي ممن لا شأن له في تمحيص الروايات وغربلتها من أمثال الجويني والرازي وأبي حامد الطوسي، واعتمدوها بصدد ترجيحهم لمذهب الشافعي .
قال الشيخ شعيب في تعليقه على السير : ولا ينقضي عجبي كيف راجت هذه الفرية على الامام النووي، وهو من نقدة الاخبار وجهابذة المحدثين، فقال في " المجموع " 1 / 81: وفي رحلته مصنف مشهور مسموع، ونقل منها في " تهذيب الأسماء " 1 / 59 قوله: وبعث أبو يوسف القاضي إلى الشافعي حين خرج من عند هارون الرشيد يقرئه السلام، ويقول: صنف الكتب فإنك أولى من يصنف في هذا الزمان.
أما الحافظ ابن حجر، فقد قال في " توالي التأسيس " ص 71: وأما الرحلة المنسوبة إلى الشافعي المروية من طريق عبد الله بن محمد البلوي فقد أخرجها الآبري والبيهقي، وغيرهما، مطولة ومختصرة، وساقها الفخر الرازي في " مناقب الشافعي " - ص 23 - بغير إسناد معتمدا عليها، وهي مكذوبة، وغالب ما فيها موضوع، وبعضها ملفق من روايات ملفقة، وأوضح ما فيها من الكذب قوله فيها: إن أبا يوسف ومحمد بن الحسن حرضا الرشيد على قتل الشافعي، وهذا باطل من وجهين: أحدهما: أن أبا يوسف لما دخل الشافعي بغداد كان مات ولم يجتمع به الشافعي.
والثاني: أنهما كانا أتقى لله من أن يسعيا في قتل رجل مسلم، لا سيما وقد اشتهر بالعلم وليس له إليهما ذنب إلا الحسد له على ما آتاه الله من العلم.
هذا ما لا يظن بهما، وإن منصبهما وجلالتهما وما اشتهر من دينهما ليصد عن ذلك والذي تحرر لنا بالطرق الصحيحة أن قدوم الشافعي بغداد أول ما قدم كان سنة أربع وثمانين، وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنتين، وأنه لقي محمد بن الحسن في تلك القدمة، وكان يعرفه قبل ذلك من الحجاز وأخذ عنه ولازمه.
أما الرواية المستنكرة عن الشافعي رحمه الله فهي التي ذكرها الذهبي في كلامه السابق الذكر .
وهي رواية ابن عبد الحكم التي أوردها ابن أبي حاتم في " آداب الشافعي " ص (216) عنه قال: سمعت الشافعي يقول: ليس فيه - يعني في إتيان النساء في الدبر - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التحريم والتحليل حديث ثابت، والقياس أنه حلال.وذكرها الذهبي في " الميزان " في ترجمة ابن عبد الحكم 3 / 612، فقال: هذا منكر من القول، بل القياس التحريم، وقد صح الحديث فيه، وقال الشافعي: " إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط ".
قال ابن الصباغ في " الشامل " عقيب هذه الحكاية: قال الربيع: والله لقد كذب على الشافعي، فإن الشافعي ذكر تحريم هذا في ستة كتب من كتبه.
قلت: ( شعيب ) والأحاديث في النهي عن إتيان الرجل زوجته في دبرها صحيحة ثابتة، مخرجة في " زاد المعاد " 4 / 257، 261، " وشرح السنة " 9 / 104 بتحقيقنا.
ومما يقوي قول الربيع في أن ما أثر عن الشافعي من رواية ابن عبد الحكم كذب، أن الشافعي رحمه الله أورد حديث خزيمة بن ثابت في " الأم " 5 / 173، 174 من طريق عمه، عن ابن السائب، عن ابن الحلاج، عن خزيمة بن ثابت...وفيه: " فإن الله لا يستحيي من الحق، لا تأتوا النساء في أدبارهن " وصححه ثم قال: فلست أرخص فيه، بل أنهى عنه.
فهذا نص صريح واضح في كون الشافعي رحمه الله يحرم على الرجل أن يأتي زوجته في دبرها.
وانظر " السنن الكبرى " 7 / 196، 199، و" مناقب الشافعي " 2 / 10، 13.
واستدل أيضا في " الام " 5 / 94 في تحريم إتيان النساء في أدبارهن بالآية وبحديث خزيمة بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والاتيان في الدبر حتى يبلغ منه مبلغ الاتيان في القبل محرم بدلالة الكتاب ثم السنة.