تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: الصداقة

  1. #1

    افتراضي الصداقة

    أولاً: نص مقالة الصداقة
    الصداقة
    عاطفة سامية القدر، غزيرة الفائدة، تلك هي الصداقة، والشارع رغب في أن تكون المعاملة بين المسلمين معاملة الصديق للصديق، ألا ترونه كيف أمر المسلم بأن يحب لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه،؟ بل استحب للمسلم أن يؤثر أخاه المسلم وإن كان به حاجة، وذلك أقصى ما يفعله الصديق مع صديقه.
    هذا الأدب الإسلامي نبهني لأن أتحدث إليكم في هذه الليلة عن الصداقة:
    ما هي الصداقة؟:
    المحبة إما أن تكون للمنفعة، وإما أن تكون للذة، وإما أن تكون للفضيلة، وقد يطلق على كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة اسم الصداقة.
    صداقة المنفعة:
    هي أن يحب الإنسان شخصاً لما يناله منه من منافع، وشأنُ هذه الصداقة أن تبقى معقودة بين الشخصين ما دامت المنافع جارية، فإن انقطعت المنافع انقطعت هذه الصداقة.
    صداقة اللذة:
    هي المحبة التي تثيرها الشهوة، وقد تشتد فتسمى عشقاً، وشأن هذه الصداقة - أيضاً - أن تنقطع عندما تنصرف النفس عن اللذة التي بعثتها.
    صداقة الفضيلة:
    هي المحبة التي يكون باعثُها اعتقادُ كلٍّ من الشخصين أن صاحبه على جانب من كمال النفس، وهذه هي الصداقة التي يهمنا الحديث عنها في هذا المقام.
    الصداقة فضيلة:
    ليست صداقة المنفعة ولا صداقة اللذة بمعدودة في خصال الشرف، وإنما الذي يصح أن يعد خصلة شريفة هو الصداقة التي يبعثها في نفسك مجردُ اعتقادِ أن صاحبك يتحلى بخلق كريم.
    وهذه الصداقة تشبه سائر الفضائل في رسوخها في النفس، وإيتائها ثمراً طيباً في كل حين، وهي التي توجد من الجبان شجاعة، ومن البخيل سخاءًا؛ فالجبان قد تدفعه قوة الصداقة إلى أن يخوض في خطر؛ ليحمي صديقه من نكبة، والبخيل قد تدفعه قو ة الصداقة إلى أن يبذل جانباً من ماله لإنقاذ صديقه من شدة؛ فالصداقة المتينة لا تحل في نفس إلا هذبت أخلاقها الذميمة؛ فالمتكبر تنزل به الصداقة إلى أن يتواضع لأصدقائه، وسريع الغضب تضع الصداقة في نفسه شيئاً من كظم الغيظ، ويجلس لأصدقائه في حلم وأناة، وربما اعتاد التواضع والحلم، فيصير بعدُ متواضعاً حليماً.
    والفضل في خروجه من رذيلتي الكبر وطيش الغضب عائد إلى الصداقة.
    وإن شئت فقل: إن حب الشخص لك لفضيلتك علامة على كمال أصل خلقه؛ فإنك لا ترجو من شخص أن يحبك لفضيلتك إلا أن يكون صاحب فضيلة.
    وليس يعرف لي فضلي ولا أدبي * إلا امـرؤ كان ذا فضل وذا أدب
    الداعي إلى اتخاذ الأصدقاء:
    في اتخاذِ صديقٍ حميمٍ لذةٌ روحية يدركها من يَسَّر الله له أن انعقدت بينه وبين رجل من ذوي الأخلاق النبيلة، والآداب العالية مودة، ولا منشأ لهذه اللذة الروحية إلا الشعور بما بينه وبين ذلك الرجل النبيل المهذب من صداقة.
    وصديق الفضيلة هو الذي يجد في لقاء صديقه ارتياحاً وابتهاجاً، ويعد الوقت الذي يقضيه في الأنس به من أطيب الأوقات التي لا تسمح بها الأيام إلا قليلاً.
    ثم إن الصداقة - وإن قامت على أساس الفضيلة، ولم يكن للمنفعة أثر في تكوين رابطتها - تستدعي بطبيعتها جلب المنفعة أو دفع الضرر؛ فإنها تبعث الصديق على أن يدفع عن صديقه الأذى بما عنده من قوة، وتهزه لأن يسعده في الشدائد بما أوتي من جاه أو سطوة.
    ولمثل هذا أوصى بعض الحكماء باتخاذ الأصدقاء فقال: (( أعجز الناس من فرط في طلب الأخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم )).
    وقال الشاعر الحكيم:
    لعمرك ما مال الفتى بذخيرة * ولكن إخوان الثقات iiالذخائر
    الاستكثار من الأصدقاء:
    متى حظي الإنسان بأصدقاء كثيرين فقد ساقت له الأقدار خيراً كثيراً، ففي الصداقة ابتهاج القلب عند لقاء الصديق، وفيها لذة روحية ولو في حال غيبة الصديق، وفيها عون على تخفيف مصائب الحياة.
    وكذلك أوصى بعض الحكماء ابنه فقال: (( يا بني إذا دخلت المصر، فاستكثر من الصديق أما العدو فلا يهمنك )).
    وقال بعض الأدباء:
    ولـن تـنفك تُحسد أو تُعادى * فأكثر ما استطعت من الصديق
    ومبنى هذه النصيحة على أن شأن حساد الرجل وأعدائه تدبير الوسائل للكيد له، وطَرْقُ كلِّ باب يحتمل أن يكون من ورائه ما يشفي صدورهم؛ فإذا ساعده القدر على أن يُكْثِر من الأصدقاء فقد أكثر من الألسنةِ التي تدحض ما يُرمى به من المزاعم، والأيدي التي تساعده على السلامة من الأذى.
    علامة الصداقة الفاضلة:
    ليس من علامة الصداقة الفاضلة أن يقوم لك الرجل مُبْتَدراً، أو يلاقيك باسماً، أو يثني عليك في وجهك مسهباً ومكرراً؛ فذلك شيء يفعله كثير من الناس مع من يحملون له أشدَّ العداوة والبغضاء، وأصبح كثير منهم يعدونه من الكياسة، ويخادعون به من إذا أسمعوه مدحاً فكأنما سقوه خمراً.
    وربما استثقلوا من لم يسلك هذه الشعبة من النفاق، ونسبوه إلى جفاء الطبع، وقلة التدرب على الآداب الجارية في هذا العصر.
    وقد ذكر الأدباء للصداقة الخالصة علامات منها أن يدفع عنك وأنت غائب عنه.
    قال العتابي:
    وليس أخي مَنْ ودَّني رأي عينِه * ولكن أخي من صدَّقْتهُ iiالمغائب
    ومنها أن تكون مودته في حال استغنائك عنه واحتياجك إليه سواءًا.
    قال الأحنف بن قيس: (( خير الإخوان من إن استغنيت عنه لم يزدك في المودة، وإن احتجت إليه لم ينقصك منها )).
    ومنها أن ينهض لكشف الكربة عنك ما استطاع كشفها، لا يحمله على ذلك إلا الوفاء بعهد الصداقة، قال بعضهم في صديق له:
    وكنت إذا الشدائد أرهقتني * يـقوم لها وأقعد أو iiأقوم
    والألمعي يَعْرف الصداقة من نظرات العيون، ويحسها من في أساليب الخطاب، ويلمحها من وراء أحرف الرسائل:
    والنفس تدرك من عيني iiمحدثها * إن كان من حِزْبها أو مِنْ أعَاديها
    ومن الْمُثُل العالية للصداقة المتينة صداقة الوزير الوليد بن عبد الرحمن بن غانم للوزير هاشم بن عبدالعزيز.
    نقرأ في تاريخ الأندلس أن الوزير هاشماً بعثه السلطان محمد بن عبد الرحمن الأموي على رأس جيش، فوقع هذا الوزير أسيراً في يد العدو، وجرى ذكره يوماً في مجلس السلطان محمد بن عبدالرحمن، فاستقصره السلطان، ونسبه للطيش والعجلة والاستبداد بالرأي، فلم ينطق أحد الحاضرين في الاعتذار عنه بكلمة، ما عدا صديقه الوليد؛ فإنه قال:
    (( أصلح الله - تعالى - الأمير، إنه لم يكن على هاشم التخير في الأمور، ولا الخروج عن المقدور، بل قد استعمل جهده، واستفرغ نصحه، وقضى حق الإقدام، ولم يكن ملاك النصر بيدهِ، فخذله مَنْ وثق به، ونَكَل عنه من كان معه، فلم يزحزح قدمه عن موطن حفاظه، حتى مُلِكَ مقبلاً غير مدبر، ملبياً غير فشل، فجوزي خيراً عن نفسه وسلطانه؛ فإنه لا طريق للملامة عليه، وليس عليه ما جنته الحرب الغشوم.
    وأيضاً فإنه ما قصد أن يجود بنفسه إلا رضاً للأمير، واجتناباً لسخطه، فإذا كان ما اعتمد فيه الرضا جالب التقصير، فذلك معدود في سوء الحظ )).
    وقع هذا الاعتذار من السلطان موقع الإعجاب، وشكر للوليد وفاءه لهاشم، وترك تفنيد هاشم، وسعى في تخليصه.
    ووصل خبر هذا الاعتذار إلى هاشم، فكتب خطاب شكر للوليد ومما يقول في هذا الخطاب: (( الصديق من صدقك في الشدة لا في الرخاء، والأخ من ذب عنك في الغيب لا في المشهد، والوفي من وفى لك إذا خانك زمان )).
    ومما جاء في هذا الخطاب من الشعر:
    أيـا ذاكـري بالغيب في محفل iiبه * تَصَامَتَ جَمْعٌ عن جوابٍ به نصري
    أتـتـني والـبيداءُ بـيني iiوبـينها * رُقَـى كـلماتٍ خَلَّصَتْني من iiالأسر
    لـئـن قَـرَّب الله الـلقاء iiفـإنني * سأجزيك ما لا ينقضي غابر الدهر
    فكتب إليه الوليد جواباً يقول فيه:
    (( وصلني شكرك على أن قلتُ ما علمتَ، ولم أخرج عن النصح للسلطان بما ذكرته للسلطان من ذلك، والله - تعالى - شاهد على أني أتيت ذلك في مجالس غير المجلس المنقول إلى سيدي، إن خفيت عن المخلوق فما تخفى عن الخالق، ما أردت بها إلا أداء بعض ما اعتقده لك، وكم سهرتَ وأنا نائم، وقمتَ في حقي وأنا قاعد، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً)).
    الصداقة تقوم على التشابه:
    لا تنعقد الصداقة الصافية بين شخصين إلا أن يكون بين روحيهما تقارب، وفي آدابهما تشابه، قال عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة:
    ومـا يلبث الإِخوان أن iiيتفرقوا * إذا لم يُؤلِّف روحُ شكلٍ إلى شكل
    فإن وجدت صحبة بين بخيل وكريم، أو جبان وشجاع، أو غبي وذكي، أو مهتد ومبتدع - فاعلم أن الصحبة لم تبلغ أن تكون صداقة بالغة، قال الطائي:
    عـصابةٌ جـاورتْ آدابُـهم iiأدبي * فهم وإن فُرِّقُوا في الأرض جيراني
    أرواحـنا فـي مكان واحد iiوغدت * أبـدانُـنا بـشـآم أو iiخُـراسان
    البعد من صداقة غير الفضلاء:
    ينبغي للرجل أن يتخير لصداقته الفضلاء من الناس، فهؤلاء هم الذين تجد الصداقة فيهم قلوباً طيبة، فتنبت نباتاً حسناً، وتأتي بثمر لذيذ،
    قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:
    عزيزٌ إخائي لا ينال iiمودتي * من القوم إلا مسلمٌ كاملُ العقل
    وقال آخر:
    وبغضاء التقىِّ أقلُّ iiضيراً * وأسلم من مودة ذي الفسوق
    وكثيراً ما يقاس الرجل بأصدقائه، فإن رآه الناس يصاحب الفساق والمبتدعين سبق إلى ظنونهم أنه راضٍ عن الابتداع ولا يتحرج من الفسوق.
    وقد صرح أحد الشعراء بأنه ترك مودة رجل من أجل أنه يصاحب الأراذل من الناس، فقال:
    يـزهدني فـي ودك ابن مساحق * مودتُك الأرذال دون ذوي الفضل
    الاحتراس من الصديق:
    قد يوصي بعض الأدباء بالاحتراس من الصديق، كما قال أحدهم:
    أمـا العداة فقد أروك iiظنونهم * وأقصد بسوء ظنونك الإخوانا
    وأتى على هذا المعنى آخر، وأبدى له وجهاً، هو الخوف من أن ينقلب الصديق إلى عدو، فيكون أدرى بوجه الضرر، فقال:
    احـذر عـدوك iiمـرة * واحذر صديقك ألف مرة
    فـلربما انـقلب iiالصدي * ق فـكان أعلم iiبالمضرة
    والقول الفصل في هذا أن صديق المنفعة متى عرف الإنسان وجه صداقته كان له أن يحترس منه، ويكون هذا موضع الأشعار التي تنصح بالاحتراس مع الأصدقاء.
    أما من انعقدت بينك وبينه صداقة الفضيلة، وكنت على يقين من أن هذا وجه صداقتكما - فلا موضع للاحتراس منه.
    فإن اجتهدت أيها الألمعي رَأْيَك في صداقة شخص، وبدا لك أنها صداقة فضيلة، ثم رأيت منه ما لم تكن تحتسب - فلا يَحْمِلْك هذا الخطأُ في الاجتهاد على الاحتراس من كل صداقة؛ فإن ما وقع إنما هو أمر نادر، والأمور النادرة لا تتخذ مقياساً في معاملة الأصدقاء، ولا تستدعي أكثر من أن تستعيذ بالله من شرها، ثم تمضي مع أصدقائك الفضلاء في وداعه خلق، وسماحة نفس.
    هل الصداقة اختيارية؟
    إذا كانت الصداقة الشريفة ترجع إلى محبة الشخص لفضيلته، كانت غير اختيارية؛ لأنها ترتبط بسبب هو الفضيلة.
    وقد أشار بعض الأدباء إلى أنه لا منة له في الصداقة حتى يستحق عليها الحمد، فكتب إلى صديق له: (( إني صادفت منك جوهر نفسي، فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام؛ لأن النفس يتبع بعضها بعضاً ))
    والواقع أن الاختيار يرجع إلى فتح الصدر لها، وربط القلب عليها، والسير في الأقوال والأفعال على مقتضى عاطفتها؛ فإذا حمدت الرجل على صداقته فإنما تحمده على أنْ أَقرَّها في صدره مغتبطاً بها، ثم جرى على ما تستدعيه من نحو المواصلة والمؤانسة.
    دعوى أن الصداقة الخالصة مفقودة:
    يزعم بعض الأدباء أن الصداقة الخالصة من كل شائبة مفقودة، ومن هؤلاء من ينفيها من الدنيا بإطلاق كما قال أبو الجوائز الحسن ابن علي:
    دعِ الناسَ طرَّاً واصرف الودَّ iiعنهمُ * إذا كـنت فـي أخـلاقهم لا iiتسامح
    ولا تـبغ مـن دهـرٍ تظاهرَ iiرَنْقُهُ * صـفاء بـنيه والـطباع جـوامح
    وشيئان معدومان في الأرض: درهمٌ * حـلالٌ، وخـلٌّ في الحقيقة iiناصح
    وقال آخر:
    زمانٌ كلُّ حبٍّ فيه iiخِبٌ * وطعم الخِلِّ خَلٌّ لو يذاق
    له سوق بضاعته iiنِفَاق * فـنافِقْ فالنِّفَاقُ له iiنَفَاق
    منهم من يشكو أهل زمانه، ويخبر بأنه لم يجد من بينهم من يصطفيه للصداقة، كما قال بعضهم:
    خَـبَرْتُ بـني الأيـام طُرَّاً فلم أجد * صـديقاً صدوقاً مسعداً في النوائب
    وأصـفيتهم مـني الـودادَ فـقابلوا * صـفاءَ ودادي بـالنَّوى iiوالشوائب
    وما اخترت منهم صاحباً وارتضيته * فـأحمدته فـي فـعله iiوالـعواقب
    وكما قال الطُّغرائي:
    فلا صديق إليه مشتكى حزني * ولا أنـيس إليه منتهى iiجذلي
    والحق أن صاحب الفضيلة لا يعدم الصديق الفاضل، وتُحْمَل هذه الأشعار وأمثالها على أن أصحابها قد نظموها في أحوال خاصة، كأن يروا من بعض من كانوا يعدونهم أصدقاء أموراً يكرهونها، أو يروا منهم سكوناً حيث يجب عليهم أن يتحركوا لإسعادهم.
    الصديق المخلص عزيز:
    إن كان أصدقاء المنفعة كثيراً فإن الذي يحبك لفضلك، وتحبه لفضله حباً يبقى ما بقيت الفضيلة - عزيزُ المنال.
    قال يونس: اثنان ما في الأرض أقل منهما ولا يزدادان إلا قلة: درهم يوضع في حق، وأخ يُسْكن إليه في الله.
    وهذا الصديق هو الذي حثك الشاعر على التمسك به فقال:
    وإذا صفا لك من زمانك واحدٌ * فاشددْ عليه وعِشْ بذاك iiالواحدِ
    وكلما قضى الإنسان مرحلة من عمره في الاعتبار والتجارب ازداد علماً بأن أصدقاء الفضيلة لا تسمح بهم الأيام إلا قليلاً.
    وإذا بدا لك أن أصدقاءك في وقت الشباب أكثر من أصدقاءك وأنت شيخ - فإن الشاب مقبل على الحياة في شيء كبير من النشاط والارتياح؛ فيكون أسرع إلى اتخاذ الأصدقاء من الشيخ الذي ترك طولُ السنين في عظامه فتوراً، وأبقت الحوادث في صدره ضيقاً.
    وإن شئت فقل: إن الشباب لم يزل على الفطرة، فيقيم صداقته على الظواهر، ولا يبالغ في نقد الناس مبالغة الشيخ الذي يحمله طول التجارب على أن يتريث في اختيار الأصدقاء.
    ويضاف إلى هذا أن الشيخ لا يبلغ السن الذي يبلغه حتى يأخذ الموت من أصدقائه فوجاً أو أفواجاً.
    وفَقْد الأصدقاء يترك في نفس الرجل وحشة، وربما وقع في ظنه، وجرى على لسانه استبعاد أن يجد بعد أولئك الأصدقاء من يماثلهم في إخلاص المودة والوفاء بالعهد.
    الإغماض عن عثرات الأصدقاء:
    يرى الباحثون في طبائع البشر أن ليس فيهم من يتخذ صديقاً، ويُرْجَى منه أن يسير على ما يُرْضِي صديقه في كل حال، ودَلَّتْهُمُ التجارِبُ على أنَّ الصديق - وإن بلغت صداقته المنتهى - قد يظْهر لك من أمره ما لا يلائم صلة الصداقة؛ فلو أخذت تهجر من إخوانك كلَّ مَنْ صدرت منه هفوةٌ لم تلبث أن تفقدهم جميعاً، ولا يبقى لك على ظهر الأرض صديق غير نفسك التي بين جنبيك.
    عرَّف هذا المعنى الشاعر الذي يقول:
    ولـست بمستبق أخاً لا iiتُلِمُّه * على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذبُ
    والذي يقول:
    أُغْمِّض للصديق عن المساوي * مـخافة أن أعيش بلا iiصديق
    والذي يقول:
    ومـن يـتتبعْ جـاهداً كل iiعثرة * يجدْها ولا يَسْلمْ له الدهرَ صاحبُ
    وقد عبر عن هذا المعنى بشار بن برد إذ قال:
    إذا كـنت فـي كل الأمور iiمعاتبا * صـديقك لـم تلق الذي لا iiتعاتبه
    فـعش واحـداً أَوْصِلْ أخاك iiفإنه * مُـقَارِفُ ذنـبٍ مـرة iiومُـجَانبه
    إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى * ظمئت وأيُّ الناسِ تصفو iiمشاربه
    وإذا كان الصفح عن الزلات من أفضل خصال الحمد - فأحق الناس بأن تتغاضى عن هفواتهم رجالٌ عرفت منهم المودة، ولم يقم لديك شاهد على أنهم صرفوا قلوبهم عنها.



    معاملة الأصدقاء بالمثل:
    يذهب بعض الناس إلى أن يسيروا مع الأصدقاء على مثل سيرتهم معهم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وأشار إلى هذا المذهب أبو القاسم الحريري في مقاماته بمثل قوله : ((بل نتوازن بالمقال وزن المثقال، ونتحاذى في الفعال حذو النعال)).
    والقول الفصل في هذا أنَّ ما يصدر من الصديق إن كان من قبيل العثرة التي تقع في حال غفلة، أو خطأ في اجتهاد الرأي - فذلك موضع الصفح والتجاوز، ولا ينبغي أن يكون له في نقض الصداقة أثر كثير أو قليل.
    أما إن كان عن زهد في الصحبة، وانصرافٍ عن الصداقة، فلك أن تزهد في صحبته، وتقطع النظر عن صداقته.
    وهذا موضع الاستشهاد بمثل قول الكُميت:
    وما أنا بالنِّكس الدنيء ولا الذي * إذا صـدَّ عني ذو المودةِ iiيقرب
    ولكنه إن دام دمت وإن يكن iiله * مـذهب عـني فلي فيه iiمذهب
    ألا إن خير الودِّ ودٌّ تَطَوَّعت iiله * الـنفس لا ودٌّ أتى وهو iiمُتْعَب
    والفرق بين عثرة قد تصدر من ذي صداقة، وبين جفاء لا يكون إلا من زاهد في الصداقة - يَرْجـِعُ فيه الرجلُ إلى الدلائل التي لا يبقى معها ريب.
    والتفريط في جانب الصديق ليس بالأمر الذي يستهان به؛ فلا ينبغي الإقدام عليه دون أن تقوم على قصده لقطع المودة بَيِّنةٌ واضحةٌ.
    عتاب الأصدقاء:
    لا يخلو الرجل - وهو معرض للغفلة والضرورة والخطأ في الرأي - أن يُخِلَّ بشيء من واجبات الصداقة؛ فإن كنت على ثقة من صفاء مودة صديقك أقمت له من نفسك عذراً، وسرت في معاملته على أحسن ما تقتضيه الصداقة.
    فإن حام في قلبك شُبْهةٌ أن يكون هذا الإخلال ناشئاً عن التهاون بحق الصداقة - فهذا موضع العتاب؛ فالعتاب يستدعي جواباً، فإن اشتمل الجواب على عذر أو اعتراف بالتقصير، فاقبل العذر، وقابل التقصير بصفاء خاطر، وسماحة نفس.
    وعلى هذا الوجه يُحْمَل قول الشاعر:
    أعاتبُ ذا المودةِ من صديقٍ * إذا ما سامني منه iiاغتراب
    إذا ذهـب العتابُ فلا iiوداد * ويبقى الود ما بقي iiالعتاب
    ومما يدلك على أن صداقة صاحبك قد نبتت في صدر سليم أن يجد في نفسك ما يدعوه إلى عتابك، حتى إذا لقيته بقلبك النقي، وجبينك الطلق ذهب كلُّ ما في نفسه، ولم يجد للعتاب داعياً.
    قال أحد الأدباء:
    أزور مـحـمداً وإذا iiالـتـقينا * تـكلمت الضمائر في iiالصدور
    فـأرجع لـم أَلُـمْهُ ولـم iiيلمني * وقد رضي الضميرُ عن الضمير
    فإن أكثر صاحبك من الإجحاف بحق الصداقة، ولم تجد له في هذا الإجحاف الكثير عذراً يزيل من نفسك الارتياب في صدق مودته
    - فذلك موضع قول الشاعر:
    أَقْلِلْ عتابَ مَن اسْتَرَبْتَ بودِّه * لـيست تُـنَال مودةٌ بعتاب
    كتم السر عن الأصدقاء:
    من المعروف أن الإنسان لا يكتم عن أصدقائه سراً يخشى من إفشائه ضرراً، وقد يجد الرجل في نفسه شيئاً متى شعر بأن صديقه قد كتم عنه بعض ما يعلم من الشؤون.
    وأشار إلى هذا بعضهم فقال:
    والْخِلُّ كالماء يبدي لي ضمائره * مـع الصفاء ويخفيها مع iiالكدر
    ومن الأدباء من ذهب في النصح بكتم السر الذي يُخْشى من إذاعته ضررٌ إلى حدِّ أَنْ نَصَح بكتمه حتى عن الأصدقاء.
    ووجه هذا الرأي إنما هو الخوف من أن يكون لصديقك صديق لا يكتم عنه حديثاً، وإذا انتقل السر إلى صديق لم يؤمن عليه أن يصبح خبراً مذاعاً، قال محمد بن عبشون :
    إذا مـا كتمت السرَّ عمَّن أَوَدُّهُ * تـوهم أنَّ الـودَّ غـيرُ iiحقيقيْ
    ولم أُخْفِ عنه السرَّ مَنْ ظنَّةٍ به * ولكنني أخشى صديقَ iiصديقيْ
    والقول الفصل في هذا أن الأمر يرجع إلى قوة ثقتك بصديق الفضيلة، وذكائه، وفهمه قصدَك لأن يكون هذا السرُّ في صدره، لا يتجاوزه إلى غيره؛ فإن كان صديقك على هذا المثال فأطلعه على ما في نفسك؛ فإنما أنت وهو روح واحدة، ولكنها في بدنين، فإن كان مع صداقته الخالصة لا تأمن أن يجري على لسانه بعض ما أفضيت به إليه فذلك موضع قول الشاعر:
    * ولكنني أخشى صديق صديقي
    ومن الأذكياء من يحرص على كتم سرِّ صديقه، فلا يفضي به إلى صديق له آخر، ولا سيما صديقاً ليس بينه وبين الذي أودع عنده السر صلة صداقة، قال مسكين الدارمي:
    أواخي رجالاً لست مُطلعَ iiبَعْضِهم * على سرِّ بعضٍ غير أني iiجِماعُها
    يَـظلَّون شـتى في البلاد وسرُّهم * إلى صخرة أعيا الرجالَ انصداعُها
    أثر البعد في الصداقة:
    شأن الصداقة أن تنعقد بين شخصين يقيمان في موطن، وتبقى حافظة المظاهر ما دام الصديقان يتمتعان بأنس القرب والتزاور، فإن فرَّقت الأيام بين داريهما، وبدَّلَتْهما بالقرب بعداً، وبالأنس شوقاً بقيت الصداقة في قوتها، وإنما يكون للبعد أثر في مظاهرها.
    وذكر أرسطو أن الغَيْبَة الطويلة من شأنها أن تنسي الصداقة، وساق على هذا المثل الذي يقول: ((كثيراً ما أودى بالصداقة سكوت طويل)).
    ونحن نرى أن صداقة الفضيلة متى بلغت منتهاها لا تأخذ الغَيبة الطويلة شيئاً أكثر من مظاهرها.
    وربما عُقِدَت الصداقة بين شخصين لم يتجاورا ولم يلتقيا، وإنما عرف كلٌّ منهما فضل الآخر على بعد، ولم يكن بينهما اتصال إلا من طريق المراسلة:
    وإنـي امـرؤ أحببتكم iiلمكارم * سمعت بها والأذن كالعين تعشق
    • وكثيراً ما تأتي هذه الصداقة بثمار طيبة غزيرة، وإن كان مسلكها في الروح غير مسلك الصداقة الناشئة عن لقاء ومشاهدة.
    الصداقة صلة بين الشعوب:
    لا غنى للشعوب أن ترتبط بصلات تجعلها كأمة واحدة، تسير إلى غاية واحدة، وهذه الرابطة تتحقق بالصداقات التي تستوثق بين علمائها وزعمائها الناصحين.
    فالصداقة التي تنتظم بين طائفة من علماء الصين وطائفة من علماء المغرب الأقصى مثلاً - تجعل القطرين في اتحاد أدبي، وللاتحاد الأدبي غايات سامية لا يستهان بها.
    وإذا دلنا التاريخ أو المشاهدة على صداقة كانت بين علماء متباعدي الأقطار، ولم تعد على تلك الأقطار بفائدة - فإن هذا الزمن يدعونا إلى أن نعمل على تقوية روابط الصداقة بين علماء الشرق والغرب، ونوجه جانباً من هذه الصداقات إلى خدمة المصالح العامة، والتعاون على أسباب السعادة المشتركة في الحياة.

    منقول

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Apr 2007
    المشاركات
    749

    افتراضي رد: الصداقة

    موضوع متكامل الجوانب ليصل بنا الى الصداقة الحقيقية
    ولكن يبقى أن نتذكر (احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة)
    ولطالما عاش الإنسان حلم الصداقة واستيقظ على العداوة
    وهذا والله الجرح
    بورك فيك وفي نقلك الرائع أخي عبدالقادر وسلمت يمينك

  3. #3

    افتراضي رد: الصداقة

    بسم الله الرحمن الرحيم
    شكرا لك ... بارك الله فيك ...
    جميل جداً موضوع الصداقة وشكراً لكاتبه ويُذكرني بمعانة الشاعر الكويتي الذي اعجبت به الأخ حامد زيد وأهنئه عى صدق المشاعر والله يوفقه

  4. #4

    افتراضي رد: الصداقة

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    عفواً نسيت ان اذكر بان قصيدة الاخ الشاعر الكويتي هي ( الجمهرة )(ابتسامة)

  5. #5

    افتراضي رد: الصداقة

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    ممكن ان احصل نسخة من كتاب وعاظ السلاطين للكاتب العراقي المرحوم بإذن الله الدكتور علي الوردي أو اين يمكن ان اجد نسخة منه

  6. #6

    افتراضي رد: الصداقة

    بسم الله الرحمن الرحيم
    بوركتم على ماعرضتموه وستعرضوه باذن الله وهناك للشريف الرضي شعر في الصداقة
    هل الكفِ مض تركها بعد دائها وأن قُطِعت شانت ذراعاً ومِعصما
    وقالوا
    صديقي من يَرٌد الشر عني ويرمي بالعداوة من رماني
    وأقول
    سأُصادق النخل في بلادي لانه لا يمكن أن يخونني
    سأصادق المقابر في بلادي تحتوي قبراً قد يضمني
    صادقت كلباً ورعيته لانه يؤنسني ويحرسني

  7. #7

    افتراضي رد: الصداقة

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    عفواً نسيت ان اذكر بان قصيدة الاخ الشاعر الكويتي هي ( الجمهرة )(ابتسامة)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •