تستمد حركة تحرير المرأة المعاصرة جذورها الفكرية من الماركسية الحديثة، حيث تعتبر أن خطأ الماركسية القديمة هو اللجوء إلى الأساليب الاقتصادية لبناء مجتمع لا طبقي؛ بينما اللجوء إلى الأساليب الاجتماعية هو السبيل الوحيد لمجتمع خالٍ من الطبقات والميول الطبقية، وتمثل "الأسرة" والأمومة في نظر "الماركسية الحديثة" السبب وراء نظام طبقي جنسي يقهر المرأة، لا يرجع إلا لدورها في الحمل والأمومة. وإذا كانت السنن الكونية الطبيعية عندهم هي التي اقتضت هذا الاختلاف البيولوجي فلا بد من الثورة على هذه السنن الطبيعية والتخلص منها بحيث تصبح الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة فروقاً اجتماعية متصلة بالأدوار التي يؤديها كلٌّ من الرجل والمرأة وليست متصلة بالخواص البيولوجية لكل منهما؛ ومن ثَمَّ فإذا قام الرجل بوظيفة المرأة وقامت المرأة بوظيفة الرجل فإنه لن يكون هناك ذكر وأنثى وإنما سيكون هناك نوع «جندر».
وهذا النوع هو الذي سيحدد طبيعة دوره في الحياة بحيث يجوز للأنثى أن تمارس دور الذكر والعكس، وبحيث لا تكون هناك أسرة بالمعنى التقليدي ولا أبناء ولا رجل ولا امرأة، وإنما أسر جديدة شاذة وأبناءٌ نتاج للتلقيح الصناعي؛ فأي فكر شيطاني ذلك الذي تتبناه "الحركة النسائية الجديدة"؟! وأي قوة تجعل من الأمم المتحدة وأمريكا والغرب تتبنى هذا الفكر الشيطاني لفرضه على العالم؟!!
إنها تعبير عن إرادة لا نقول علمانية وإنما إلحادية لتحويل الوجود البشري لوجود بلا قيمة ولا معنى تنتفي معه الغاية من استخلاف الله للإنسان في الأرض. وفي الواقع فإن هذا الفكر الإجرامي ليس خطراً على المجتمعات الإسلامية فحسب ولكنه خطر على الحضارة الإنسانية ذاتها؛ لكن المجتمعات الإسلامية تأتي في القلب من معتقد هذا المخطط الإجرامي البديل والجديد.
والصحة الإنجابية مفهوم يراد له ظاهرا: " أن يكون المواطن أو المواطنة في حالة صحية واجتماعية ونفسية وذهنية سليمة على مدار المراحل المختلفة من العمر؛ ولهذا أصبح الاهتمام بصحة المرأة والصحة الإنجابية لها يبدأ قبل الزواج، برعايتها صحيًّا وهي طفلة وعدم التمييز بين الطفلة الأنثى والطفل الذكر، في حق كل منهما في نيل نفس القدر من التعليم والرعاية الصحية والغذاء والمعاملة الحسنة، ثم رعايتها بعد الزواج وأثناء مرحلة الخصوبة، ثم في مرحلة ما بعد سِنِّ الحمل" كما يجيء نصاً في خطط العمل.. لكن باطن مفهوم الصحة الإنجابية ينطوي على ترويج مفاهيم زواج الشذوذ والحق في الإجهاض.
فعن وجهة النظر الغربية يقول لوتي هيلستروم، كبير أطباء الأمراض النسائية في مستشفى كارولينسكا بستوكهولم: إن وضع نهاية للحمل مسألة شغلت الإنسان في كل العصور, فالإجهاض ( أو abort بالسويدية وهي كلمة ترجع إلِى اللاتينية ومعناها مولود في مرحلة مبكرة ) قد تمت مناقشته في كل المجتمعات ــ من قبل الكنيسة، وعلم الطب، وكذلك من قبل المشرعين القانونيين. وتوجد لدينا في السويد حرية الإجهاض بناء للطلب حتى نهاية الأسبوع 18للحمل، وذلك وفقا لقانون شرع عام 1975, ويترك مشرعو القانون القرار النهائي بشكل كامل للمرأة، فللمرأة سلطة على جسدها وهي مسئولة عن مستقبلها الشخصي. إن الإجهاض هو حق للمرأة، فهي لا تحتاج إلى إعطاء أسباب أو أن تجادل للحصول عليه. إن إمكانية تشكل الأطفال والحمل بهم وولادتهم هي قوة جوهرية وأزلية مقترنة بعواطف حادة، لذلك فإن السؤال عن متابعة أو إيقاف الحمل يضع الإنسان والعلم وجها لوجه وعلى مختلف الأصعدة، صعيد العواطف، والأخلاق والقيم، وكذلك صعيد تقني وطبي.
وعن وجهة نظر العلمانيين في البلاد الإسلامية يقول منصور حكمت [1]: نحن ندعو إلى حرية استعمال بعض المواد المخدرة، بل حتى تأمينها من قبل الدولة للمدمنين ونعتبر هذا شرطاً لزوال الإدمان، نحن ندعو لإلغاء الحظر على البغاء وندعو لأن يحمي القانون الممارسين لهذه المهنة ونعتبر هذا أحد شروط زوال البغاء. إن الإجابة على مصائب المجتمع الرأسمالي لا تتم من خلال حظرها قانونياً ومعاقبة ضحاياها. هذا ليس حديثنا نحن الشيوعيين فحسب، بل هو حديث كل شخص متقدم متماشياً مع التمدن الأوربي نفسه.
بالضبط نفس الشيء بالنسبة لمسألة الإجهاض. نحن لا نعتبر الإجهاض عملاً صحيحاً. نحن نطالب بقيام مجتمع لا يحدث فيه هذا الأمر من الأساس. لا أحد يصل فيه بممارسته وعمله إلى هذا الحد ولا يبرز مثل هذا الخيار من الأساس. هل هذا مطلب عجيب؟ كلا. إنه مطلب الأغلبية العظمى من الجماهير وقبل الجميع هو مطلب كل شخص سواء كان امرأة أو رجل، أحس في حياته المباشرة بالألم والامتعاض تجاه إسقاط الجنين. أنا لا أجد شخصاً أو حركة تقدس عمل الإجهاض كعمل إنساني سام. إن البرودة واللامبالاة العاطفية تجاه الإجهاض هي مسألة موجودة في الأوساط الأصولية من الحركة الفمنستية النسوية. ولكن هذا الأمر على الأكثر هو نتيجة للتربية السياسية العصبويه والتعصب الأيديولوجي والفرقوي لهذه الحركة أكثر من كونه نتيجة للإحساس الواقعي لهم باعتبارهم بشراً.
ولكن الوقائع الخارجية لا تزول طبقاً لمطالبنا ورغباتنا. هناك حمل غير مرغوب به، وهناك تراجع وندم على حمل كان مرغوباً، وهناك ضائقات مالية وثقافية وضغوطات سياسية، ويوجد ضغط على النساء بشكل غير محدود. ولاشك أن إسقاط الجنين بالنسبة لأعداد كبيرة يبرز كحل وطريق وحيد للخروج من مأزق. إن الإجهاض هو إحدى وقائع عالم اليوم؛ ولا يمكن للمجتمع أن يغض الطرف عنها أو يدفن رأسه كي لا يراها. يجب أن تحدد ضوابط هذا العمل الذي هو بأية حال موجود بغض النظر عن إرادة أية دولة أو حزب أو حركة سياسية. إن حظر الإجهاض ومعاقبة ضحاياه هو نظام اجتماعي موجود. ولا يمكن لهذا أن يكون موقفاً لنا.
إن برنامجنا يعلن أن عمل الإجهاض هو عمل غير صحيح ومناف لمبادئه الإنسانية. ولكنه سواء لحماية ضحايا المصاعب الاقتصادية والتخلف الثقافي في المجتمع القائم أو لأجل النضال ضد أسس هذه الممارسة، يعتقد بأن الإجهاض يجب أن يكتسب الصفة القانونية.
ثم يقول منصور حكمت: يجب تحسين وتوسيع أساليب منع الحمل، والتعليم الجنسي، وتوسيع حقوق الأطفال والارتقاء بكرامتهم، والنضال ضد الأخلاقيات المتخلفة والتعصب الجاهل المخالف للثقافة الجنسية العامة والسيطرة الحرة للأفراد على علاقاتهم الجنسية، وغيرها .. يجب أن يتم العمل على تمكين ليس المراهقات فحسب، بل أية امرأة لا تريد أن تكون حاملاً، أن لا تصبح حاملاً.
إن موقف الحزب الشيوعي العمالي هو الدفاع عن قانونية الإجهاض .. في برنامجنا الإجهاض حر وقانوني حتى الأسبوع الثاني عشر من الحمل. والقرار بيد المرأة نفسها وليس بيد أي شخص آخر؛ وليس للمرأة حاجة لتبرير طلبها أو إحضار وثائق إلى أي مرجع طبي أو إداري. والإجهاض مجاني، ويجب أن يتم في عيادات مجهزة.
والحديث عن الإثنى عشر أسبوعا في برنامجنا ليس له أي ارتباط بمرحلة ابتداء الحياة أو إمكانية استمرار حياة الجنين خارج رحم أمه ( الذي هو، بالنسبة للبعض، يعد لحظة استقلال هوية الجنين عن أمه) فمن الواضح أن شخصاً مثلنا يعتبر عمل الإجهاض بحد ذاته غير إنساني ويدافع عن قانونيته باعتباره اضطراراً اجتماعياً وأهون الشرور، من المؤكد أنه يميل إلى تقليل مدة الإجهاض المسموح بها إلى أقصى ما يمكن.
من جانب آخر، يجب أن يكون القانون عملياً بالنسبة للنساء، مُرشِداً وغير شكلياً. يجب أن تتوفر الفرصة، من الناحية الطبية والجسدية، لتشخيص الحمل وإعطاء القرار بصدد الإجهاض ووضع الخطة اللازمة له. هناك حقيقة وهي أن الإجهاض، من الناحية الطبية، إذا أجرى قبل الموعد المحدد، فأنه غير عملي بل حتى خطر. على هذا الأساس، يجب أن تكون المهلة المتاحة لإجراء الإجهاض كافية بالمقياس الضروري وفي نفس الوقت محددة قدر الإمكان. إن وجه المسألة، بالنسبة لنا، هو تخفيض تلك المدة مع أخذ الظروف والإمكانات الطبية والاجتماعية بنظر الاعتبار [2]
وتعتبر قضية الإجهاض من أكثر القضايا المثيرة للجدل لارتباطها من جانب بحقوق الأسرة الكلية وحقوق المرأة الفردية، ومن جانب آخر تعبيرها عن منظومة متكاملة تدعو للتحرر من الهياكل التقليدية وممارسة الحرية الفردية المطلقة والتي تشمل الجنس والاستهلاك المدمر والشذوذ طالما لا تتعدى الممارسة حرية الفرد الواحد، وقد فطن العديد من الأفراد والتجمعات الأهلية والأحزاب السياسية إلى خطورة ذلك التوجه نحو حرية الإجهاض وهو ما حدا بهم إلى إنشاء تكتلات مناوئة لحق الإجهاض أطلق عليها بشكل عام Pro-life أي منظمات مؤيدة لحق الحياة، المقصود حياة الجنين، وتكاد تكون الجمعيات الأهلية العاملة في هذا الصدد في الولايات المتحدة خير مثال على مدى اتساع نشاط منظمات الـ pro-life بسبب محورية قضية الإجهاض في الانتخابات السياسية وانقسام المجتمع حولها.
المصادر والهوامش
عولمة المرأة كمال حبيب
الصحة الإنجابية… وما وراءها! عبير صلاح الدين
[1] من أبرز أعضاء الحزب الشيوعي العمالي الإيراني
[2] عن المجلد الثامن لآثار منصور حكمت الصادر في تشرين الثاني ١٩٩٧. نُشِرَ لاول مرة باللغة الفارسية في مجلة هاوبشتي-التضامن- التي يصدرها الاتحاد العام لمجلس اللاجئين الايرانيين، في العددين ٧٣ و ٧٤ الصادرين في آب وأيلول من عام ١٩٩٧.
د/ خالد سعد النجار
alnaggar66@hotmail.com