"المطلعُ الحسنُ فيمن قيل فيه "فقيهُ البدن".
الحمدُ لله رب العالمين ، والصلاة والسَّلام على رسوله محمدٍ الآمين ، وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدِّين ، أما بعدُ:
فلقد كنتُ أبحثُ في تراجم بعض أهل العلم منذ أيامٍ ، واستوقفني قولهم في بعضهم "فقيه البدن" ، فقلتُ في نفسي ، لو أحصيت من قيل فيه ذاك من العلماء الأجلاء ، والفقهاء النُّبهاء ، وذلك ؛ لكي يعلم المرء أنهم قلةٌ في النَّاس ، فقد يكونُ المرء فقهياً ، ولكنَّه لم يختلط بلحمه وعظمه ، حتي يصبح ويمسي وهو ذو ملكةٍ راسخة فيه ، لا يفارقه أبداً ، فهو ملازمٌ له ، كملازمة السمع والبصر لجسده .
كذا ليتأسي طالب العلم بهم ، ويحذو حذوهم ، ويترسم خطاهم ، ويقف آثارهم ، حتى يصل إلى ما وصلوا إليه ، في هذا الجانب على الخصوص ، وقد قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في "حلية طالب العلم" (ص: 179)
:" فيا أيها الطالب! تحل بالنظر والتفكر، والفقه والتفقه، لعلك أن تتجاوز من مرحلة الفقيه إلى فقيه النفس ، كما يقول الفقهاء، وهو الذي يعلق الأحكام بمداركها الشرعية، أو فقيه البدن كما في اصطلاح المحدثين " .
وينبغي أن يعلم المرءُ ؛ أن قولهم "فقيه البدن" ليس كقولهم "فقيه النفس" أو "القلب" ، فالأولى : يطلقها المحدثون غالباً . والثانيةُ : يُطلقها الأصوليون وعلماء الرقائق والزهد ، ويقصدونُ بالأولى : العالم الذي سار الفقه لديه سجيةً وطبعاً ، ويقصدونُ بالثانية : العالمُ الرباني الذي يستطيع أن يأخذ بمجامع القلوب إلى ربِّ العالمين.
فالأول عالماً بالأحكام الشرعية ، متمكناً غاية التمكن فيها ، فلا يسقطُ حكماً شرعياً فحسب ؛ بل يشخِّصُ حالة المستفتي ويقرأُ ما في عينية ، ثم يفتيه بما يصلحُ حاله ، وبما يناسبُ مقامه .
والثاني : هو العالمُ بما يصلحُ القلوب وبما يفسدها ، وبما يُصلحُ النفوس فيطببها ، أو يُدنسها فيعكرها، فهو كالأول في التمكن والخبرة ، والبراعة في فهم الحالة ، وأعطائها ما يناسبها ويُصلحها .
وقال محمد عوامة _حفظه الله_في مقدمة تحقيقه لــــكتاب "الكاشف" (1/43) للذهبي :" هذه الكلمة " فقيه البدن " في كتب "الجرح والتعديل"، وكنت سألت عنها - مكاتبة - شيخنا العلامة الحافظ عبد الله الغماري ، فكتب إلي _حفظه الله بخير وعافية_: " كلمة " فقيه البدن " يقولها المحدثون، ويقول الأصوليون: " فقيه النفس "، ومعناها: أن الشخص تمكن في الفقه حتى اختلط بلحمه ودمه ، وصار سجية فيه ، ومراد المحدثين بها : ترجيح الراوي الموصوف بها ، ولو كان أقل من الثقة ، بحيث لو تعارضت رواية الصدوق الفقيه البدن ، مع رواية الثقة غير المتقن ؛ قدمت رواية الصدوق المذكور ".
هكذا قال الغماري!! ولا أدري ! من أين أتى بهذا الفهم _أعني : تقديم رواية من قيل فيه ذلك ، ولو كان أقل رتبة من غيره في الحفظ والضبط والإتقان_ ، وبعد البحث الطويل ، لم أقف على ما سبقه إلى ذلك قديماً أو حديثاً .
أمَّا تسويته بين قولهم "فقيه البدن" و"فقيه النفس" ؛ فقد خالفه في ذلك الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي في كتاب"المذهب الحنبلي " (1/ 189)، فقال :" وقوله (فقيه البدن) اصطلاح كان شائعاً آنذاك يستعمل في معنى الفقه بمعناه المعهود عندنا ، ففقيه البدن هو العالم بأحكام البدن , ليقع ذلك في مقابل فقيه القلب و فقيه النفس:
فالأول : من يتمتع بجودة القريحة وشدة الفهم والغوص على المعاني سواء في فقه الأحكام أم في غيرها.
والثاني : من يتقن دقائق علم السلوك والتزكية.
هكذا فرَّق بينهم الدكتور عبدالله ، وسنعلم بعدُ ما نتهي من هذا البحث_إن شاء الله تعالى_ ، وبعد أن نلحق به قولهم "فقيه النفس" ؛ أي القولين أولى بالصواب . والله المستعان.
والآن ؛ سأشرعُ في أسمآءهم ، مرتباً إيَّاهم على حروف المعجم :
1-أحمد بن سعيد الدَّارمي :
أخرج الخطيب في "تاريخه" (5/272) من طريق جعفر بْن مُحَمَّد الترك ، قَالَ: سَمِعْتُ أَحْمَد بْن سَعِيد الدارمي ، يَقُولُ: " بكرت يوماً على أَبِي عَبْد اللَّه أَحْمَد بْن حنبل ، فَقَالَ لي ابنه صالح : أجروا ذكرك، فَقَالَ أَبِي: ما قدم على خراساني ، أفقه بدناً منه ".
2- أحمد بن عبد الله السَّاوي العطَّار.
قال مسلمة: ثقة فقيه البدن " ."الثقات ممن لم يقع في الكتب الستة" (1/ 386) للذهبي .
3- أحمد بن محمد بن سلامة الطَّحاوي الحنفي الإمام، أبو جعفر الأَزْدي المصري.
وقال مسلمة في كتاب "الصلة": كان ثقة جليل القدر، فقيه البدن، عالماً باختلاف العلماء ، بصيراً بالتصنيف ".
"المصدر السالف" (2/ 414) .
4- إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن دِرْهَم.
"وقال مسلمة: بغدادي ثقة ، عظيم القدر، فقيه البدن ، عالم بالتصنيف ".
"المصدر السالف" (2/ 360) .
5- إسماعيل بن يحيى بن كَيْسَان الرازي، رفيق أبي مسعود بن الفُرَات.
وقال مسلمة: مصري ثقة فقيه البدن " . "المصدر السالف" (2/414) .
6-أصبغُ بن الفرج :
قال القاضي عياض : "قال ابن أبي دليم: كان فقيه البدن_أي :أصبغ بن الفرج_ . قال ابن حارث: كان ماهراً في فقهه، وفقيه البدن ، طويل اللسان ، حسن القياس ". "ترتيب المدارك " (4/ 17) للقاضي عياض .
7-النعمانُ بن ثابت(أبو حنيفة) :
ساق ابن أبي العوام بسنده عن حسين بن علي الجعفي قال: سمعت زائدة بن قدامة يقول: النعمان بن ثابت ؛ فقيه البدن، لم يعد ما أدرك عليه أهل الكوفة " .فضائل أبي حنيفة وأخباره" (ص:81 ،149) لابن العوام .
8-إياس بن معاوية :
قال الحاحظ"وجملة القول في إياس_أي : بن معاوية_ أنه كان من مفاخر مضر، ومن مقدمي القضاة، وكان فقيه البدن ". البيان والتبيين (1/ 101) للجاحظ.
9-حماس بن مروان بن سماك الهمداني كنيته أبو القاسم القاضي :
قال ابن فرحون "... وكان صالحاً ثقةً مأموناً ، ورعاً عدلاً في حكمه فقيه البدن ، بارعاً في الفقه أكبر شأنه. "الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب" (1/ 342) لابن فرحون .
يتبعُ _إن شاء الله_