تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: إباء..

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Dec 2009
    المشاركات
    270

    افتراضي إباء..

    لم يكن ياسين ذو الاثني عشرة سنة طفلا كباقي الأطفال, بل كان مثالا يحتدى به في الشجاعة والجرأة والعزيمة القوية. لم تمنعه ​​يوما تلك التأتأة التي صاحبته منذ أن تعلم لسانه الغض أبجديات الكلام أن يرفع أصبعه في ثقة و أن يشارك أصدقاءه مهارات التعلم. ولم تثنه ضحكاتهم التي كانت تملأ أرجاء الفصل, كلما أشرت إليه أن يجيب, عن إتمام كلامه. كانت أوداجه تنتفخ وتحمر وجنتاه الصغيرتان .. ينظر شزرا لأولئك الأشقياء الصغار, ثم يكمل بمشقة وجهد حديثه المتقطع الذي يتمنع عنه ويأبى إلا أن يخرج حروفا مكسرة تتكسر معها روحه الأبية, و يتمزق قلبه الصغير المرهف لسماع تعليقات ساخرة من أناس لم يربوا على الرحمة, ولم يعلموا أدبيات قبول الآخر. وقد كانت تلك الثقة التي أمنحه تشجعه على المواصلة و تعقيباتي الصادقة على حديثه تزيد من ثقته بنفسه.
    يومها أخذت عهدا على نفسي أن أحميه من لعنتهم التي ستجعله يوما يصمت إلى الأبد, فتصمت بداخله بهجة الحياة .. أحميه من نفسه التي بين جنبيه كي لا ينظر يوما بعين الازدراء والتسخط إلى اختلافه عن البقية فيتنكر لها ويتبرأ منها.
    كانت فرصتي لأعلم أولئك الذين سلمت ألسنتهم لكنهم أغمدوها وقت الجد و غطوا عن ذلك بثرثرة تذكرهم دوما أن لهم ألسنة أن وحده العقل يصنع المفارقات ووحده الإباء يصنع المستحيل ..
    لم يتكرر مشهد ضحكهم منذ ذلك اليوم الذي توجهت فيه إليهم بخطبة عصماء قاسية اللهجة, بعدما تركته يكمل حديثه وهم يتغامزون و يوزعون بينهم ضحكاتهم المستفزة, فلقنتهم درسا في أدبيات الحوار وأدبيات حق الجوار و اغتنمت الفرصة لأذكرهم بقوله تعالى "لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم», وختمت كلامي بوعيد لمن سيعيد الكرة وبعقوبة بحجم الجرم الذي كانوا يقترفونه طيشا ونزقا.
    استمر الأمر قرابة شهرين, أعلق خلالها على إجاباته سلبا وإيجابا بكل صدق ومن غير مجاملة, وأصبر نفسي على سماع مداخلاته حتى النهاية من غير أن أبدي تضايقي من ذلك الوقت الثمين الذي كان يأخذ منه حيزا أكثر مما يجب, يعيد حروفه وكلماته ويحاول, في جهدجهيد, ترتيب كل ذلك كي يخرج إلى النور فكرته مرتبة و أنيقة .. وكنت حينها أشجعه وأخرس عنه تمتمات الجيران لأختم تعليقي بكلمة كنت ارددها على مسامعه في كل مرة: "ستصل إن شاء الله, حاول أكثر فشجاعتك كنز ستعلم قيمته يوما. "
    كانت دموعي تغرق مآقي وأنا أرى دموعه الحرى تنسكب على وجنتيه, ولسانه لا يفتر عن شكري كلما أتحت له فرصة المشاركة, ولم أكن أفهم حينها لم يشكرني على أقل ما يمكنني أن أقدمه له بل هو واجبي ومسئوليتي أمام الله أن أعامله كما باقي زملائه وأن أتيح له فرصة التعبير عن ذاته بحرية. وأن أصبر على تلعثمه كما أصبر على شقاوة الآخرين. وأن أعلمه ان الحياة في ادق تفاصيلها كفاح .. إلى أن اخبرني يوما أنني كنت الوحيدة من مدرسيه التي لا تهمشه ولا تصرخ في وجهه وهو يصارع عيه طالبة منه أن ينهي كلامه و أن يترك فرصة لمن هو أفصح منه .. أخبرني أنهم كانوا يتحاشونه ويفضلون عنه من لا يضيع وقتهم الثمين ويشاركون لمزات وغمزات و ازدراء زملائه له ويثمنونها .. علمت حينها أنه كان فعلا في كفاح مستميت ويستحق بجدارة تلك الأوصاف التي كان لساني لا يفتر عن تشجيعه بها ..
    كم كانت فرحتي عارمة و أنا أرى تقدمه الملحوظ, حتى بات يفاجئني في الكثير من المرات, بكلام متصل لا تشوبه تأتأة, فأقابل جهده بالثناء عليه أمام زملائه وأقول له: "ألم أقل لك ستصل إن شاء الله? لا فضل لأحد عليك بل هي قوتك وإباؤك بعد توفيق الله .. "
    نفسها تلك الدموع كانت تذرف من عينيه العسليتين الصغيرتين. يطلع إلى وجهي بين دمعة و أخرى بنظرات امتنان, فأتحاشى النظر إليه وهو يشفي روحه العليلة من ألم دفين كان يقطع أوصاله, خشية أن يكتشف ضعفي وقلة حيلتي أمام تسلط الآخرين وتجبرهم ..
    كم كنت حينها أتمنى لو استطعت أن أحضنه وان أمسح عن عينيه عبراته الساخنة, و أن أجعله يفصح لي عن ذلك الذي يبكيه .. أن أستمد منه شجاعته كي أواجه أنا أيضا تلك الألسنة الأشحة الحداد التي تأبى أن تتركني أعيش كما أريد أنا وبما قدر الله علي, لما كما خططوا لي وكما يريدون .. أن أفصح له عن تلك الإعاقات التي تكتسحنا جميعا وتقف دون تحقيق طموحاتنا .. تجردنا من إنسانيتنا ومن براءاتنا ..
    لكنني كنت أتركه يغتسل فالدموع على كل حال شفاء .. وأشغل نفسي عن الحديث إليها كيلا أنكشف ..

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,172

    افتراضي رد: إباء..

    في الحقيقة أرى أن هذه المرة الأولى التي لا تسعفي فيها أيقونة شكرًا ولا تعطي القدر الحقيقي لامتناني وإظهار سعادتي بما قرأت!

    أجبرتِني يا أمة الستير على قراءة ما سطرتِ بقلبي لا بعيني التي لم تصمد طويلا أمام دقة تعبيركِ وحسن صياغتكِ, ونجاحكِ المذهل في عرض المواقف وكأننا نراها لا نقرأها!

    أسأل الله - تعالى - أن يبارك في هذا القلم وألا يحرمنا إياه.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Aug 2012
    الدولة
    العراق
    المشاركات
    283

    افتراضي رد: إباء..

    بارك الله فيكِ,وشكر لكِ
    وهَنيئًا لكِ أجْر رسالتكِ التي أرجو أنْ تُلامسَ مسمعَ الكثير من التِّدريسيّينَ الذينَ نَسَوا ,
    أو تَناسَوا دورَهُم تِجاه ذوي الاحتِياجَات الخَاصَّة.
    وأشكرُ لكِ أسلوبك الأدبيّ الرّائع...دُمْتِ بِخَيْرٍ غَالِيَتي.
    إنَّ الَّذي مَلأ الُّلغَاتَ محَاسناً جَعَلَ الجمَالَ وَسرَهُ في الضَّاد

  4. #4
    سارة بنت محمد غير متواجد حالياً مشرفة سابقة بمجالس طالبات العلم
    تاريخ التسجيل
    Dec 2007
    المشاركات
    3,129

    افتراضي رد: إباء..

    جميلة مثل صاحبتها (ابتسامة)
    عن جعفر بن برقان: قال لي ميمون بن مهران: يا جعفر قل لي في وجهي ما أكره، فإن الرجل لا ينصح أخاه حتى يقول له في وجهه ما يكره.

    السير 5/75

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Sep 2007
    المشاركات
    2,172

    افتراضي رد: إباء..

    من أكثر ما تتألم له النفس إهمال الأهل وتغافلهم عن أبنائهم ممن يعانون ذلك, والحل يكون يسيرًا في كثير من الأحيان, فليس من الإنصاف أو الحكمة ترك الطفل يعاني وكأنه تسليم لقدر لا مفر منه, وأول سُبل العلاج تكون بعرض الطفل على مراكز التخاطب لإجراء الاختبارات اللازمة وإمداده وأهله بالنصح حول كيفية العلاج الذي عليه أن يتبعه؛ فمنهم من تكون مشكلته نفسية فقط ولا يحتاج إلا لعلاج سلوكي, ومنهم من يحتاج إلى غير ذلك, لكن يؤلمني حقًا ما أرى من إهمال الأهل تلك العِلة وعدم المسارعة إلى مد يد العون للصغير.
    وليت كل المعلمين كما ذكرتِ من أخلاق سامية وعاطفة نبيلة وحكمة عالية في بث روح الأمل في هذا الصغير.
    أرجو من أخواتي الفاضلات قبول عذري عن استقبال الاستشارات على الخاص.
    ونرحب بكن في قسم الاستشارات على شبكة ( الألوكة )
    انسخي الرابط:
    http://www.alukah.net/Fatawa_Counsels/Counsels/PostQuestion.aspx

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Aug 2011
    الدولة
    لن ألبَثَ كثيرًا حتّى أكونَ تحتَ التُّراب.
    المشاركات
    603

    افتراضي رد: إباء..

    السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه
    بارَكَ اللّهُ فيكِ، وزادَ قلمَكِ وفكرَكِ رُقيًّا، وسخّرَكِ للخَيرِ أُختِي الفاضِلة()

    أجملُ ما في أُسلُوبِ تعامُلِ المُعلّمةِ معَ هذا الطّفلِ أنّها اتّخَذت أساسًا راسِخًا؛ تَقوَى الله،
    ثُمّ حينَها لم تَتردّد في تنبِيهِهِ لخطَئِهِ، ولَم تَغُشّه مُتوهّمةً أنّها ترحمُهُ كما يفعلُ بعضُ النّاس،
    وإنّما صدَقَت معَه في كُلّ الأحوالِ ليكونَ نجاحُها باهِرًا!

    يقولُ سُبحانَه:
    {ومَن يُؤتَ الحِكمةَ فقَد أوتِيَ خيرًا كثيرًا}.
    إن وعدْتُ بعودةٍ أو مُشاركةٍ ولم أعُد، أو كانَ لأختٍ حقٌّ عليّ فلتُحلّلني، أستودعُكُنّ الله .

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Dec 2009
    المشاركات
    270

    افتراضي رد: إباء..

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مروة عاشور مشاهدة المشاركة
    في الحقيقة أرى أن هذه المرة الأولى التي لا تسعفي فيها أيقونة شكرًا ولا تعطي القدر الحقيقي لامتناني وإظهار سعادتي بما قرأت!

    أجبرتِني يا أمة الستير على قراءة ما سطرتِ بقلبي لا بعيني التي لم تصمد طويلا أمام دقة تعبيركِ وحسن صياغتكِ, ونجاحكِ المذهل في عرض المواقف وكأننا نراها لا نقرأها!

    أسأل الله - تعالى - أن يبارك في هذا القلم وألا يحرمنا إياه.
    الله يبارك فيك يا مروة أخجلت كلماتك الرقيقة تواضعي وتعليقك وسام يتشرف به صدري ،فهنيئا لحرفي قراءتك أيتها الفاضلة.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Dec 2009
    المشاركات
    270

    افتراضي رد: إباء..

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة خنساء مشاهدة المشاركة
    بارك الله فيكِ,وشكر لكِ
    وهَنيئًا لكِ أجْر رسالتكِ التي أرجو أنْ تُلامسَ مسمعَ الكثير من التِّدريسيّينَ الذينَ نَسَوا ,
    أو تَناسَوا دورَهُم تِجاه ذوي الاحتِياجَات الخَاصَّة.
    وأشكرُ لكِ أسلوبك الأدبيّ الرّائع...دُمْتِ بِخَيْرٍ غَالِيَتي.
    وبارك فيك و أحسن إليك أخية.
    ممتنة لمرورك وتعليقك.

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Dec 2009
    المشاركات
    270

    افتراضي رد: إباء..

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سارة بنت محمد مشاهدة المشاركة
    جميلة مثل صاحبتها (ابتسامة)
    بل أنت الجميلة يا سارة .بوركت.

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Jan 2013
    المشاركات
    6

    افتراضي رد: إباء..

    رسالة حية تبثها كلماتك أخيتي ...
    رسالة لمن يملك بين جنباته قلب" انسان " كيّ يعرف اصول التعامل مع من يفتقدون

    أحد النعم التى وهبها لنا الله بكل سهوله ..

    فمن حمد النعمة ان لانسخر ممن حُرموا منها ...

    وكم لآسلوب المعلم من تاثير على الطلبه ..!

    لدرجة أن يتراجع المجتهد ... ويجتهد الكسول ...!؟!

    آين من يفهم هذه الرسالة ويطبقها .... !!!

    ويعيّ أن التعليم أمانة قبل أن يكون مهنة ..

    كلماتك جسدت الحدث امامى ... فعشتة بروحي "

    بآرك الله فـ حرفك الوآعيّ أختي ....

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •