** فُتِحتْ لهُ أسواقُ العمل ...وأقبلَ المالُ عليه يتمسّحُ بقدميه كقطَّةٍ ودودٍ مُحبَّةٍ ... فأقبلَ على هذه القِطّة الجميلة بالمزيدِ من الشَّغفِ والإخلاص والحب ... أغدقَ على سوق العمل البقيّة الباقية من وقته الذي كانَ يُخصّصهُ لزوجته ووولديه الصَّغيرين ... أقبل على الحياةِ بشهيّة مبهرة وكأنَّهُ وُلِدَ منْ جديد ... بل لقد بدا لكلّ الأصدقاء والأهلِ شاباً يافعاً لم يَخُضْ بعد تجربة الزواج والأبوَّة ... بدا فتى مرحاً وسيما ضاحكا - طوال الوقت - متخَما بالسّعادة والهناء والفكاهة والودّ ... كما بدا وكأنّه أحدَ الذين يُسمَّون - في موسوعة جينيس - بــــــــ " أغنى رجل في العالم " و " أشيك رجل في العالم " ... و... إلى آخره ...
كان كلُّ هذا كافياً - إلى حدٍ مرعبٍ - لأنْ تلتفَّ حوله عاشقات المالِ أو عاشقات الأناقة ... أو عاشقات الوسامة ... أو عاشقات الرجل الناجح المشهور ... ولمّا كان جامِعا لكلّ هذه الـــ ...مهالِك : ثريّا ... وسيما ً ... أنيقاً ... مشهوراً ... ناجحاً ... شابّا... فقد التفّت حوله ضَّارياتُ الهَوامِ ... الفراشاتُ المهلِكات المنتحرات ... دُرنَ حولَه ليلَ نهار وكأنّهنّ الأرضَ تدورُ حولَ الشمسِ ... أو كأنَّ الدورانَ حوله كانَ نذَراً نّذرْنَه وأقسمنَ على الوفاء به ...

***أصبح "إبراهيمُ " لايُرى إلاَّ والفراشاتُ حولَهُ يُحِطْنَه بالتدّليل والعشقِ المزعوم والْوَلِه الــ تّجاريّ ... وكانت زوجتُه - في بادئ الأمر - مزهوّة بما صار إليه حالُ أسرتها ... فقد انتقلت الأسرةُ بسبب نجاح " إبراهيم " إلى شريحة اجتماعية رفيعة ... وانتقلت إلى رغد العيش وبهاء الدّنيا وهكذا استجابَ اللهُ دعاءها اللّحوح بالغنى والثراء والشهرة ... ولكنّها بمرور الوقتِ أخذت تستشعرُ القلقَ من تحليق الفراشات حولَ زوجها ... ثم صارت ترتابُ فيما يطرأ من جديدٍ مُريبٍ على سلوكِ زوجِها ... أصبحت تشكو إليه أنها لا تكادُ تراهُ إلاّ لِمامَا ... وأنّها - إن رأَتْه - لا تتمكّن إلا من رؤية ساقيه تهرولان إلى خارج المنزل حيثُ سيارتُه الجديدة الفاخرة ... قالت له شاكية منتحبةً : لم يتبقّ لي منك إلاَّ ساقاك ... أمّا أنتَ ... أنتَ ... فلم تعد موجودا ...
** لم تلقَ شكوَتُها أو نحيبُها من زوجها غيرَ التّأنيبِ المرهق وغير وصفها بالــ زوجة غير المُتفهّمة ... الغيور ... المرتابة ... التي لا تُساند زوجها في حياتِه الجديدة ... ولا تستطيع تفهُّم مُتطلّبات هذه الحياة ... !
*** انحصرتْ علاقتُها بزوجها في لحظاتِ بعينها : لحظة سماع صوت سيارته وصوتَ خطواته حين يعود إلى المنزل فجرا ثمّ حين يخرج منه بعدأنْ يفتح عينيه من النوم ... إلى درجة أنّها أصبحت ماهرةً في معرفة الوقت وتحديده عند سماع هذه الأصوات ...
أمّا الصغيران ... الطّفلان ... فقد أصبحت أيّامُهما موزّعةً بين البياتِ عند جدتهما لأمّهما أو جدتِهما لأبيهما ... أو عند الخالة أو العمّة أو ... ، ... ، ، لأنّ أباهما مشغول بالفراشات ولأنّ أمّهما متوجّسةٌ من إلحاحِ هذه الفراشات في التحليق الكئيب حول إبراهيم ... !
إلى أنْ جاء يومٌ أضمرَ فيه إبراهيم أن يقترن بفراشة ماهرة ممّن طُفنَ حوله كثيرا واستطاعتْ أنْ تجعله يرى زيفها صدقاً وطمعها في ماله ونجاحه عشقاً ... استطاعَت أن تخفي عنه حنكَتَها وخبرتها التّاريخية في التحليق الشّره الجشع القبيح حولَ كلّ ثريٍ مشهورٍ ناجح ٍ ... استطاعت ... ؛ فاطمأنّ قلبه إلى أنّها - هي دون غيرها - البريئة السّاذجة المخلصة العاشقة له ... وأنها - دون غيرها - المِعطاءة القنوعُ ... وأنّها - هي لا زوجته - الزوجة الصالحة التي هي خيرٌ من الدنيا وما فيها ... وأنّها مثال الاكتمال وحلمٌ قد يُصيبه - بسببه - الخُبال : جمالٌ ودلالُ وزهدٌ فيما لديه من ماااال ...
** أخذ إبراهيمُ أولاده وأمهما - لأول مرة منذ زمن - إلى رحلة طويلة بالسيّارة الفاخرة ... ، واشترط عليهم أن يتركهم في المتنزه السياحي لأسبوعين حتى ينتهي من عمله ويعود إليهم ... وانتوى - في ضميره - أن يتزوج من فراشته في هذين الأسبوعين ...
*** أسرعَ بالسيّارة شاردا عن صيحاتِ ولديه الفَرحين بالنّزهة ... شاردا عن وجومِ زوجته وتوجّسها من هذه الرحلة المفاجئة وما يتبعها من غيابه عنهم ... كان شاردا عن وجه زوجته الذي ارتسمت عليه علاماتُ الأرق والإجهاد النفسي والتّعاسة إلى حدٍ صارت وكأنّها تَكبُرهُ بأعوامٍ طويلة ... صارت إلى درجة من الاكتئاب إلى حدٍّ لا تستطيعُ فيه الإجابة على تساؤلات طفليها ومزاحهما ... لا تستطيعُ حتّى أن تلتفتَ إلى عبثهما بمقبض باب السيارة كما كانت تفعل في سيارتهم القديمة ... بل كانت لا تستطيع متابعة الطريق وتنبيه زوجها إلى أي خطرٍ كما كانت تفعل في سيارتهم القديمة المتواضعة ...
ولكلّ ذلك كانَ من الطّبيعي أن يصطدم " إبراهيم " بعمودٍ خراسانيّ ضخمٍ متبقٍّ من بناية منهارة ... كانَ من الطبيعي أن يصطم بالعمود إلى حد أنْ اخترق العمودُ مقدمة السيارة حيثُ يجلس هو - بينما طارت الفراشةُ الجشعةُ لتنجو بنفسها بعيدا عن رأسه المرتجّ - وارتطمت زوجتُه في طاولة السيارة ووقع الطفلان على أرضيتها بشدة ...
*** وفي المَشفى قالَ الطبيبُ : " لا بدّ من بتر السّاق اليُمنى لإبراهيم حتّى نحافظ على حياته ... لا بد وبسرعة ... أريدُ منكما إقرارا بالموافقة على البتر "... نظرت الزوجة إلى إبراهيم تتوسّلُ إليه بدموعها من خلالِ الأربطة المُحيطة برأسها وذراعيها ... ترجوُه أنْ يوافق دونَ تردّد من أجلها ومن أجل صغيريها الضعيفين - المُصابين بالرضوض والكدمات في جسميهما - اللذين ما زالا في سنّ الاحتياج إلى الأب وإلى الأم ... وإلى البيت ...
قال وهو يشهقُ بالبكاء وكأنّه ارتدَّ طفلا يجلس إلى أمّه - لا إلى زوجته - : وكيف ستحتملينني زوجا بساقٍ واحدة ؟ !

قالت وهي تحاولُ الابتسام بينما تقطعُ شهقاتِ بكائه بشهقاتِها :لم أكن أعلم أنّي أدعو للشرّ دعائي للخير ... لقد أشقيتني وأنت معافىً بساقيك ... وأنا على يقينٍ من أنّك ستُسعدني بساقٍ واحدة لأنَني سأكونُ الفراشة الوحيدة العاشقة لهذه الساق ... سأكونُ الفراشة الصّادقة المُخلصة أيُّها الزوجُ الحبيب ... !
بقلم : جاميليـــــــــ ــــا حفني