استشهاد الحسين بن علي رضي الله عنه في "مقالات الإسلاميين" لأبي الحسن الأشعري
بقلم : د. محمد بن إبراهيم أباالخيل
الأستاذ بجامعة القصيم
مر أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري ( ت 330 هـ ) الذي ينتهي نسبة بالصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه - مر في حياته الفكرية والعقدية بأطوار مختلفة ، أولها : الاعتزال ، فلقد نشأ على مذهب المعتزلة ولبث فيه فترة طويلة من عمره قيل أنها امتدت أربعين سنة ، ويرجع سبب ذلك كونه عاش منذ الصغر في كنف أبي علي الجبائي (ت 303 هـ) شيخ المعتزلة الذي كان قد تزوج أمه بعد وفاة والده إسماعيل ، وكان والده هذا سنياً محدثاً ؛ بل أوصى به عند وفاته إلى محدث البصرة وشيخها ومفتيها زكريا بن يحيى الساجي ( ت 307 هـ) ، ولكن يظهر أن ما حصل بينه وبين زوج أمه الجبائي من صلة وثيقة بدأت في وقت مبكر من حياته جعلت الاعتزال يتأصل في نفسه .
الطور الثاني : خروجه من الاعتزال وميله إلى أهل السنة والحديث ، وإثبات الصفات العقلية السبعة : العلم والقدرة والحياة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وتأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحو ذلك .
الطور الثالث : إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تشبيه ولا تحريف ولا تعطيل كما هو منهج السلف ، وقد تجلى ذلك في كتابه "الإبانة عن أصول الديانة"([1]) .
ولأبي الحسن الأشعري كثير من المؤلفات ويأتي في مقدمتها كتاب "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" الذي يعد من أهم كتب مقالات ما يسمى بالفرق الإسلامية من شيعة وخوارج وجهمية ومعتزلة وغيرهم .
ولقد عرض أبو الحسن الأشعري في أواخر كلامه عن مقالات الرافضة في هذا الكتاب قولهم في الخروج على الأئمة ، فتطرق لمقتل الحسين رضي الله عنه في أول حديثه عمن خرج من آل البيت فقال (( خرج الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه منكراً على يزيد بن معاوية ما أظهر من ظلمه فقتل بكربلاء ))([2]).
ويلاحظ هنا عدم دقة أبي الحسن في عبارته ، إذ جعل خروج الحسين رضي الله عنه هو الإنكار على يزيد - ما أظهر من ظلمه - ، وهذا غير مقبول ، فالحسين رضي الله عنه شرع بالخروج على يزيد بمجرد علمه بالبيعة له بالخلافة مباشرة ، فلم يكن المحرك إذن للحسين رضي الله عنه ظلم يزيد ، فيزيد قبل ذلك لم يتول الخلافة ليَظْهَر منه ظلماً أو عدلاً !.
ثم قال (( وحمل رأس الحسين إلى يزيد بن معاوية فلما وضع بين يديه نكت ثناياه التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبلها بقضيبه ، وحمل إليه بنو الحسين وبناته وسائر نسائه على الأقتاب([3]) فهم بقتل الذكور فكشف عن عاناتهم ينظر إليهم هل أنبتوا أم لا؟ ثم مَنَّ عليهم ))([4]).
وهذا المقطع يتطرق لقضيتين إذا رتبناهما حسب تسلسل الأحداث ؛ الأولى : الصفة التي نُقل بها ذوو الحسين رضي الله عنه عقب استشهاده من العراق إلى الشام ، ومن ثم المعاملة التي عُوملوا بها هناك . والثانية : حمل رأس الحسين رضي الله عنه إلى يزيد بن معاوية ، وما بدر من فعل نُسب إلى يزيد بعد أن صار الرأس بين يديه .
والمتصفح للمصادر سواء قبل عصر المؤلف أو بعده يجد أن كلتا القضيتين وردتا بالألفاظ نفسها أو قريب منها أو بمعناها في عديد من تلك المصادر ، وبخاصة المصادر التاريخية ، وهي التي عادة تعنى بمثل هذه الأخبار ، وحيث أن أبا الحسن الأشعري المتوفى سنة 330هـ لم يذكر مصادره هنا فسوف نتتبع ما بين أيدينا من مصادر سابقة على زمنه لنحاول التعرف على أصول تلك الأخبار .
ففيما يتعلق بالمصادر التاريخية السابقة على زمن أبي الحسن الأشعري فقد جاءت بشكل واضح في مصدرين معروفين هما أنساب الأشراف للبلاذُري (279هـ) ، وتاريخ الأمم والملوك للطبري ( ت310هـ ) . فأما البلاذري فقد نقل في كلامه عن مقتل الحسين رضي الله عنه أن عبيد الله بن زياد (( دعا زحر بن قيس الجعفي ، فسرح معه برأس الحسين ورؤوس أصحابه وأهل بيته إلى يزيد بن معاوية ... ))([5]) ، وفي موضع آخر أنه أمر (( بعلي بن الحسين فغل بغل إلى عنقه ، وجهز نساءه وصبيانه ، ثم سرح بهم مع محفز بن ثعلبة من عائذة قريش ، وشمر بن ذي الجوشن . وقوم يقولون: بعث مع محفز برأس الحسين أيضاً ))([6]) . ويلاحظ أننا إذا رجعنا إلى كلا الموضعين اللذين ساق البلاذري فيهما خبر حمل أهل بيت الحسين رضي الله عنه وجدنا أنه صدرهما بلفظ (( قالوا ))([7]) ، فهو لم يحدد رواة بأعينهم نقلوا الخبر . ثم إنه لم يرد في الخبرين كلاهما أنهم حملوا على الأقتاب ، وكذلك لم يرد ما ينص على أنهم لما صاروا بين يدي يزيد بن معاوية هم بقتل ذكورهم ، وكشف على عاناتهم لينظر هل انبتوا !.
وإذا انتقلنا إلى قضية وضع رأس الحسين رضي الله عنه بين يدي يزيد وما قيل إنه حصل حينئذٍ ، فقد ورد عند البلاذري ما نصه (( قالوا : وجعل يزيد ينكث بالقضيب ثغر الحسين حين وضع رأسه بين يديه ، فقال أبو برزة الأسلمي : أتنكث ثغر الحسين ، لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً ربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه ، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وشفيعك ابن زياد ، ويجيء الحسين وشفيعه محمد . ثم قام . ويقال إن هذا القائل رجل من الأنصار )). فيقال عن هذه الرواية مثلما قلنا عن ما جاء قبلها ، فقد صدرها البلاذري بلفظ (( قالوا )) التي لا تكشف عن رواتها . ثم هناك أمر آخر جدير بالتنبيه ، وهو أن أبا برزة الأسلمي رضي الله عنه كان في العراق وقتذاك ، ولم يكن بالشام ، يقول ابن تيمية([8]) عن رأس الحسين رضي الله عنه (( وقد رُوِي بإسناد منقطع أو مجهولٍ أنه حُمِلَ إلى يزيدَ ، وجَعل يَنكُت بالقضيبِ على ثناياه ، وأن أبا برزة كان حاضرًا وأنكر ذلك . وهذا كذبٌ ، فإن أبا برزةَ لم يكن بالشام عند يزيدَ ، وإنما كان بالعراق )).
أما ما جاء لدى الطبري([9]) في هذا الشأن فنراه قد ساقه بقوله (( قال هشام عن أبي مخنف قال حدثني أبو حمزة الثمالي عن عبدالله الثمالي عن القاسم بن بخيت قال : لما أقبل وفد أهل الكوفة برأس الحسين دخلوا مسجد دمشق فقال لهم مروان بن الحكم كيف صنعتم قالوا ورد علينا منهم ثمانية عشر رجلا فأتينا والله على آخرهم وهذه الرؤوس والسبايا فوثب مروان فانصرف ... ودخلوا على يزيد فوضعوا الرأس بين يديه وحدثوه الحديث ... قال فسمعت دور الحديث هند بنت عبد الله بن عامر بن كريز ، وكانت تحت يزيد بن معاوية ، فتقنعت بثوبها وخرجت ، فقالت : يا أمير المؤمنين أرأس الحسين بن فاطمة بنت رسول الله ؟ قال : نعم ، فأعولي عليه وحُدي على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصريحة قريش ، عجل عليه ابن زياد فقتله ، قتله الله! ، ثم أذن للناس فدخلوا - والرأس بين يديه - ومع يزيد قضيب ، فهو ينكت به في ثغره ، ثم قال إن هذا وإيانا كما قال الحُصين بن الحُمام المرُي :
يفلِّقن هاماً من رجالٍ أحبة إلينا وهم كانوا أعقَّ وأظلما
قال : فقال رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له أبو برزة الأسلمي : أتنكت بقضيبك في ثغر الحسين ! أما لقد أخذ قضيبك من ثغره مأخذاً لربما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرشفه ، أما إنك يا يزيد تجيء يوم القيامة وابن زياد شفيعك ، ويجيء هذا يوم القيامة ومحمد صلى الله عليه وسلم شفيعه ، ثم قام فولى )) .
فالرواية التي نقلها الطبري هنا لم تتطرق للصفة التي حمل بها أهل بيت الحسين رضي الله عنه إلى الشام ، وما أورده هنا في سياق متتابع إنما هو حمل الرأس إلى يزيد بن معاوية وما تبع ذلك من تصرفه نحوه . وإذا نظرنا إلى إسناد هذه الرواية وجدنا إن رواتها غير موثقين ، فقد رواها الطبري([10]) عن هشام ، وهو هشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 204هـ) : رافضي ، متروك ، ليس بثقة([11]). ورواها هشام عن أبي مخنف ، وهو لوط بن يحيى (ت 157هـ) : شيعي محترق ، لا يوثق به([12]) . ورواها أبو مخنف عن أبي حمزة الثُمالي ، وهو ثابت بن أبي صفية ( ت 148هـ) : ضعيف ، معدود من الرافضة([13]). والطعن في واحد فقط من هؤلاء الرواة كافٍ في رد هذه الرواية ، فكيف إذا رواها هؤلاء الرافضة الثلاثة واحداً عن الآخر . ثم إن فيها ذكراً لأبي برزة الأسلمي رضي الله عنه ، وقد سبق أن نبهنا إلى عدم وجوده في الشام . كذلك يلاحظ التناقض الموجود في الرواية ، فيزيد حسب ما رُوي يأمر زوجته للعويل على الحسين رضي الله عنه ، ويدعو على عبيد الله بن زياد بالقتل لتعجيله بقتل الحسين رضي الله عنه ، وهو في الوقت نفسه يقوم بنكت رأس الحسين رضي الله عنه ، ويردد تلك الأبيات([14]) .
وإذا رجعنا إلى المصادر غير التاريخية سنجد أحد الذين سبقوا أبا الحسن الأشعري في العصر ، ويكاد يتوافق معه في التعبير عن حمل أهل الحسين رضي الله عنه إلى الشام وما قيل عما فعله يزيد برأس الحسين رضي الله عنه - سنجد الكاتب المعروف الجاحظ([15]) (ت255هـ) فهو يقول عند حديثه عن يزيد بن معاوية (( كيف يُصنع بنَقْر القضيب بين ثَنيَّتي الحسين عليه السلام ، وحمل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم حواسر على الأقتاب العارية والإبل الصِّعاب ، والكشف عن عورة عليِّ بن الحسين عند الشَّكِّ في بلوغه على أنَّهم إنْ وجدوه وقد أنبت قتلوه ، وإن لم يكن أنبت حملوه ، كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين؟ )).
ومعروف أن الجاحظ من المعتزلة الذين يعلنون عداءهم لبني أمية ، بل يصل الأمر بهم إلى تكفيرهم ، وقد عاش في عصر العباسيين الذين كانت له بهم صلة([16])، ولذا فإن ما يقوله عن بني أمية ينبغي التوجس من صحته ، فضلاً عن كونه في هذا الخبر لم يعول على أحد من الرواة ، بحيث يسوغ النظر في مدى صحته .
وربما أن توافق أبي الحسن الأشعري مع الجاحظ في هذا الكلام يعود إلى أنه كان من المعتزلة قبل هدايته إلى مذهب أهل السنة والجماعة كما سبق أن أشرنا ، ولعل مثل هذه الحكايات التي يرددها المعتزلة عن الأمويين بقيت محفوظة في ذاكرته ، فلم يتخلص منها .
ومما يُشار هنا إلى أن بعض كتب الأدب السابقة على عصر أبي الحسن الأشعري ساقت كتاباً للخليفة العباسي أبي جعفر المنصور أرسله إلى محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية لما ثار عليه سنة 145هـ ، فقد نقل المبرد([17]) (ت 285هـ) على لسان أبي جعفر (( ولقد علمت أن جدك علياً حكم حكمين وأعطاهما عهده وميثاقه على الرضا بما حكما به ، فاجتمعا على خلعه ، ثم خرج عمك الحسين بن علي على ابن مرجانة [عبيد الله بن زياد] ، فكان الناس الذين معه عليه حتى قتلوه ، ثم أتوا بكم على الأقتاب بغير أوطية ، كالسبي المجلوب ، إلى الشأم )). فأبو جعفر المنصور لم يتطرق فقط إلا لحملهم على الأقتاب الذي قد لا يستغرب أن يقوم به من قتل الحسين رضي الله عنه ، ولو صح نص هذا الكتاب فإن أبا جعفر ذكر ذلك في ساعة غضب على محمد النفس الزكية ، وفي سياق الحط من قدر ذويه ، فشبههم بالسبي المجلوب ، ولذلك لا يعول على ما قاله فيهم.
ومهما كان الأمر فالمشكلة في التاريخ الأموي أن أكثره كتب في عصر العباسيين الذين لم يألوا جهداً في التحامل على بني أمية ، وطمس مآثرهم ، وقد زاد من هذه المشكلة أن الكتاب الذين توجهوا لتدوين التاريخ عموماً في ذلك العصر كانت غالبيتهم من أصحاب المذاهب المنحرفة الذين يكنون العداء لأولئك الأمويين .


([1]) راجع عن حياة أبي الحسن الأشعري وأطوار حياته الفكرية والعقدية ما كتبه د. عبد الرحمن بن صالح المحمود : موقف ابن تيمية من الأشاعرة ، جـ 1 ، ص 337 وما بعدها ، ط.الأولى ، مكتبة الرشد ، 1415هـ ؛ وعبد الله شكر الجنيدي في مقدمة تحقيقه لكتاب أبي الحسن الأشعري : رسالة إلى أهل الثغر .

([2]) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ، جـ 1 ، ص 150 ، ط.المكتبة العصرية ، بيروت ، 1411هـ .

([3]) القتب الرحل الصغير على قدر سنام البعير (المعجم الوسيط ، جـ 2 ، ص 714 )

([4])مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ، جـ 1 ، ص 151.

([5]) أنساب الأشراف ، تحقيق رياض زركلي ، جـ 3 ، ص 415 .

([6]) المصدر نفسه ، ص 416.

([7]) المصدر نفسه ، ص 415 ، 416 .

([8]) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، جـ 27 ، ص 493 ، منهاج السنة ، جـ 8 ، ص 142.

([9]) تاريخ الأمم والملوك ، جـ 5 ، ص 465 .

([10]) وقد رواها بالسند نفسه ابن عساكر : تاريخ مدينة دمشق ، جـ 62 ، ص 84- 85 ونقلها من المؤرخين بعد زمن أبي الحسن الأشعري بدون إسناد كثيرون منهم المسعودي وابن الأثير والنويري وغيرهم .

([11]) الذهبي : ميزان الاعتدال ، جـ 4 ، ص 304-305 ؛ ابن حجر : لسان الميزان ، جـ 6 ، ص 196.

([12]) الذهبي : ميزان الاعتدال ، جـ 3 ، ص 419-420؛ ابن حجر : لسان الميزان ، جـ 4 ، ص 492 ، جـ 7 ، ص 104.

([13]) الذهبي : ميزان االاعتدال ، جـ 1 ، ص 363 ؛ ابن حجر : تهذيب التهذيب ، جـ 2 ، ص 7- 8 .

([14]) انظر ما كتبه د. محمد بن عبد الهادي الشيباني : مواقف المعارضة في خلافة يزيد بن معاوية ، ص 282-285 ؛ حمدي شاهين : الدولة الأموية ، ص 322-323

([15]) رسائل الجاحظ ( رسالة في النابتة )، تحقيق عبد السلام هارون ، جـ 2 ، ص 13. وذكر ذلك باختصار في كتاب آخر له ( الرسائل السياسية ، ص 421 ).

([16]) حمدي شاهين : الدولة الأموية المفترى عليها ، ص 68- 69 .

([17]) الكامل في اللغة والأدب ، ط. مكتبة المعارف ، بيروت ، جـ 2 ، ص 387 .