مفهوم النور المحمدي في الفكر الصوفي:
مفهوم النور عند ابن عربي (ص 1081-1087 من المعجم الصوفي): تقول سعاد الحكيم، أن "النور" من أسماء الله تعالى، يجعله ابن عربي في رؤيته:
1 – مبدأ الخلق، أو مبدأ ظهور التعينات.
2 – مبدأ الإدراك أو العقل الساري في الوجود.
وتستنتج الكاتبة: وعلى هذا يكون الاسم "النور" المنبسط على جميع الموجودات، أصل نور الوجود ونور الشهود. يقول ابن عربي:
1 – "النور" = مبدأ الخلق والظهور = نور الوجود
"... والله تعالى أخرجنا من ظلمة العدم، إلى نور الوجود، فكنا نورا، بإذن ربنا، إلى صراط العزيز الحميد، فنقلنا من النور، إلى ظلمة الحيرة..." (الفتوحات 3/412).
"... ولولا النور ما ظهر للممكنات عين، قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في دعائه: اللهم اجعل في سمعي نورا، وفي بصري نورا، وفي شعري نورا، حتى قال: واجعلني نورا، وهو كذلك (أي = نور). وإنما طلب مشاهدة ذلك (كونه نوراً) في الحس" (الفتوحات 3/292).
"... فإذا عمد الإنسان إلى مرآة قلبه وجلاها بالذكر تلاوة للقرآن، فحصل له من ذلك نور، والله نور منبسط على جميع الموجودات يسمى: نور الوجود..." (الفتوحات 2/241).
2 – "النور" مبدأ الإدراك = نور الشهود، نور الإيمان
"ولكن باسم "النور" وقع الإدراك، وامتد هذا الظل على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهول..." (فصوص 1/102).
"... من عرف نفسه عرف ربه، فيعلم أنه الحق. فيخرج العارف المؤمن الحق بولايته، التي أعطاه الله، من ظلمة الغيب، إلى نور الشهود. فيشهد ما كان غيباً له، فيعطيه كونه مشهوداً..." (الفتوحات 4/147).
"فلما رأى الرسل ذلك، وأنه لا يؤمن إلا من أنار الله قلبه بنور الإيمان: ومتى لم ينظر الشخص بذلك النور، المسمى إيماناً، فلا ينفع في حقه الأمر المعجز..." (فصوص 1/120).
وتضيف الكاتبة : حيث أن ابن عربي يجعل الاسم "النور" مبدأ الوجود والإدراك، لذلك كل وجود أو خير فهو: نور، لأصله الإلهي في مقابل العدم والشر (ظلمة - أصل كوني). يقول:
"فالوجود: نور، والعدم: ظلمة، فالشر: عدم، ونحن في الوجود: فنحن في الخير، وإن مرضنا فإنا نصح، فإن الأصل جابر، وهو: النور. وهكذا صفة كل نور، إنما جاء ليظهر ما طلع عليه، فلا تدركه الأشياء إلا بك (= الممكن = ظل وليس ظلمة)" (الفتوحات 2/486).
"ما ترى جسماً قط خلقه الله، وبقي على أصل خلقته: مستقيماً قط. ما يكون أبداً إلا مائلاً للاستدارة، لا من جماد، ولا من نبات، ولا من حيوان، ولا سماء، ولا أرض، ولا جبل، ولا ورق، ولا حجر، وسبب ذلك: ميله إلى أصله، وهو النور..." (الفتوحات 2/647).
"والروح: نور، والطبيعة: ظلمة" (الفتوحات 2/250).
"... وما الظلمة والنور اللذان عنهما الظل والضياء ؟ قلنا: النور كل وارد إلهي (= نور) ينفر الكون (= ظلمة) عن ظلمة..." (الفتوحات 2/130).
وتسترسل الكاتبة في النقل عن ابن عربي قائلة : الإنسان في فكر ابن عربي تمتع بمكانة خاصة، فهو صورة للحضرتين: الإلهية والكونية، لذلك جمع في ذاته صفة الحضرتين فهو: نور وظلمة، أو هو: النور الممتزج.
"... فأفاده التجلي علماً، بما رآه، لا علماً بأنه هو الذي أعطاه الوجود. فلما انصبغ بالنور، التفت إلى اليسار. فرأى العدم، فتحققه، فإذا هو ينبعث منه، كالظل المنبعث من الشخص، إذا قابله النور. فقال : ما هذا ؟ فقال له النور من الجانب الأيمن : هذا هو أنت، فلو كنت أنت النور، لما ظهر للظل عين. فأنا النور، وأنا مُذهبه، ونورك الذي أنت عليه، إنما هو من حيث ما يواجهني من ذاتك، ذلك لتعلم أنك لست أنا. فأنا: النور بلا ظل، وأنت النور الممتزج لإمكانك. فإن نُسِبْتَ إليَّ، قبلتك. وإن نسبت إلى العدم، قَبِلَكَ، فأنت بين الوجود والعدم..." (الفتوحات 2/304).
وتضيف الكاتبة موضحة فكر ابن عربي قائلة: استفاد ابن عربي من اسم "النور" وأهميته صورتان تخدمان فكرته في الوجود الواحد. فالوجود الحقيقي واحد يتكثر في صور الممكنات كما أن: النور واحد يتكثر في الظلال، والنور لا لون له يتكثر بالزجاج الملون. يقول:
1 – صورة النور والظلال.
"... فما اندرج نور في نور، وإنما هو نور واحد، في عين صورة خلق. فانظر ما أعجب هذا الاسم (النور). فالخلق ظلمة، ولا يقف للنور، فإنه ينفرها، والظلمة لا ترى النور، وما ثم نور، إلا نور الحق..." (الفتوحات 4/29).
"وكذلك أعيان الممكنات، ليست نيرة، لأنها معدومة، وإن اتصفت بالثبوت (= ظل)، لكن لم تتصف بالوجود، إذ الوجود نور... فإن الظلال لا يكون لها عين بعدم النور" (فصوص 1/102-103).
2 – صورة النور والزجاج
"فالحق بالنسبة إلى ظل خاص صغير أو كبير، وصاف وأصفى، كالنور بالنسبة إلى حجابه عن الناظر في الزجاج، يتلون بتلونه، وفي نفس الأمر لا لون له" (فصوص 1/102).
تقول الكاتبة: يستعمل ابن عربي لفظ "نور" يجمعها "أنوار" في سياق مَعْرفي انسجاما مع اعتباره الاسم "النور": مبدأ الادراك، فتكون "الأنوار" هنا بمعنى: "الحقائق". يقول:
"اعلم أن التجلي عند القوم: ما ينكشف للقلوب، من أنوار الغيوب. وهو على مقامات مختلفة، فمنها: ما يتعلق بأنوار المعاني المجردة عن المواد، من المعارف والأسرار. ومنها: ما يتعلق بأنوار الأنوار. ومنها: ما يتعلق بأنوار الأرواح، وهم الملائكة. ومنها ما يتعلق بأنوار الرياح، ومنها: ما يتعلق بأنوار الطبيعة، ومنها: ما يتعلق بأنوار الأسماء، ومنها: ما يتعلق بأنوار المولدات، والأمهات، والعلل، والأسباب على مراتبها، فكل نور من هذه الأنوار، إذا طلع من أفق، ووافق عين البصيرة، سالماً من العمى، والغش، والصدع، والرمد، وآفات الأعين، كشف بكل نور، ما انبسط عليه..." (الفتوحات 2/485).
تضيف الكاتبة: "النور" مبدأ الخلق والإدراك، هو في الأمر نفسه: يغني، ولا إدراك فيه، بل يدرك الإنسان في الضياء.
1 – النور مبدأ الخلق: يُغْني:
وإذا بدت سبحات الوجه فاستتر *** فالنور يذهب بالأعيان والأثر
وانظر إلى مَنْ وراء النور مستترا *** ترى الضيا فامعن فيه بالبصر
وقل لقلبك أمسك عنه شاهده *** فعند ردك تلقى لذة النظر
(الديوان 42)
2 – النور مبدأ الإدراك: لا ترى فيه غيره.
"فقال (الحق) لي (العبد): رأيت ما أشد ظلام هذا النور، اخرج يدك فلن تراها، فأخرجت يدي فما رأيتها. فقال لي: هذا نوري لا ترى فيه غير نفسه" (مشاهد الأسرار ق 29).
وتضيف الكاتبة بقولها: عودنا الشيخ الأكبر، لغة تجربة صوفية تقرب من حدود النظريات، لذلك عندما يكشف لنا عن وجه تجربته الصوفية الخاصة نتلمس فيه نبضاً، سبق أن أحسسناه عند النفري، وابن الفارض... لغة وجدان من داخل التجربة، حيث لا نرى إلا عابداً ومعبوداً، عاشقاً ومعشوقاً. ولا وجود للقارئ، وهو الذي لا يغيب تقريباً في كتب الشيخ الأكبر. والنص الذي سنورده فيما يلي يجمع: لغة النفري في "مواقفه" من ناحية. وتدرج الكلام وصولا إلى لسان الحقيقة المحمدية الذي نجده في "تائية" ابن الفارض من ناحية ثانية. المخاطب في هذا النص يتلون متدرجاً مع خطاب الحق. يتكشف بعد كل مقطع خطاب، وجه له (للمخاطب - العارف) ونسبة. فكأن خطاب الحق هو لوجوه ونسب هذا العبد العارف، الذي نلاحظ من حركة التدرج الصاعدة الجامعة أنه: محمدي المقام وهذا يذكرنا بابن الفارض في تائيته حيث يتكلم أحياناً بلسان الحضرة المحمدية. ونستدل (تقول الكاتبة) على تلون المخاطب من قوله في بدء النص: "الآن أنت أنت". ولم ننقل النص (على حد قول الكاتبة)، إلا لإبراز عميق تجربة الشيخ الأكبر الصوفية، وامتلاكه اللغة امتلاكاً استطاع معه أن يعبر بمفردي: النور والظلمة، عن "المقام المحمدي" الجامع للمقامات (= الملاحظ أنها تبدأ عند كل "ثم" من النص). يقول:
"... ثم قال لي: الآن أنتَ، أنتَ، ثم قال لي: تَرى ما أحسن هذه الظلمة. وما أشد ضؤها، وما أسطع نورها. هذه الظلمة مطلع الأنوار، ومنبع عيون الأسرار، وعنصر المواد. من هذه الظلمة أوجدك وإليها أردك ولست أخرجك منها. ثم فتح لي قدر سُم الخياط فخرجت عليه فرأيت بهاء ونورا ساطعاً، فقال لي: رأيت ما أشد ظلام هذا النور أخرج يدك فلن تراها فأخرجت يدي فما رأيتها، فقال لي: هذا نوري لا ترى فيه غير نفسه. ثم قال: ارجع إلى ظلمتك فإنك مبعود عن أبناء جنسك. ثم قال لي: ليس في ظلمة غيرك ولا أوجدت فيها سواك. منها أخذتك...
ثم قال لي: كل موجود دونك خلقته من نور (= من وجود)، إلا أنت فإنك مخلوق من الظلمة (= عدم)" (مشاهد الأسرار ق 29).
وتختم الكاتبة: يلاحظ في جملة الخطاب الأخير: "ثم قال لي: كل موجود دونك... من الظلمة" أن المخاطب هنا وصل إلى الاتحاد بمقامه المحمدي، فكان هو المخاطب فيه. لأن النص لا يستقيم إلا بنسبته إلى الحقيقة المحمدية. فهي وحدها مخلوقة من عدم (ظلمة)، وكل ما دونها من وجود (نور)، وفي ذلك إشارة إلى الحديث: أول ما خلق الله نوري ومن نوري خلق كل شيء. اهـ
مفهوم "النور المحمدي": تحيل مؤلفة المعجم الصوفي في مادة "نور محمد" صلى الله عليه وسلم إلى مادة "الحقيقة المحمدية" بدون شرح. وتجعله من المترادفات للحقيقة المحمدية.