وهذه ثلاثة مواضع يذكر فيها أن الحجة قامتبالقرآن على كل من بلغه وسمعه ولو لم يفهمه، وهذا ولله الحمد يؤمن به كل مسلم سمعالقرآن، ولكن الشياطين اجتالت أكثر الناس عن فطرة الله التي فطر عباده عليها، ثمتأمل كلام شيخ الإسلام في حكمه عليهم بالكفر وهل قال لا يكفرون حتى يُعرفوا أو لايسمون مشركين ؟ بل فعلهم شرك كما قال من أشرنا إليه .
ثم تأمل حكاية الشيخ عن شيخ الإسلام في كلامه على المتكلمين ومن شاكلهم،وهذا إذا كان في المقالات الخفية فقد يقال أنه مخطئ ضال لم تقم عليه الحجة التييكفر تاركها حتى يعرف، لكن يكون ذلك في الأمور الظاهرة، إلى أن قال : أن اليهودوالنصارى والمشركين يعلمون أن محمداً بعث بها وكفر من خالفها مثل أمره بعبادة اللهوحده لا شريك له ونهيه عن عبادة أحد سواه من النبيين والملائكة، ثم تجد كثيرا منرؤسائهم وقعوا في هذه الأنواع فكانوا مرتدين، إلى أن قال الشيخ : فتأمل كلامه فيالتفرقة بين المقالات الخفية وبين ما نحن في كفر المعين وتأمل تكفيره رؤساءهم فقفوتأمل كما قال الشيخ، وهذا القدر كاف في رد هذه الشبهات وقد جعلها شيخ الإسلام قدسالله روحه من الأمور الظاهرة حتى اليهود والنصارى يعلمون ذلك من دين الإسلام ومنوصفنا لك عمَى عن ذلك ولعله يقرأها ويقررها، ولكن حيل بينه وبين تنزيلها على الواقعمن الناس، وهذا له أسباب منها عدم الخوف على النفس من الزيغ والانقلاب وقد خافالسلف من ذلك، وقد يكون للإنسان هوى يمنعه عن معرفة الحق واستخراجه من النصوص كماذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى في بعض رسائله التي ذكر صاحب التاريخأنه قال : ومن ذلك أن نقرر المسألة في أصل الدين سنة كاملة على بعض الطلبة فيعرفهاويتصورها، ثم إذا وقعت لا يفهمها، قف وتأمل .
ومن ذلك أنه ذكر أن بعضعلماء الوشم قرر التوحيد في بعض مراسلته للشيخ محمد وسأله هل أصاب أم لا، فقال له : تقريرك التوحيد حق وقد أصبت لكن الشأن في العمل بعد المعرفة، فإنك لما قدم بلدكمبعض رسائل أعداء الدين في سب الدين وأهله مشيت معهم ولم تنابذهم ولم تفارقهم أو كماقال فتأمل ذلك ( فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ) ([15]) .
تأمل كلام الشيخ رحمه اللهفي تنزيله على صاحب الرسالة أن المنافقين وإن تحيزوا إلى عبادة الطاغوت ثم حكم عليهبالردة . ومن أعظم ما حكى عن الشيخ أنه توقف في تكفير المعين وأن الذي منعه منالهجرة بأهله ما في يده من البضائع وخوف الفقر، ثم انظر حال من ذكرنا ومن شاكلهم فيرحلتهم للمشركين وقراءتهم عليهم وطلب العلم بزعمهم منهم هذا أقروا به وهو مما علممنهم، وإلا فهم يتهمون بموالاتهم والركون إليهم .
ومن المصائب أنه إذا قدم هذاالجنس على المسلمين عاملوهم بمثل معاملتهم قبل الذهاب للمشركين من الإكرام والتحية،وقد يظهر منهم حكاية وثناء على بلاد المشركين واستهجان المسلمين وبلادهم، مما يعلمأنه لا يظهر إلا من سوء طوية ويبقون على ذلك دائما، وقليل من يستنكر ذلك منهم، وأماكون أحد يخاف عليهم الردة والزيغ بسبب أفعالهم فلا أظن ذلك يخطر ببال أحد، فكأن هذهالأحكام الشرعية التي يحكم بها على من صدر منه ما ينافيها .
حكم من جحد ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقامت عليه الحجة : كما ذكرالشيخ رحمه الله وشيخ الإسلام رحمه الله قبله في أناس كانوا فبانوا، كما ذكر داعيةأولئك المشاهير الذين تقدم ذكرهم فانظر حالك وتفكر فيما تعتقده فإن تنج منها تنج منذي عظيمة، وإلا فلا عجب ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن الدليل على مسألتنا ماكتب الشيخ رحمه الله تعالى إلى عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم لما سألاه عن قول شيخالإسلام تقي الدين قدس الله روحه : من جَحَد ما جاء به الرسول وقامت عليه الحجة فهوكافر، فأجاب بقوله إلى الأخوين عيسى بن قاسم وأحمد بن سويلم :
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد : ما ذكرتموه من كلام الشيخ كل من جحدكذا وكذا وأنكم تسألون عن هؤلاء الطواغيت وأتباعهم هل قامت عليه الحجة أم لا ؟ فهذامن العجب العجاب، كيف تشكون في هذا المجال وقد وضحت لكم مرارا أن الذي لم تقم عليهالحجة هو الذي حديث عهد بالإسلام، أو الذي نشأ ببادية بعيدة، أو يكون ذلك في مسائلخفية مثل الصرف والعطف فلا يكفر حتى يُعرف، وأما أصول الدين التي وضحها الله فيكتابه فإن حجة الله هي القرآن، فمن بلغه القرآن فقد بلغته الحجة، ولكن أصل الإشكالأنكم لم تفرقوا بين قيام الحجة وفهم الحجة، فإن أكثر الكفار والمنافقين لم يفهمواحجة الله مع قيامها عليهم كما قال تعالى : {أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إنهم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} ([16]) .
وقيام الحجة وبلوغها نوع، وفهمهم إياها نوع آخر، فتأمل كلام الشيخ ونسألالله أن يرزقك الفهم الصحيح وأن يعافيك من التعصب . وتأمل كلام الشيخ رحمه الله أنكل من بلغه القرآن فقد قامت عليه الحجة وإن لم يفهم ذلك، وجعله هذا هو السبب في غلطمن غلط وأن جعل التعريف في المسائل الخفية . ومن حكينا عنه جعل التعريف في
أصل الدين، وهل بعد القرآن والرسول تعريف ؟ ثم يقول : هذا اعتقادنا نحنومشايخنا ! نعوذ بالله من الحوار بعد الكور، وهذه المسألة كثيرة جدا في مصنفاتالشيخ محمد رحمه الله لأن علماء زمانه من المشركين ينازعون في تكفير المعين، فهذاشرح حديث عمرو بن عبسه من أوله إلى آخره كله في تكفير المعين، حتى أنه نقل فيه عنشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من دعا عليّا فقد كفر ومن لم يكفره فقد كفر،وتدبر ماذا أودعه من الدلائل الشرعية التي إذا تدبرها العاقل المنصف فضلا عن المؤمنعرف أن المسألة وفاقية ولا تشكل إلا على مدخول عليه في اعتقاده، وقد ذكر الشيخسليمان بن عبدالله رحمه الله تعالى في شرح التوحيد في مواضع منه أن من تكلم بكلمةالتوحيد، وصلى، وزكى، ولكن خالف ذلك بأفعاله وأقواله من دعاء الصالحين والاستغاثةبهم، والذبح لهم أنه شبيه باليهود والنصارى في تكلمهم بكلمة التوحيد ومخالفتها،فعلى هذا يلزم من قال بالتعريف للمشركين أن يقول بالتعريف باليهود والنصارى ولايكفرهم إلا بعد التعريف، وهذا ظاهر بالاعتبار جدا.............. .