5 - الصبر والأناة:
المخطوطات بما رافقها من ظروف سيئة في الغالب، وبطول الزمن الذي يغير الأحوال ويفعل فعله في الحجر الصلد، وببعد العهد الذي تغمض معه الواضحات، وتنبهم السبل . .
والمحقق إنما هو مجدد لشباب الكتاب وراجع به إلى ما كان عليه كما أخرجه مؤلفه أو قريب منه . .
هذه الأمور - وغيرها - تقتضي من المحقق الصبر والجلد في معالجة مخطوطة أحال خطها القدم، وتنقص من حبرها وورقها بعد العهد واعتورها من عوامل الطبيعة وفعل الإنسان - مالكا ووارثا وقارئا - ما غير صورتها وأبهم واضحها.
فعلى المحقق أن يكون على ذكر من أن الحبر كثيرا ما ينصل، وأن الأيدي التي ملكت المخطوطة كثيرا ما تتدخل فيما يظنه فاعله إصلاحا وهو عين الافساد، وأن الجلد ربما تهرأ فجدده مجلد غير عارف بالكتاب فغير من ترتيب أوراقه - خصوصا
والكثير من المخطوطات خال من أرقام الصفحات معتمد نظام التعليقة الذي كثيرا ما يوهم ، وبعضها خال حتى من هذا النظام - وأن . . وأن . . مضافا إلى ولع العثة بالكتب، وفعل الرطوبة والجو فيها.
فما يسع المحقق - والحالة هذه - إلا أن يعتد بالصبر في مواجهة هذه المشكلات، ليخرج منها سالما من تطرق الأوهام . . إلا أوهاما هي من طبيعة الإنسان.
إما إن ضجر المحقق فقد فقد أقوى جننه . . ولا يأمل أن يخرج كتابا أحسن من نسخة مخطوطة كغيرها من المخطوطات.
ولا يخفى أن من ملازمات الصبر الأناة، لأن العجلة مظنة السهو والوهم، وليجرب المحقق نسخ المخطوط الذي يبغي تحقيقه - والنسخ مرحلة يسرع فيها المحقق بطبعه لأن التدقيق والتنقير سيأتي بعدها - ولينظر في مرحلة المقابلة - التي تأتي بعد النسخ - ليرى كم سقط من قلمه من كلمات وكم زاد من عنده !
ولئن تسومح بالسرعة في مرحلة النسخ، فلا يمكن أن يتسامح بها في مرحلة الضبط . .
وما يضير المحقق أن يصرف من وقته ساعات - بل أياما - منقبا في بطون الكتب مراجعا للعارفين بالفن . . لضبط مشكل أو تصحيح تصحيف أو إيضاح غامض.
وما أشبه عمل المحقق المتأني باللؤلؤة الطبيعية في جوف المحارة تستوي كما أراد لها الله تعالى، ثم تكون زينة تزري بالألوف من لؤلؤ الصناعة السريع إنتاجه.
6 - الأمانة:
يعتز الكاتب بكتابه اعتزازا بالغا قد يوازي اعتزازه بولده أو يزيد، لأن ولد امتداد له إلى عدة عقود من الزمان بينما كتابه امتداد خالد له (ونعني بالخلود هنا مفهومه الأرضي أي البقاء الطويل ) والإنسان بطبعه مفطور على حب البقاء ، وما أهرام مصر . . وما تحنيط جثة لنين الملحد إلا شاهد صدق على هذا.
فالمؤلف عندما ينهي كتابه ويضع فيه أعز ما عند الإنسان - فكره - إنما يتركه أمانة في أعناق الأجيال، وهو لا يرضى بتغييره أو تحويره، وقد نبه بعضهم في أواخر كتبهم على هذا ولعنوا من بدل أو غير في مؤلفاتهم.
وما أسوأ ما صنع ناسخ لكتاب مسند، حذف أسانيده، ولو وصلنا مسندا لاختلف شأنه في العلم والفكر.
فجنى ناسخه جناية علمية كبرى في إغفاله الأمانة عند نسخه إياه، وأفقد الأمة الإسلامية بهذا الاغفال درة يتيمة من درر تراثها.
والمحقق مكلف بهذه الأمانة ، واجب عليه رعايتها، محرم عليه خيانتها، فإن قام بواجبه فبها ونعمت . . وإن خان فإن حساب الله شديد .
وإذن فليس للمحقق أن يبدل أو ينقص أو يزيد في الكتاب الذي يحققه، فإن أوجب البحث أن يفعل شيئا من هذا فعليه أن يشير إلى ما أصلح أو زاد أو نقص، بحيث يتميز عمله وعمل صاحب الأصل.
لكنا - مع شديد الأسف - نجد في كثير من المطبوعات التي كتب عليها أنها من تحقيق فلان . . زيادة ونقصا وتبديلا وتغييرا عما رسمه المؤلف لغايات أقل ما يقال فيها إنها خيانة علمية.
ثم ليعلم المحقق أن باب العصبية المذهبية والتحزب الأعمى أوسع الأبواب التي يؤتى منها المحقق، ومثله باب الجهل وعدم الدليل . . وإلا فما على المحقق إن كان نص المؤلف لا يوافق هواه أن يثبته في مكانه ثم يعلق عليه في الهامش.
وقد رأينا من المطبوعات المحرقة كثيرا من هذا النوع مما يفقد القارئ الثقة بها وبالقائمين عليها، ويجعله يفضل الطبعات الحجرية بل النسخ المخطوطة على كثير من المطبوعات المحققة الأنيقة!
ولا يظنن متصد لتراثنا أن القراء بتلك المنزلة من الجهل، فقد رأيت أشخاصا لا يحملون شهادة قديمة ولا حديثه، بل يعدون في عداد العامة زيا ومعيشة، لكنهم - يشهد الله - على درجة من الفهم والتتبع والإحاطة دونها كثيرون من حملة أرقى الشهادات الجامعية.
وأمة بني دينها على العلم لا يتوهمن أحد أن تخلو من العلماء.
نعم . . يستثنى من ذلك الخطأ الواضح المقطوع به، أو الزيادة الموضحة لمراد المؤلف . . فليس على المحقق حرج أن يصلح هذا الخطأ أو يزيد هذه الكلمة، بشرط تمييزها عن عمل المؤلف، وبشرط إحراز رضا المؤلف، وهذا الاحراز له دلائل تدل عليه، ولأ ذكر مثالا على ذلك:
لو أن محققا اشتغل في كتاب مؤلفه نحوي معروف ورأى فيه خطأ من الأخطاء النحوية المقطوع بخطئها، والتي من مذهب المؤلف تخطئتها، ولم يأت به المؤلف هنا للاستشهاد على مذهب يخالفه . . فإننا هنا نقطع بأن هذا الخطأ طارئ على النسخة وأن المؤلف يرضى بإصلاحه.
7 - الذوق الجميل:
الحياة الجافة مملة مصروفة عنها الأنظار، والحياة العلمية مع ما فيها من لذات عقلية ومتع روحية، قد يعرض لها ما يسمها بسمة الجفاف . . لذلك نرى أسلوب التدريس يختلف من أستاذ إلى آخر، فهذا أستاذ يتشوق الطلبة لحضور درسه ويأسون لفوات محاضرة من محاضراته . . وما هذا إلا لذوق منه جميل يصب به الدرس في قالب من الإلقاء والتفهيم مشوق.
والكتاب الفلاني غرة في كتب التفسير - مثلا - لكن إخراجه الطباعي وتوزيع فقراته صارف للقارئ عن اجتناء يانع ثمراته، واجتلاء عرائس أفكاره.
والكتاب الاسلامي التراثي لم يخرج إلى الناس - في الأعم الأغلب - بالصورة التي تجذب القارئ وتستهوي المطالع، إلا أفرادا قد لا تتجاوز عدد الأصابع . . ومر بنظرك على المتون العظيمة والشروح الجليلة؛ فلم تجد إلا شاكيا يتلو
شاكيا من الإهمال وقلة العناية . . بل عدمها.
والمحقق الذواقة يستطيع أن يخرج لنا من هذه الدرر الغوالي غررا في جبين الدهر ، وينبوعا رقراقا فيه الري والرواء .
والذوق الجميل هو الذي يفعل بهذه الكتب فعل الجوهري الصناع الذي يجعل من حجر كريم - وهو كبقية الأحجار في شكله - زينة لا تقدر بثمن.
فتوزيع فقرات الكتاب، وتفصيل أبوابه، وترقيم أحاديثه، وشرح غامضه، وتنظيم إحالاته، والإبداع في تنويع فهارسه، التي تجعل مطالب الكتاب من القارئ على طرف الثمام، ثم اختيار الحرف الطباعي الجميل والورق المناسب.
هذه الأمور - مجتمعة - تجعل الكتاب يضئ بعضه بعضا .
8 - الالتزام:
الدين الاسلامي دين النظام ، فالشرع الشريف نظم حياة المسلم تنظيما دقيقا في جميع مناحيها . . ولا يكاد يمر بالمسلم أمر من الأمور إلا وقد حسب له الشرع الشريف حسابه ووضعه في نصابه.
ومسألة العلم التي أولاها الإسلام مكانة سامية، وكثر الحث على طلب العلم وحفظه ونشره في القرآن الكريم والسنة الشريفة مما تغنينا شهرته عن ذكره.
لكن مسألة قد تكون خافية أو قريبة من الخفاء هي مسألة كتب الهدى وكتب الضلال التي ذكرتها الرسائل العملية ورتبت لها أحكاما تمس موضوعنا ولها به تعلق قوي.
فصيانة عقل الإنسان وفكره وحفظهما مما يدنسهما فرض في الدين لازم . . من أجله حرمت الخمرة وأشباهها.
وقد رسخ هذا المفهوم - مفهوم الالتزام العلمي والثقافي - في وجدان المسلم، فلا تكاد تجد مخطوطة إلا وقد ختمها مؤلفها بطلب الدعاء من القراء، واعتدادها مما يدخره ليوم القيامة . . وكثيرا ما ختم النساخ كتاباتهم بطلب الدعاء من القارئ أو
بطلب إصلاح الخلل أو عد النسخ من الأعمال التي يحاسب عليها الإنسان.
هذا ابن البواب الكاتب ( - 423 ه* ) الخطاط المعروف ، يقول في رائيته في علم الخط [1]:
وارغب بنفسك أن يخط بنانها ... خبرًا تخلفه بدار غرور
فجميع فعل المرء يلقاه غدا ... عند التقاء كتابه المنشور
وهذا البيت السائر الدائر في خواتيم المخطوطات:
ولا تكتب بخطك غير شيئ ... يسرك في القيامة أن تراه
إلى الكثر الكثير مما حفلت به أوائل المخطوطات وخواتيمها.
وقد شاع هذا المفهوم حتى أصبحت نسبة هذه الأشعار مجهولة . . لأنها صارت شعار أمة.
فالمسلم الملتزم الذي يرى نفسه محاسبا على أعماله، لا يتحف أمته إلا بما يثقل ميزان حسناته غدا، مما ينفع الناس من الكتب القيمة.
وكان المستشرقون من أضر الأعداء بما نشروه من تراثنا المحسوب علينا وما قعدوه من قواعد لدراسته، فتراهم يغرقون الدنيا بطبعات رباعيات الخيام المشككة، وهي طبعات مصورة أنيقة لكنها السم في الدسم . . وبطبعات ألف ليلة وليلة ذات الصور الماجنة التي خطتها يراعات مصوريهم فأبرزت تحللهم وأطّرته بإطار شرقي!
وفي جانب الفكر شغلوا الناس بابن الريوندي الملحد وأمثاله، وربوا خادما وناشرا لهذا الملحد رجلا ينتسب إلى أسرة علمية دينية، نشأ في مدرسة إسلامية أوصلته إلى مقاعد جامعة كمبردج في إنكلترة . . وعاد إلينا جاحدا لأسرته منكرا
لجميل المدرسة العلمية الإسلامية التي هيأت له أسباب الدراسة وأوصلته إلى نيل شهادة الدكتوراه !
فعلى المحقق المسلم أن لا يكون ملقط جمر . . يلقط من نار أعداء الأمة ويرميه في عقول أبنائها، وفي تراثنا الكثير الطيب الذي أجره مضمون لناشره، وهو مفيد في رفعة الأمة وعلو شأنها.
ويمكن أن نأخذ من غيرنا خير ما عندهم مما يتفق مع قواعدنا وظروفنا . .
فنحن أمة لها أصالتها ولم تعش يوما على فتات موائد غيرها . . إلا حين تسلم القوس غير باريها وصيرا الأمة حقل تجارب لأفكار الغربيين والشرقيين التي هي "كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ".
ولكن . . "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" . . فـ "لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ".
وللبحث صلة بإذن الله،،
__________
[1] انظر الكنى والألقاب 1 / 224