تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 12 من 12

الموضوع: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين
    من المعجم الصوفي (ص 347 - 352) للدكتورة سعاد الحكيم أستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية نقرأ في مادة: الحقيقة المحمدية[1]: المترادفات[2]: الكلمة المحمدية – النور المحمدي – نور محمد صلى الله عليه وسلم – حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم.
    وتقول الكاتبة: "الحقيقة المحمدية" هي أكمل مجلى خلقي ظهر فيه الحق، بل هي الإنسان الكامل بأخص معانيه[3]. وإن كان كل موجود هو مجلى خاصا لإسم إلهي، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد انفرد بأنه مجلى للإسم الجامع وهو الإسم الأعظم (الله)[4] ولذلك كانت له مرتبة الجمعية المطلقة، وللحقيقة المحمدية التي هي أول التعينات[5] عدة وظائف ينسبها إليها الشيخ الأكبر:
    1- من ناحية صلتها بالعلم: الحقيقة المحمدية هي ببدأ خلق العالم وأصله. من حيث أنها النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء (حديث جابر)[6]. وهي أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود – وهي من هذه الناحية صورة "حقيقة الحقائق".
    2- من ناحية صلتها بالإنسان: يعتبر ابن عربي الحقيقة المحمدية منتهى غايات الكمال الإنساني، فهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل[7] الذي: يجمع في نفسه حقائق الوجود.
    3- من الناحية الصوفية: هي المشكاة التي يستقي منها جميع الأنبياء والأولياء العلم الباطن.
    من حيث أن محمدا صلى الله عليه وسلم له حقيقة "الختم"[8] (خاتم الأنبياء) فهو يقف بين الحق والخلق. يقبل على الأول مستمداً للعلم منقلباً إلى الآخر ممداً[9] له. وسنثبت ما تقدم (على حد قول الأستاذة سعاد) بنصوص ابن عربي كما تعودنا ذلك، يقول:
    (1) "... بدء الخلق الهباء[10]، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية، ولا أين يحصرها لعدم التحيز ومم وجد ? في الهباء... ولم وجد ? لإظهار الحقائق الإلهية..." (فتوحات 1/118).
    "فلما أراد (الحق) وجود العالم وبدأه على حد ما علمه بعلمه بنفسه، انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل، من تجليات التنزيه، إلى الحقيقة الكلية (= حقيقة الحقائق) انفعل عنها حقيقة تسمى الهباء (انظر "هباء") ... ليفتح فيها ما شاء من الأشكال والصور وهذا هو أول موجود في العالم... ثم إنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء... والعالم كله فيه بالقوة والصلاحية فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء، على حسب قوته واستعداده كما تقبل زوايا البيت نور السراج... فلم يكن أقرب إليه قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل، فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية، وفي الهباء وجد عينه وعين العالم من تجليه[11]..." (فتوحات 1/119).
    يظهر من النص الأخير أن الحقيقة المحمدية أول ظاهر في الوجود، وإن كان وجودها عن الهباء وحقيقة الحقائق. فالأول، أي الهباء حقيقة معقولة غير موجودة في الظاهر (انظر "هباء"). والثانية، أي حقيقة الحقائق لا تتصف بالوجود ولا بالعدم (انظر حقيقة الحقائق).
    إذن، يتبقى أن "الحقيقة المحمدية" هي أول موجود ظهر في الكون ومن تجليه ظهر العالم[12]
    (2) "... إن الوجود كله هو الحقيقة المحمدية، وأن النزول منها إليها وبها عليها، وأن الحقيقة المحمدية في كل شيء لها وجهان: وجه محمدي ووجه أحمدي: فالمحمدي: علمي جبرائيلي. والأحمدي: إيماني روحي أمّي[13] ... وأن التنزيل للوجه المحمدي. والتجلي للوجه الأحمدي" (بلغة الغواص ورقة 133).
    (3) "ولهذا بديء به (محمد = الكلمة المحمدية) الأمر وختم... " (فصوص 1/214)
    "ولا يزال هذا العقل (العقل الأول = الحقيقة المحمدية) متردداً بين الإقبال والإدبار. يقبل على باريه مستفيداً، فيتجلى له فيكشف في ذاته من بعض ما هو عليه... ويقبل على من دونه مفيداً هكذا أبد الآباد... فهو الفقير الغني، العزيز الذليل، العبد السيد..." (عقلة المستوفز. ص 562).
    "فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته[14] موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين"[15] وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلا حين بعث" (فصوص 1/63-64).

    الهوامش (كلها للكاتبة سعاد الحكيم – المعجم الصوفي):
    [1] - الحقيقة المحمدية: يشيرون بها إلى هذه الحقيقة المسماة بحقيقة الحقائق الشاملة لها أي للحقائق، والسارية كلياً، سريان الكلي في جزئياته. وإنما كانت الحقيقة المحمدية هي صورة لحقيقة الحقائق لأجل ثبوت الحقيقة المحمدية في حاق الوسطية والبرزخية والعدالة... فكانت هذه البرزخية والوسطية هي عين النور الأحمدي المشار إليه بقوله عليه السلام: أول ما خلق الله نوري... ومعنى كون هذه الحقيقة هي الحقيقة المحمدية أي أن الصورة العنصرية المحمدية صورة لمعنى ولحقيقة، ذلك المعنى وتلك الحقيقة هي حقيقة الحقائق". (لطائف الأعلام. ف ق 82 أ - ب).
    [2] - كما يراجع مترادفات "إنسان كامل" لأنها تشير في مضمونها إلى الحقيقة نفسها. واختلاف الألفاظ في الواقع اختلاف في النظر إلى تلك الحقيقة من حيثية معينة. (الكاتبة)
    [3] - انظر "الإنسان الكامل"
    [4] - انظر "الإسم الجامع" "الإسم الأعظم".
    [5] - انظر "تعين"
    [6] - لقد أورد ابن عربي حديث جابر (أول ما خلق الله...) مفصلاً منذ خلق النور المحمدي حتى ظهوره في الجسد المحمدي. (انظر بلغة الغواص ق ق 8-9).
    [7] - انظر "الإنسان الكامل".
    [8] - راجع "ختم".
    [9] - لقد بحث أبو العلا عفيفي بتوسع "الحقيقة المحمدية" ضمن مقاله "نظريات الإسلاميين في الكلمة" مجلة كلية الآداب. جامعة فؤاد الأول سنة 1943 ص ص 22-75 وتعليقه على الفصوص ج 2 ص ص 219-221. وتضيف سعاد الحكيم بقولها: ونسمح لأنفسنا بأن نستخلص منهما ما يتفق مع واقع نظرتنا إلى موقف ابن عربي من الحقيقة المحمدية. فمن ناحية، نتابعه في كل ما ذهب إليه بخصوص أوجه الشبه بين نظرة ابن عربي في الحقيقة المحمدية والفكر الذي سبقه: كلام الشيعة في أزلية "النور المحمدي" ومتابعة أهل السنة لهم في ذلك مستندين إلى أحاديث يستنتج منها قدم "النور المحمدي" وأسبقيته لشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم – الغنوصية المسيحية (كليمنتس وكلامه في "النبي الواحد") – الفلسفة الأفلاطونية الحديثة – مذهب الإسماعيلية الباطنية والقرامطة... (فليراجع كلام عفيفي).
    وتسترسل الكاتبة بقولها: ومن ناحية ثانية: نخالفه في نوعية العلاقة التي أثبتها بين الحقيقة المحمدية والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. يقول: "... وهي (الكلمة المحمدية) شيء يختلف تمام الاختلاف عن شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل ليس بينهما من الصلة إلا ما بين الحقيقة المحمدية وأي نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل أو ولي من الأولياء. فالكلمة المحمدية إذن شيء ميتا فيزيقي محض خارج عن حدود الزمان والمكان..." (فصوص 2/221). وتضيف الكاتبة في تعليقها: وهذا الكلام يخالف موقف ابن عربي من "الحقيقة المحمدية" صراحة. وتشرح الكاتبة: ولذلك نقول: إن العلاقة بين الحقيقة المحمدية وبين أي نبي من الأنبياء تختلف عن العلاقة بينها وبين النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالحقيقة المحمدية التي هي النور المحمدي والتي لها أسبقية الوجود على النشأة الجسدية المحمدية، لها ظهور في كل نبي بوجه من الوجوه (نواب محمد: مظهر الحقيقة العيسوية من الحقيقة المحمدية، والحقيقة الموسوية من الحقيقة المحمدية) إلا أن مظهرها الذاتي التام واحد، هو: شخص محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك يستعملها ابن عربي دون فصل بل على الترادف: فكثيراً ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقصد "الحقيقة المحمدية" وهذا لا يكون لغيره من الأنبياء. والفصل السابع والعشرون الذي يشرح فيه ماهية "الحقيقة المحمدية" هو بنظرة مميزة شرح لحال النبي محمد صلى الله عليه وسلم المحدد زماناً ومكاناً. وسيظهر ما أوردناه خلال النصوص التي سنشير إليها في متن الرسالة. (على حد قول الكاتبة)
    [10] - انظر "هباء".
    [11] - راجع كلام ابن عربي عن كيفية ومراتب نشأة العالم من الحقيقة المحمدية: عنقاء مغرب ص ص 40-43.
    [12] - تقول الكاتبة: هذه النتيجة التي توصلنا إليها تخالف ما ذهب إليه أبو العلا عفيفي في مقاله "نظريات الإسلاميين" الذي أشرنا إليه سابقاً، فهو في مقاله يوَحد بين حقيقة الحقائق والحقيقة المحمدية.
    [13] - انظر "أمية".
    [14] - يراجع بخصوص "الحقيقة المحمدية" عند ابن عربي:
    - الفتوحات ج 3 ص 444.
    - بلغة الغواص ق ق 8-11.
    - الفتوحات ج 2 ص ص 87-88.
    - شق الجيوب. ورقة 21.
    - كتاب التجليات. نشر عثمان يحيى. مجلة المشرق 1966 ص ص 674-677 مع الهوامش
    العنوان: "تجلي الإشارة من عين الجمع والوجود".
    - فصوص الحكم. فهرس الاصطلاحات. مادة "الحقيقة المحمدية".
    كما يراجع:
    - تعريفات الجرجاني. مادة "الحقيقة المحمدية".
    - "رسالة التحقيقات الأحمدية في حماية الحقيقة المحمدية" للشيخ أحمد بن إسماعيل بن زين العابدين البرزنجي. ط. القاهرة 1326هـ.
    - الحياة الروحية في الإسلام. الدكتور محمد مصطفى حلمي. ص ص 116-121 (نظرية الحلاج في الحقيقة المحمدية).
    - طواسين الحلاج. طس السراج. ص ص 191-194. نشر الأب نويا (يظهر منه أن لمحمد صلى الله عليه وسلم صورتين مختلفتين: صورته نورا أزليا قديما كان قبل الأكوان ومنه استمد كل علم وعرفان. وصورته نبيا مرسلا وكائنا محدثاً (انظر المرجع السابق أيضاً))
    - المضنون به على غير أهله. الغزالي. ص ص 184-186 (معنى قوله صلى الله عليه وسلم: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين).
    - ابن الفارض والحب الإلهي. د. محمد مصطفى حلمي ص ص 352-381، حيث يبين الدكتور حلمي أن لابن الفارض نظرية في الحقيقة المحمدية لا تقل في أهميتها عن نظرية ابن عربي، كما أنها لا تختلف عنها كثيراً. إذ أن القطب (الحقيقة المحمدية) عند ابن الفارض وعند ابن عربي حقيقة واحدة قوامها فكرة واحدة هي : أن القطب مبدأ الوجود. وأصل الحياة والتكوين، وواسطة الخلق ومنبع العلم، ومفيض القدرة على التصرف – كما أنه يقارن بين نظرية ابن الفارض في الروح المحمدي وبين نظريات: اليهود (الكلمة) المسيحية (الكلمة)، أفلوطين (الفيض)، الإسماعيلية (العقل الأول)، الحلاج (نور محمد صلى الله عليه وسلم)، كليمان الاسكندري (النبي الواحد)، الزرادشتية (الكلمة الإلهية).
    - من التراث الصوفي. لسهل بن عبدالله التستري. د. محمد كمال إبراهيم جعفر دار المعارف بمصر الطبعة الأولى 1974 ص ص 213-214 حيث يرجع إلى حد ما فكرة الحقيقة المحمدية إلى إبراهيم بن أدهم، وينوه بأثر سفيان الثوري (ت 261 هـ) في عبارته "عامود النور".
    [15] - انظر فهرس الأحاديث حديث رقم (2).

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2009
    المشاركات
    2,967

    افتراضي رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الشيخ العلمي جزاك الله كل خير وبارك فيك
    بصراحة مواضيعك دائماً قيمة فبارك الله في جهودك وفي علمك
    الليبرالية: هي ان تتخذ من نفسك إلهاً ومن شهوتك معبوداً
    اللهم أنصر عبادك في سوريا وأغفر لنا خذلاننا لهم

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -1-
    النص الأول : جواهر المعاني – الجزء الأول – الباب الخامس (ص ص 186-192)
    يقول علي حرازم مؤلف كتاب جواهر المعاني أنه سأل شيخه أحمد التجاني... : وسألته رضي الله عنه عن معنى قوله تعالى في حقّ النبي صلّى الله عليه وسلّم :مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ، وفي الآية الأخرى :وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إلى غير ذلك من الآيات التي نحت هذا النحو مع حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : « من قال أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلم ما في غد فقد كفر » ، أو ما هذا معناه ، مع أنّ عِلْمَ الأوّلين والآخرين محمول في ذاته الشريفة ، وهو الموصل إلى كافّة الخلق كلّ على قدره ؟ الجواب : إعلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم علوم الأوّلين والآخرين إطلاقا وشمولا ، ومن جملة ذلك العلم بالكتب الإلهيّة فضلا عن القرآن وحده ، ويعلم مطالبة الإيمان ، بدايته ونهايته ، وماهيّة الإيمان وما يفسده وما يقوّيه ، كلّ ذلك هو ثابت في حقيقته المحمّديّة صلّى الله عليه وسلّم ، وأمّا قوله سبحانه وتعالى :مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُفإنّ هذا الحال كان له قبل النبوّة لم يُعلِمْه الله بحقيقة الإيمان ولا بكيفية تنزيل الكتب ولا بماهيّة الرسالة وتفصيل مطالبها ، كلّ ذلك حجبه الله عنه قبل النبوّة وهو مكنوز في حقيقته المحمّديّة ولا يعلمه ولا يشعر به ، حتّى إذا كان زمن النبوّة رفع الله عنه الحجب وأراه ما في حقيقته المحمّديّة ، يشهد لذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم : « رأيت ربيّ في صورة شاب » إلى أن قال : « وضع يده بين كتفي حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمني علوم الأولين والآخرين » ، وهذا كان في زمن النبوّة رفع الله عنه الحجاب وأراه ما أدرجه الله له في حقيقته المحمّديّة مِن كنوز المعارف والعلوم والأسرار التي لا يُحاط بساحلها ولا يُنتهَى إلى غايتها .
    وإيّاك أن تفهم من هذا أنّ حقيقته المحمّديّة كانت عريّة عن هذا قبل النبوّة ، فلا يصحّ هذا الظنّ بل حقيقته المحمّديّة لم تزل مشحونة من جميع هذه المعارف والعلوم والأسرار من أوّل الكون من حيث أنّه أوّل موجود أوجده الله تعالى قبل وجود كلّ شيء وفَطَرَهُ على هذه العلوم والمعارف والأسرار ، ولم يزل مشحونا بها إلى أن كان زمن وجود جسده الكريم صلّى الله عليه وسلّم فضُرِب الحجاب بينها وبين عِلْمِه بها صلّى الله عليه وسلّم إلى أن كان زمن النبوّة فرُفِعَ الحجاب وأطلعه على ما أودعه في حقيقته المحمّديّة ممّا ذُكر أوّلا وما خاطبه به في قوله : مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ، أخبر عن حالة احتجاب ما كان في حقيقته أوّلا عن علمه صلّى الله عليه وسلّم بها فقط لا أنّها لم يكن العلم بها في حقيقته ، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم قبل النبوّة من حين خروجه من بطن أمّه لم يزل من أكابر العارفين ولم يطرأ عليه حجاب البشريّة الحائل بينه وبين مطالعة الحضرة الإلهيّة القدسيّة ، وكان من أفراد العالم ، الفرد نسبته إلى عموم العارفين والصدّيقين كنسبة العارف بالله إلى العامّة لا يعرفون شيئا ، وكان في تلك المرتبة صلّى الله عليه وسلّم متحقّقا بمرتبة أنْ يأخذ العلم عن الله بلا واسطة ولا يجهل شيئا من أحوال الحضرة الإلهيّة ، ولم يطرأ على شمسه في هذا المحلّ أُفُوالٌ صلّى الله عليه وسلّم ، والعلم بالله تعالى الذي هو عند الأفراد العارفين ثابت له في هذه المرتبة وإنّما حجب الله عنه في هذا الميدان ماهيّة الرسالة ومطالبها وما يؤول إليه وما يراد منها ، وكذا حجب الله عنه العلم بكيفيّة نزول الكتب وما يؤول إليه وما يراد منه وما الأمور التي تطلبه في نزول الكتب ، حتّى إذا بلغ مرتبة النبوّة رفع الحجاب بين علمه وبين ما كان مُودَعًا في حقيقته المحمّديّة من العلوم والمعارف والأسرار ، ويدلّ على هذا الذي ذكرناه قولُه صلّى الله عليه وسلّم : « كنت نبيا وآدم بين الماء والطين » ، وحيث كان في ذلك الوقت نبيّا يستحيل أن يجهل الرسالة والنبوّة والكتاب ومطالبات الجميع وما يؤول إليه كلٌّ منها وما يُراد من جميعها ، فالحديث شاهد على ما ذكرناه .
    ويدلّ على ذلك أيضا أنّه صلّى الله عليه وسلّم قبل وجود جسده الكريم ما بعث الله نبيّا ولا رسولا في الأرض إلاّ كان هو صلّى الله عليه وسلّم مُمِدّ ذلك الرسول أو النبيّ من الغيب من حيث أنّه لا يتأتّى نبيّ ولا رسول أن ينال من الله تعالى قليلا ولا كثيرا من العلوم والمعارف والأسرار والفيوض والتجليّات والمواهب والمنح والأنوار والأحوال إلاّ بواسطة الاستمداد منه صلّى الله عليه وسلّم ، وهو المُمِدّ لجميعها في عالم الغيب فكيف يمدّهم بما هُمْ علماء به وهو جاهلٌ به صلّى الله عليه وسلّم . و لم يزل يركض في هذا الميدان ركضا لا تماثله فيه الأرواح ولا تشمّ لمقامه الأعظم فيه رائحة . وهو فيما قبل وجوده صلّى الله عليه وسلّم كحالة علمه بعد رسالته في الفيض والمَدَدِ على جميع الأنوار وإنّما حجب الله عنه هذه الأمور - أعني عن عِلْمِهِ صلّى الله عليه وسلّم بعد وجود جسده الشريف وقبل نبوته - وهي مكنوزة في حقيقته المحمّديّة لسرٍّ عَلِمَهُ الله ، فالاحتجاب لا يطلع عليه غيره . وسرّ ذلك سدل الحجاب على النبي صلّى الله عليه وسلّم إذْ لو كشف الله له قبل النبوّة ما أدرجه في حقيقته المحمّديّة وتكلّم به قبل زمن الرسالة والبعث لوقع الريب في نفس المدعوّين فيما تحدّث لهم به من الرسالة ، يقولون له إنّما كنتَ تتكلّم بهذا الأمر من أوّل أمْرك ، نقلتَه عن غيرك ، لست نبيا ، فستَرَه الله عنه كي لا ينطلق . فلمّا كان زمن النبوّة رفع الله الحجاب عنه وما أرى الله الناس فيه صلّى الله عليه وسلّم قبل نبوّته من كونه أميّا لا يعلم شيئا ولا يدري شيئا ولا وقعتْ له مخالطة أحد من أهل الكتب أو القرب منه ليكون إذا كلّمهم بما كلّمهم به من أحوال الرسالة والنبوّة يعلمون أنّ ذلك حقّ لكونه صدر من أمِيٍّ لا يعلم شيئا ولم يكن ذلك إلاّ نبوّة . فهذا سرّ الاحتجاب ، وشاهد هذا قوله سبحانه وتعالى :وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ .
    وأمّا قوله تعالى :وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ الآية الجواب : أنّه صلّى الله عليه وسلّم عند العلم القطعيّ بأنّه عروس المملكة الإلهيّة ، وأنّه ليس في جميع الخليقة أكرم منه على الله تعالى ولا أحبّ عليه منه ولا أعزّ ولا أكبر حظوة عند الله منه ، وأنّه مأمون العاقبة في الآخرة لا يلحقه لا ألم ولا عذاب ، وأنّه في الدرجة التالية من النعيم الدائم المقيم ورضا الله الأبديّ السرمديّ ، كلّ هذا لا يداخله فيه ريب ولا شكّ . وما ذكر صلّى الله عليه وسلّم مِن قوله :وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ يحتمل أنّه أراد تفصيل ما يقع به من النعيم وتفصيل العطايا والمنح الواردة عليه من الله تعالى ، فإنّه إنْ عَلِمَهُ بجملتها يمكن أن لا يحيط بتفصيلها على دوام الأبد في الجنّة فإنّ في علم الله ما لا تسعه العقول . وإنْ قلنا أنّه صلّى الله عليه وسلّم محيط علما بجميع هذا فيقع له في باله أن يكون عند الله ما لا يعلمه من العطايا والمنح التي يصبّها عليه في دار النعيم ولا يعلمها إلاّ عند وجودها ، فهذا غير مستبعد . ويحتمل أنْ يكون أراد بقوله :وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ فإنّه رَدَّ الأمر إلى إحاطة العلم الأزليّ الإلهي ، فإنّ عِلْمَ الله في هذا الميدان لا يحيط به محيط لا نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم ولا غيره ، يشهد لذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: « ولا أعلم إلا ما علمني الله » ، وقوله ، حاكيا عن نفسه ممّا ذَكَرَ الله عنه في الآية : قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ فيحتمل أنّه ردَّ الأمر إلى حقيقة العلم الأزليّ لأنّه لا يحاط به وإنْ كان عالما بما ذُكِرَ أوّلا . وأمّا أنْ يُتَوَهَّمَ من هذا الخبر أنّه لا يعلم هل يرحمه الله أو يعذّبه أو يقرّبه أو يطرده في الدار الآخرة فهذا لا تقبله الحقيقة ، يدلّ عليه قوله سبحانه وتعالى :وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى وقوله : وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ومُحالٌ أن يكون هذا الأمر منه سبحانه وتعالى وهو يتخوّف عليه العذاب ، فإنّ وَعْدَهُ لا يُخْلَفُ .
    أمّا الخبر الوارد عن عائشة - إن صحّ - وهو قولها : « منْ ظنّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يعلم ما في غد فقد كفر » ، أو ما هذا معناه فلا يتأتّى هذا أَنْ سَمِعَتْهُ من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلاّ أنْ يكون كَتَمَ الأمر عنها لِسِرٍّ ظهر له في ذلك الوقت لا يمكن كشْفه لها كما كتم عنها رؤيته للذات العليّة بعيْنيّ رأسه وهو واقع له صلّى الله عليه وسلّم بالإجماع ، فيكون كتْمُه له عنها لسرّ ظهر له في ذلك الوقت . والأخبار والآثار وكتُب الحديث كلّها مشحونة بإخباراته بالغيوب التي تأتي من بعده ، المتقاربة و المتباعدة ، حتّى قال بعض الصحابة رضي الله تعالى عنه : « ما ترك صلّى الله عليه وسلّم أميرا يكون في أمّته من بعده إلاّ ذكره إلى قيام الساعة » ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم : « ما من شيء لم أكن أريته إلا رأيته في مقامي هذا حتى الجنّة والنار » الحديث ، والأخبار كثيرة متواترة حتّى لا يكاد أن يرتاب فيها أحد من المسلمين ، والسلام .
    ويبقى اعتراض على ما ذكرنا ، وهو أنْ يُقال إن صحّ ما ذكرتم وكان هذا السرّ هو المانع من ظهور ما في حقيقته المحمّديّة قبل النبوّة فَلِمَ لا يكون رسولا ولا نبيّا من أوّل نشأته حتّى لا يحتجب عنه ما في حقيقته المحمّديّة كما كان حال الغيب قبل وجود جسده الكريم ؟ فالجواب عن هذا الاعتراض : إنّ مَنْعَ الله له من الرسالة والنبوّة قبل بلوغه أربعين سنة أنّ النبوّة والرسالة لا تكون إلاّ عن تجلٍّ إلهيّ لو وُضِعَ أقلّ قليل منه على جميع ما في كورة العالم كلّه لذابت كلّها لِثِقَلِ أعبائه وسطوة سلطانه فلا تقدر الأنبياء على تحمّل أعبائه والثبوت لسطوة سلطانه إلاّ بعد بلوغهم أربعين سنة ، وأمّا قبل بلوغ الأربعين سنة فلا قدرة لأحد على تحمّل أعباء ذلك التجلّي لِمَا فُطِرت عليه البشريّة من شدّة الضعف ، حتّى إذا بلغ الإنسان أربعين سنة وكان في علم الله تعالى نبيّا أو رسولا أفاض على روحه من قوّته ألإلهيّة ما يقدر به على تحمّل أعباء ذلك التجلّي ، فلهذا السرّ لم يتنبّأ أحد إلاّ بعد أربعين سنة ، وهذا هو المانع له من النبوّة قبل ذلك صلّى الله عليه وسلّم ولغيره من النبيّين .
    وأمّا سيّدنا عيسى عليه الصلاة والسلام كونه نبيّا قبل الأربعين فالجواب : لم يكن بشريّا محضا إنّما كان نصفين نصف بشريّ ونصف روحاني إذ نشأ من نفخة الروح الأمين في فرج أمّه فقوي فيه ضعف البشريّة وزاد بذلك قوّة على النبيّين ، فلذلك بُعِثَ قبل الأربعين للقوّة التي أُعطيها من نفْخ الروح الأمين في فرج أمّه .
    فإن قلت : يلزم من هذا أن يكون أقوى منه صلّى الله عليه وسلّم ؟
    فالجواب : أنّه لم يكن أقوى منه صلّى الله عليه وسلّم ، ولكن لمّا كان صلّى الله عليه وسلّم كامل البشريّة من جهة أبيه وأمّه كان فيه ضعف البشر وأعطى فيه القوّة الإلهيّة المُودعة فيه التي تزيد على قوّة عيسى وغيره ، والسلام .
    فإن قيل : لا يصحّ ما ذكرتم ولا يتصوّر أن تكون العلوم والمعارف والأسرار مودعة في حقيقته المحمّديّة وهي محتجبة لا يعلمها ؟
    فالجواب : إنّ هذا الذي قدّمناه واقع في الإدراك والحسّ لا يحتاج إلى التصوّر ، وشاهدُ ذلك أن الروح الإنسانيّ المدبّر للجسم كان قبل التركيب في الجسم مخلوقا من صفاء صفوة النور الإلهيّ وأوْدَعَ فيه سبحانه وتعالى من أسراره وعلومه ومعارفه ما لا تُدْرَكُ له غاية ولا يوقف له على حدّ ولا نهاية ، وكانت الروح في ذلك الوقت تامّة المعرفة بالله تعالى كاملة الصفاء والتمكين من مطالعة الحضرة الإلهيّة تامّة العلم بما تشتمل عليه الحضرة الإلهيّة من العلوم والمعارف غير جاهلة بشيء منها ، وليس الأرواح في هذا الميدان على منهاج واحد ولا نهايتها في ذلك إلى غاية واحدة ، بل علوم الحضرة الإلهيّة ومعارفها مقسومة على الأرواح بحسب ما فصّلتْه المشيئة الإلهيّة بالفيض للأرواح من تلك الحضرة جَاري على ما سبق من القسمة في المشيئة الإلهيّة فمقلّل ومكثر . ثمّ لمّا تركّبتْ في قارورة الجسم وتلطّختْ بأدرانه وانعكست نسبتها التي هي غاية الصفاء والضوء إلى نسبة الجسم الذي هو في غاية الظلام والكثافة احتجبتْ عنها تلك العلوم والمعارف التي كانت فيها قبل تركيبها في الجسم واستمدّ لها هذا الحجاب من نشأة الجسم دائما ، فإذا أراد الله بالعبد الوصول إلى صفاء المعرفة ثمّ وَصْلَهَا رفع الحجاب بينه وبين ما كان مُودَعًا في حقيقةِ روحه من العلوم والمعارف فعرفَ الأمور على حقيقتها ، ولم تكن تنزّلت فيه بعد المعرفة وإنّما كانت مخزونة في حقيقته ثمّ رفع له الحجاب عنها ، فإذا رفع له الحجاب عنها عرف ما كان في حقيقة روحه من العلوم والمعارف ، وعرف ما يفاض عليه من الحضرة الإلهيّة بعد المعرفة ممّا لم يكن في روحه قبل ، وأدرك الفرق بين الأمرين ، وهذا يعلمه جميع العارفين .
    والدليل الثاني على ذلك أيضا : أنّ الإنسان هو عين روحه وماهيته لا غير ، وإنّما هذا الجسد الظاهر لروحه كالثوب الملبوس ، فليس الإنسان إلاّ الروح ، ثمّ هو الآن في حجاب عن درك حقيقة روحه ، لا يعلمها ولا يدركها وهي عينه ، فإذا أراد الله له بلوغ المعرفة وصفاءها رفع له الحجاب عن حقيقة روحه فأدرك حقيقتها إدراكا ذوقيّا وكشفا عينيّا يقينيا وأدرك ما أودع فيها من العلوم والأسرار ، فهي الآن محتجبة عنه وهي عينها ، فهذا أعظم شاهد على ما قلناه في حقّه صلّى الله عليه وسلّم .
    ثمّ قال الشيخ رضي الله عنه : الألوهيّة المشهودة لغير الله تعالى قسمان : قسْمٌ متعلّقه الألوهيّة محضا لا تعلّق فيه للخلق ، وقسْمٌ من الألوهيّة متعلّقه الخلق تُعْرَف تلك المعاني الإلهيّة بالخلق وتُعْرَف المخلوقات بتلك المعاني الإلهيّة ، ولا بدّ لكلّ كامل من شهود الأمرين. ومِنْ أعظم الشواهد على ما ذُكِرَ فيه صلّى الله عليه وسلّم قبل النبوّة مِن كوْن علوم النبوّة والرسالة والكتب والإيمان موجودة مُغطّاة عليه بحجاب كحالة النائم في نومه فإنّ علومه التي كان يعلمها في اليقظة مغطّاة عليه في وقت النوم حتّى إذا استيقظ وزال عنه حجاب النوم تعقّلها ووجدها لم تزل في ذاته ، فهذا حاله صلّى الله عليه وسلّم مِن خَلْقِهِ إلى زمن النبوّة ، والسلام . إنتهى ما أملاه علينا رضي الله عنه من حفظه ولفظه.

  4. #4
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -2-
    النص الثاني : جواهر المعاني – الجزء الأول – الباب الخامس (ص ص 194-196)
    يقول علي حرازم براده في كتابه "جواهر المعاني وبلوغ الأماني" الجزء الأول – الباب الخامس – الفصل الأول (في ذِكْر أجوبته على الآيات القرآنية على طريق أهل الإشارة الربّانية) الصفحات (ص ص 194-196) : ...ومن المزايا التي وَعَدْنَا بها في صدر الجواب ما وقع لعمر وعمّار بن ياسر رضي الله عنهما دونه صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّه قال لعمر : « ما سلكتَ فَجّاً إلاّ سلك الشيطان غيره » ، وقال لعمّار : « إنّ الله عصمه من الشيطان لا يوسوس إليه » ، ولم يكن ذلك في رتبته صلّى الله عليه وسلّم ولكنّهما مزيّتان خصّهما بهما دون نفسه صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّ هاتين المزيّتين ثابتتان في حقيقته صلّى الله عليه وسلّم ، وهو الأصل الجامع وما كان عمر وعمّار إلاّ فَرْعَيْنِ منه ، فأظهر المزيّة في فرعيْه ولم يُظهرها في أصله الجامع صلّى الله عليه وسلّم ، كمزيّة إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكونه أوّل من يُكْسَى يوم القيامة من جميع الخلق ولم تكن هذه المزيّة فيه صلّى الله عليه وسلّم ، وكمزيّة موسى عليه الصلاة والسلام في كونه ذا لحية في الجنّة دون جميع الخلق ولم تكن له صلّى الله عليه وسلّم وشفوف رتبته صلّى الله عليه وسلّم معروف ، وكحكاية آصف بن برخيا مع سيّدنا سليمان عليه الصلاة والسلام ، فإنّه طلب أن يحضر لديه عرش بلقيس فقال : أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ، فإنّها مزيّة اختصّ بها آصف وهو غير نبيّ ومُنِعَ منها سليمان عليه السلام لِعُلُوِّ مقامه . وإنْ أشكل الأمر في قضيّة آصف وسليمان عليه السلام ، حيث كان آصف تلميذه وأخذ عنه الاسم الأعظم وبقوة الاسم الأعظم فَعَلَ ما فَعَلَ ، والجواب عن هذا الإشكال : إنّ مقام سيّدنا سليمان عليه الصلاة والسلام في شفوف رتبته وعلوّ درجته لا يحتمل مثل هذه المزيّة ولا يتأتّى له التدلِّي إليها لأنّ مقام النبوّة ليس له إلاّ تلقّي ما هو في الحضرة الإلهيّة من جميع التجلّيات ، ذاتيّة أو صفاتيّة أو أسمائيّة أو فِعْلِيّة ، تلقّيه على ما هو عليه لا يخطر بباله أن يغيّر تجلّيا من التجلّيات أو يُغيِّر لأجل غَرَضِهِ وَارِدًا من الواردات البارزة من حضرة الحقّ ، بل أدَبُهُ في مقامه ثبوته لجميع التجلّيات طابقتْ غرَضَه أو خالفتْه ، ولذا لم يكن من النبيّين خروج عن دائرة الأسباب الحِكْمِيّة ميلا إلى خرق العادات لقوّة كمالهم وكمال أدبهم واستغراقهم في العلم بالله تعالى وفناء إرادتهم في إرادة الله تعالى حتّى لا تريد إلاّ ما أراد ، وهذا الوصف لهم وَصْفٌ ذاتيّ استقرّ عليه مقامهم فلا يزحزحهم عن هذا المقرّ تجلّي من التجلّيات وإن عَظُمَ لأنّهم في هذا الميدان قائمون لله بالله راكضون في هذا المجال مستغرقون في النظر إلى الله تعالى ، فَقَوَّاهُم الله بقُوَّتِه وأثبتهم بإثباته ، وتحمّلوا أعباء الحضرة الإلهيّة على غاية ثقلها وصعوبة مباينتها لأغراض النفوس ولم يبالوا بما هو دونها ، وحال الأنبياء هذا كما ذَكرْنا مِن بُعدِهم عن الميل إلى خرق العوائد فضلا عن فِعْلِها ما لم يؤدّهم إلى خرق العوائد قياما ضرورة اثبات الرسالة وإيضاح صحتها في قلوب المرسل إليهم فيفعلون ما يفعلون من خرق العوائد قياما بمؤنة تصحيح الرسالة لتوقّفها على خرق العادة الشاهد بصحّتها، وهذا الخرق هنا المسمّى في اصطلاح المسلمين بالمعجزة ، حتّى إذا فارقوا خرق العوائد ما لم يكن ذلك بأمرٍ إلهيّ فيبتدرونه وإنْ لم يكن في إثبات الرسالة كقضايا موسى عليه السلام الثلاث : وهي قوله تعالى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ الآية ، وقوله تعالى : أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ الآية ، وقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً الآية ، هذه القضايا عن أمْرٍ إلهيّ وإنْ لم تكن في إثبات المعجزة حيث لا تمكنه مخالفته . وأمّا الأولياء فما مالوا لخرق العوائد إلاّ لضعفهم عن تحمّل أعباء الحضرة الإلهيّة وعدم طاقتهم لصعوبة تجلّياتها فمالوا إلى خرق العوائد ترويحا لأرواحهم من ضغطة الوارد وإبقاء على أنفسهم بدوام التمتّع ببعض شيء من شهواتها وهم معذورون فإنّ الله عزّ وجلّ لم يمدّهم بقوّة الأنبياء ، فلذا لم يتنزّل سليمان لِفِعْلِ هذا الخرق الذي فَعَلَهُ آصف ثبوتا على مقرّ مقامه الذي ذكرناه .
    فإن قلتَ : إذا كان هذا مقامه ولا يرضى لنفسه بهذه المزيّة لكونها مغايرة لمقامه فلم تدلّى لطلب ذلك من الحاضرين ؟
    والجواب : في هذا أنّ مقامه على ما ذكرناه ولكن لمّا كان مِنّة الحقّ عليه في ملكه أن سخّر له جميع خلقه كما قال له في حقّه : يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ إلى آخر الآية ، وكان آصف مِن جملة ما هو مسخّر تحت حكمه حيث فعل له هذه المزيّة ، وإنّ الرياح مسخّرة تحت حكمه وقد كانت تحمله وجيشه وتقذفه مسيرة شهر غدوّا ومثلها رواحا ، فلما كان التسخير له بمنزلة يديه ورجليه في هذا الخلق ولم يَرْضَ التنزّل عن مقامه سخّر في ذلك من هو مسخّر تحت حُكْمه يفعل له ما يريد ، وهذه من منّة الحقّ عليه ، وقد وقع له ذلك بإذنٍ إلهيٍّ ليس من غرضه فقط وقلبه ثابت على مقامه ، والسلام .

  5. #5
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب الإرشادات الربّانيّة بالفتوحات الإلهيّة)
    -3-
    كتاب "الإرشادات الربّانيّة بالفتوحات الإلهيّة" هو شرحٌ لقصيدة الهمزية للبوصيري تلقّاه علي حرازم بن العربي براده الفاسي التجاني عن شيخه أحمد التجاني

    في الصفحة الأولى:
    كَـيْـفَ تَـرْقَــى رُقِـيَّـكَ الأَنْـبِـيَـاء ُ
    يَـا سَـمَـاءً مَـا طَـاوَلَـتْـهَـ ا سـمَـاءُ
    قوله : يا سماء ما طاولتها سماء ، تسميته صلّى الله عليه وسلم سماء لأنّه هو السقف المرفوع على جميع الوجود كما أنّ السماء فوق الأرض وتنزل منها أرزاق أهل الأرض ، وجميع الآثار التي في الأرض إنّما هي عن تأثير كواكبه بقدرة الله ومشيئته . فالسماء حينئذ أشرف من الأرض وأرفع منها . كذلك هو صلّى الله عليه وسلّم لجميع الوجود الذي به انتفاعه وبقاؤه إنّما استمداده وبقاؤه من فيض حضرته الكريمة ، وجميع آثار الوجود إنّما هو عن الأسماء الإلهيّة والأسرار الربّانيّة التي جعلها الحقّ سبحانه وتعالى في حقيقته المحمديّة مكنوزة ، كذلك آثار جميع الوجود التي تقع فيه إنّما هي ناشئة عن الأسماء الإلهيّة والأسرار الربّانيّة التي هي في حقيقته صلّى الله عليه وسلّم ، وبتلك الأسرار والأسماء يمدّ جميع الوجود .
    قوله : ما طاولتها سماء يعني ، ما طالت سماء فوقها ولا ناظرتها ، إذ لم يكن له صلّى الله عليه وسلم ثانٍ في الوجود يحيط بجميع أسراره وعلومه ومعارفه ويتمكّن من حقيقة مقامه صلّى الله عليه وسلّم .

    في الصفحة الرابعة:
    مَا سِـوَى خُـلْـقِـهِ النَّـسِـيـمُ وَلاَغَـيْـ
    ـرِ مُـحَـيَّــاهُ الـرَّوْضَــةِ الْغَـنّــاءُ
    قوله : ولا غير محيّاه الروضة الغنّاء ، المحيّا هو وجهه صلّى الله عليه وسلّم ، ما الوجود كلّه إلاّ محيّاه صلّى الله عليه وسلّم ، والمراد به أنّ جميع الموجودات على اختلاف بساطتها وتراكيبها فجملة ذاك من حقيقته المحمّديّة إذ كان للوجود كلّه صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الأب الجامع ، فالوجود كلّه تنسل من حقيقته المحمّديّة ، وامتدّ بعضه من بعض كما ترى في مثل آدم ، فما ترى في آدميّ خروج عن ذات آدم ، يعني كونه وجد من غيرها ، كذلك الوجود كلّه ما يرى فيه من شيء خلق من غير حقيقته المحمّديّة ، فهو أب لجميع الوجود ، فبهذا الاعتبار تعلم أنّه ما ثَمَّ إلاّ محيّاه ، وهو وجهه صلّى الله عليه وسلّم .

  6. #6
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -4-
    النص الرابع : جواهر المعاني – الجزء الثاني – الباب الخامس
    من الفصل الثاني: في الأحاديث النبوية وعلومه الاختصاصية المصطفوية (ص ص 30-33)
    "...وأما تنزل الحق سبحانه وتعالى فله تنزلان التنزل الأول تنزل الوجود والثاني تنزل الإمداد فأمّا التنزّل الأوّل فهو تنزّله من مظهر الأحديّة إلى مظهر صورة الألوهيّة ، فإنّه يقال في الخبر القدسيّ عنه : « كنت كنزا لم أعرف فأحببت أن أعرف فخلقت خلقا فتعرّفت إليهم فبي عرفوني » . فوجوده الأوّل سبحانه وتعالى ، الذي هو الذات الساذج ، لا مظهر فيه للغير والغيريّة لشدّة الغيرة منه سبحانه وتعالى ، وسطوة العزّة ، وصولة الجلال . فإنّه في ذلك المظهر له العلوّ الكامل وله الكبرياء والعظمة التامّان ، وله العزّ الشامل الذي لا يدرَك أمره ولا تعرف حقيقته ، ومن سعى من خلقه في أن يعرف ربّه في هذه المرتبة ضاع سعيه وخسر عمره وليس له منها إلاّ الخيبة والحرمان ، فإنّ هذه المرتبة هي مرتبة كُنْهِ الحقّ الذي لا يعلمها غيره ، وهذه المرتبة ، التي هي كنه الحقّ ، تسمّى حضرة الطمس ، والعما الذاتيّ ، والبطون الأكبر ، الذي لا مطمع لأحد في درك حقيقته . وكلّ ما فيها من الصفات العظام ، من العلوّ والكبرياء والعظمة والجلال والكرم والمجد وأشباهها من الصفة الجامعة ، فإنّ هذه الصفات كلّها صفة الذات الساذج الذي حرّم على العقول والأفكار شمّ أقلّ قليل منها فضلا عن ذوقها . وفي هذه المرتبة يقال : " لا يعلم كيف هو إلاّ هو " ، وكلّ صفة من الصفات المذكورة للذات الساذج من فوق ما يعقل ويدرك ويفهم ، ولو برز للوجود منها أقلّ من مثقال هبأة لاحترق الوجود كلّه وصار محض العدم ، فلا يطيق مخلوق العلم به في هذه المرتبة . ثمّ تنزّل سبحانه وتعالى من حضرة علوّه إلى حضرة تعاليه ، ومن حضرة كبريائه إلى حضرة تكبّره ، حيث يدرك الخلق العلم به لأنّ التكبّر والتعالي وصفان قديمان قائمان يُدرَك العلم بهما بوجود الخلق وإنْ كانا وصفين للذات ، لكنّه أظهر ما يتكبّر عليه من خلقه ، ويتعالى عنه من أوصاف خلقه ، وهذه المرتبة هي التي اقتضت منه وجود الخلق . ولا يقال إنّ هذا التنزّل حادث ، بل كان قديما وصفا من أوصاف الذات ، إلاّ أنّ وجود الخلق في هذه المرتبة التي تنزّل الحقّ إليها هو أمر اقتضاه كمال الذات العليّة ، فإنّ وصف التكبّر والتعالي وصفان من كمالات الذات العليّة. فكما اقتضت الذات في مرتبة الكنه ، التي فرغنا منها ، عدم وجود الغير والغيريّة لعظم العزّ وعظمة العلوّ ، كذلك الذات في هذه المرتبة اقتضت وجود الخلق لأنّ وجود الخلق في هذه المرتبة هو كمالات الذات ، إذ لولا وجود الخلق ما عرف تكبّره ولا تعاليه لعدم وجود من يتعالى عنه ولا من يتكبّر عليه ، فالمرتبة الأولى هي مرتبة البطون الأكبر للحقّ ، والمرتبة الثانية ، التي هي حضرة التعالي والتكبّر ، هي حضرة ظهور الحقّ لغيره ، وهي المقتضيات لوجود الخلق . فهذه مرتبة تنزّل وجود الخلق ، وإليها يشير قوله : « فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فتعرّفت إليهم فبي عرفوني » فهذه مرتبة التنزّل إلى وجود الخلق ، والمرتبة الأولى التي لا وجود للغير والغيريّة فيها هي قوله : « كنت كنزا لم أعرف » ، يعني لا يعرفني غيري إذ لا غيريّة هنالك . وهذا التنزّل اقتضى وجود الخلق عموما وخصوصا ، وجملة وتفصيلا ، من أوّل وجود العالم إلى الأبد ، وهي مرتبة وجود الذوات ، أيّ ذوات الموجودات ، شقيّها وسعيدها ومرحومها ومعذّبها .
    والتنزّل الثاني هو تنزّله بفيض الرحمة الإلهيّة المسمّاة بـ"النفس الرحمانيّ " ، وهي التي اقتضت ملائمة أغراض الخلق عن كلّ ما يطابق أغراضهم من الشهوات والملذوذات والمسرّات مطلقا ، هذا هو التنزّل بالرحمة التي عمّت كلّ شيء في الوجود إلا مرحوم كافره ومؤمنه .
    وهذا التنزّل الثاني والتنزّل الأوّل كلاهما مجموعان في الحقيقة المحمّديّة ، فإنّها أوّل موجود أنشأه الله من حضرة العما الربانيّ ، وأوجدها سبحانه وتعالى مشتملة على جميع ذوات الوجود من الأزل إلى الأبد ، والوجود كلّه متنسّل منها ، كما أنّ آدم عليه الصلاة والسلام وجوده مشتمل على وجود ذرّيته إلى قيام الساعة ، فما في الوجود آدميّ خارج عنه ، كذلك ما في الوجود ذرّة موجودة من الأزل إلى الأبد خارجة عن الحقيقة المحمّديّة ، إذ هو الأب الأوّل للوجود كلّه ، فهذا هو التنزّل الأوّل ، وهو تنزّل وجود الذوات . وكان التنزّل الثاني ، الذي هو فيض الرحمة الإلهيّة ، الذي اقتضاه النفس الرحمانيّ مجموع أيضا كلّه في الحقيقة المحمّديّة ، فما في الوجود رحمة تصعد أو تنزل ممّا عمّ أو خصّ إلاّ وهي نقطة من فيض بحر الحقيقة المحمّديّة ، فكما أنّه صلّى الله عليه وسلّم هو السبب في إيجاد الخلق ، كذلك هو السبب في إمدادهم بالرحمة الإلهيّة . فيشار للتنزّل الأوّل ، الذي هو وجود الذوات ، بقوله سبحانه وتعالى : قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ، فهو أوّل موجود عَبَدَ الله لكونه لم يتقدّمه أحد في الوجود . ويشار للتنزّل الثاني ، الذي هو النفس الرحماني ، بقوله سبحانه وتعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، إنتهى .
    وأمّا مرتبة الأحديّة فهي مرتبة كنه الحقّ ، وهي الذات الساذج الذي لا مطمع لأحد في نيل الوصول إليها ، وتسمّى حضرة الطمس والعما الذاتيّ المرموزة في قوله صلّى الله عليه وسلّم حيث سأله السائل بقوله : « أين كان ربّنا قبل أن يخلق السموات والأرض فقال صلّى الله عليه وسلّم كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء » ، وهذا العماء هو غاية بطون الحقّ حيث لا عثور لأحد على حقيقته ، وإليها يشار بقوله سبحانه وتعالى : وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ، وهي مرتبة بطون الحقّ ، وهو البطون الأكبر .
    وأمّا حضرة التعالي وحضرة التكبّر فهو مرتبة ظهور الحقّ لغيره . وإذا سألت عن حقيقة الأحديّة فهي مرتبة ظهور الحقّ بمرتبة تفريده في الوجود حيث لا وجود لشيء معه . والفرق بين الأحديّة والذات الساذج ، أنّ الذات الساذج لا امتياز فيها لأحديّة ولا كثرة ، إذ طمست النسب كلّها فيها ، فليس فيها اختصاص نسبة على نسبة ، وهي غاية البطون ، وهي العماء كما قدّمناه . والأحديّة تماثلها في الذات الساذج ، إلاّ أنّ فيها ظهور الحقّ سبحانه وتعالى . وأمّا الوحدة فهو تجلّيه بكمال ذاته في الحقيقة المحمّديّة ، وهي ذات ساذج أيضا تجلّى فيها في الحقيقة المحمّديّة ، فهي تجلّيه بذاته عن ذاته لغيره في غيره ، فهذه هي مرتبة الوحدة . وأمّا الواحديّة ، فهو تجلّيه بكمال صفاته وأسمائه في مظهريّة ذاته ، وهـو المعبّر عنه بحضرة اللاّهوت ، وهذه هي الحقيقة الآدميّة ، والفرق بين المراتب الأربع ، أنّ الذات الساذج هو تجلّيه بذاته في ذاته لذاته مع عروّ النسب ، فلا أحديّة ولا كثرة ولا وصف ، وله اسم عريّة عن النسب والإضافات ، وأمّا الأحديّة فهو تجلّيه بذاته في ذاته لذاته عن ذاته مع ظهور نسبة الأحديّة ، ومحو جميع النسب من الأسماء والصفات والكثرة والغيريّة ، فالأولى مرتبة بطون الحقّ ، وهذه مرتبة ظهور الحقّ . وأمّا الوحدة ، فهو تجلّيه بذاته عن ذاته في الحقيقة المحمّديّة ، والحقيقة المحمّديّة هي الرائية له في ذاتها ، فهو تجلّيه لغيره في غيره . وأمّا الواحديّة فهو تجلّيه بأسمائه وصفاته في غيره لغيره ، وهي الحقيقة الآدميّة . فهذا هو الفرق بين المراتب الأربعة . والله الموفّق . " اهـ

  7. #7
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -5-
    النص الخامس : جواهر المعاني – الجزء الثاني – الباب الخامس
    من الفصل الثاني: في الأحاديث النبوية وعلومه الاختصاصية المصطفوية (ص ص 36-38)
    يقول علي حرازم براده: "وسألته رضي الله عنه عن قوله صلّى الله عليه وسلّم : « حجابه النور ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه ».
    فأجاب رضي الله عنه (يعني شيخه أحمد التجاني) بقوله : معنى هذا أنّ الموجودات لو نظرت إلى الله عزّ وجلّ بلا حجاب وأدركته أبصارها لأحرقت سبحات وجهه سبحانه وتعالى جميع الموجودات التي أدركته أبصارها بلا حجاب ، ولرجعت في أسرع من طرفة عين إلى عدميّتها الأولى . وقوله: " ما " صادقةٌ على جميع الموجودات ، والضمير الأخير في أدركه يعود على الله تعالى ، وفاعل أدرك هو بصره ، والضمير في بصره هو المفسر بقوله " من خلقه " . إنتهى قوله . وحجابه النور ، فَهُمَا نوران حاجبان للخلق عن النظر للحقّ ، الحجاب الأوّل هو الحقيقة المحمّديّة ، فإنّها هي البرزخ الأكبر بين الله وبين خلقه ، والحجاب الثاني رداء الكبرياء على وجهه سبحانه وتعالى ، فلا سبيل إلى انحراقه . وقول الشيخ مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه : " وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك " ، أراد به الحقيقة المحمّديّة ، فإنّ حجابيّته صلّى الله عليه وسلّم وضعت لتمام الإفادة لا للمنع من الإفادة ، فإنّه لولا الحجاب لم يقدر الخلق أن يباشروا ربّهم بالإفادة منه ، بنفس وقوع أبصارهم على سبحات وجهه تحترق الموجود ، فلا وجود أصلا فضلا عن الإفادة ، فإنّ الإفادة من وراء الوجود ، فنصب حجابا بين يدي الله عزّ وجلّ ليستفيد الخلق بسبب وجود مادّة وجودهم وإبقاء وجودهم ومادة الإفادة من الله تعالى ، إذ جميع الإفادة من الله مطلقا يتلقّاها الحجاب الأعظم من الله لكونه قوّاه بقوّته ، ثمّ يفيضها هو على جميع الوجود ، ولولا هو ما استفاد أحد من الله شيئا ، فهذا معنى " الحجابيّة نصبت للإفادة " . يقول صلى الله عليه وسلم: « إنّما أنا قاسم والله معطٍ » ، يشير صلّى الله عليه وسلّم إلى أنّ الاقطاعات الإلهيّة للقوابل الأصليّة كانت مقسومة بحكم المشيئة الربّانيّة ، ليس لغير الله فيها مدخل ، ثمّ جعله سبحانه وتعالى ، أعني نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ، قائما له في توصيل تلك القسم المفصّلة بحكم المشيئة التي قلنا ، هي الاقطاعات الإلهيّة إلى أربابها ، وهي القوابل الأصليّة ، فليس يعطي صلّى الله عليه وسلّم لشيء من الوجود أمرا من الأمور إلاّ ما أعطاه الاقطاع الالهيّ . فبان لك أنّ بروز العطاء من الحقّ جملة وتفصيلا لمن أريد له ذلك ، وتفصيله على أربابه في مرتبة حقيقته المحمّديّة صلّى الله عليه وسلّم يعطيه لأربابه بحسب النسب . فهذا معنى الحديث « إنّما أنا قاسم والله مُعْطٍ » ، الحجابيّة الأولى للحقّ : حجاب الكبرياء ، ولا سبيل إلى انحراقه ، والحجاب الثاني للحقّ : حجاب الحقيقة المحمّديّة بين الله وبين الوجود ، والحقيقة المحمّديّة دونها حجب الأنوار ، فلا مطمع لأحد أن يصل إلى الحقيقة المحمّديّة بتخطّي حجب الأنوار التي دونها ، وإنّما تجلّيات الحقّ كلّها من وراء حجاب الكبرياء ومن وراء حجاب الحقيقة المحمّديّة ومن وراء الحجب التي دونها . وأمّا الوصول إلى الله تعالى من باب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بكونه بابا في الوصل إلى الله تعالى ، ولا مطمع لأحد في الوصول إلى الله بدونه ، فإنّما معنى ذلك بمتابعة شرعه واقتفاء سبيله والتخلّق بأخلاقه والتأدّب بآدابه ، مع إخلاص الوجهة في ذلك كلّه إلى الله تعالى ، فبهذا المقدار يصل العبد إلى الله تعالى ، وبغير هذا المقدار لا سبيل للوصول إلى الله تعالى ، فالواصل إلى الله تعالى إذا كان يريد أن ينزاح عنه الحجاب مطلقا ويصل إلى الله محضا بلا حجاب ، أو يتخطّي الحجاب إلى ما رواءه ، فهذا أمر لا سبيل إليه ولا مطمع لأحد في دركه . إنتهى من إملائه علينا رضي الله عنه.

  8. #8
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -6-
    النص السادس: جواهر المعاني – الجزء الثاني – الباب الخامس – الفصل الثالث في إشاراته العلويّة وحلّ مشكلاتها بعبارات وهبيّة (ص ص 107-109)
    يقول علي حرازم براده: "وسألته رضي الله عنه (يعني شيخه أحمد التجاني) بما نصّه : سيّدنا أدام الله علوّك وارتقاءك ، بيّن لنا حقيقة الكشف الصحيح إذا خالف النصّ الصريح ، ماذا يقدّم ؟
    فأجاب رضي الله عنه بما نصّه ، قال : إعلم أنّ النصّ الصريح والكشف الصحيح من أربابه لا يختلف ، لا مادّة ولا نهاية ، فكلاهما واحد من عين واحدة ، لأنّ النصّ الصريح من ذات سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم برز ، سواء كان حديثا أو قرآنا ، والكشف الصحيح لأربابه عن فيض حقيقته المحمّديّة فاض ، وكلاهما إنّما كان صلّى الله عليه وسلّم فيهما واسطة ، وهما من عند الله منشأ ، فلذا قلنا لا يختلفان ، فإنّ الكشف الصحيح لا يدلّ إلاّ على ما دلّ عليه النصّ الصريح بتصريح أو تلويح أو تضمين ، فإنّ المكاشف في بعض أحواله إذا توجّه مطالعا لحكم في عين المسألة التي يريدها ، إن رآها نورا أو اكتست نورا أو أحاط بها النور دلّ على أنّها مطلوبة شرعا ، إمّا وجوبا أو ندبا ، وإن رأى المسألة ظلمة أو كستها ظلمة أو أحاطت بها ظلمة دلّ على أنّها مطلوب ترْكها شرعا أو تحريما أو كراهة ، وإن رآها في كشفه لم يقع عليها لا نورا ولا ظلمة دلّ على أنّها مباحة لا يطلب فعْلها و لا ترْكها لذاتها . وقد ينقل حكم المباح إلى الوجوب والتحريم لعارض في الوقت إذا كان يؤدّي ارتكابه إلى محرّم ، أو كان يتوقّف على تحصيل واجب أو مندوب ، وإلاّ بقي في حيّز الإباحة ، وإن أفتاك المفتون في المسألة فاستفت فيها قلبك ، ولا يكون هذا إلاّ للعارف الكامل فقط ، فإنّه صاحب الكشف الصحيح لبعد نفسه عنه ، فإنْ حِيلَ بينه وبين نفسه بأنوار القدس ، فكلّ ما يتوجّه له في أموره هو من الله تعالى ، لكن في أمور دينه لا في أمور دنياه ، فإنّ أمور دنياه هو فيها كسائر الخلق . وقد حكى الشاذليّ رضي الله عنه ، قال : كنت كثيرا أبحث عن كلام القوم حتّى قال له الحقّ في بعض وقائعه ، ناهيا له عمّا يبحث عنه من كلام القوم ، قال له : تعريفي لك يغنيك على علم الأوّلين والآخرين ما عدا علم النبيّين والمرسلين . إنتهى . فإنّه هو الأصل المرجوع إليه لا واسطة بين الله وبين العباد إلاّ النبوة ، ومن رام الخروج عنها ، أعني النبوّة ، طالبا للأخذ عن الله من غيرها ، كفر وخسر الدنيا والآخرة . وما ذُكِرَ من أنّ العقل يأخذ العلم عن الله بلا واسطة فإنّه مِنْ نَفْيِ الواسطة المشهودة ، لا يشهد واسطة بينه وبين الحقّ أصلا ، لكنها موجودة في نفسها غير مشهودة له ، وهي الحقيقة المحمّديّة ، فإنّه لا مطمع لأحد في درك حقيقتها فضلا عن مشاهدتها ، فإنّها أخفى من السرّ الخفيّ ، فإنّه يرى نفسه يأخذ العلم عن الله بلا واسطة ، وما برز له ذلك العلم إلاّ من الحقيقة المحمّديّة من حيث لا يراها وإن رآه من الحقّ ، فإنّه مغطّى عليه بحجاب التلبيس ، فهذا معنى أخْذ العلم عن الله بلا واسطة . وأمّا أن يتوهّم أنّ العقل ، أو غيره ، يأخذ العلم عن الله تعالى من غير واسطة الحقيقة المحمّديّة مجرّدا عنها فهذا لا سبيل إليه ، وهذا الوهم أمر باطل ، وإنّما نفي الواسطة في حقّه نفيا شهوديّا لا نفيا وجوديّا ، فإنّه في وقت الأخذ عن الله ينمحق الأخذ محقا كلّيّا ، فلا يبقى له شعور بنفسه فضلا عن غيره من الوجود ، فيسمع ما يسمع في تلك الحضرة من الإلقاءات وما ثَمَّ إلاّ الحقّ المتكلّم والآخذ لا غير . وقد قلنا في بعض الأجوبة أنّه يتدلّى للعارف سرّ من أسرار الحضرة القدسيّة يأخذه عن نفسه ويغطّي عنه وجوده مع جميع الوجود ، ويريه ذاته عينيّة الحقّ ، فيكون ناطقا لا بلسانه ، سامعا ورائيا لا ببنيته ، مدركا لا بجنانه ، بل هو بالحقّ للحقّ في الحقّ عن الحقّ ، إدراكا وإحساسا ، وشهودا وتلقيّا ، ولا قدرة للعبد إذا صادمه هذا السرّ عن الخروج عن دائرة حيطته ، فإنّ هذا السر إذا ورد على العبد قاهر بقوّة سلطانه ، غالب بسطوة جلاله ، لا قدرة لأحد أن يخرج عنه إلاّ إذا سرى منه ، والواسطة للحقيقة المحمّديّة في هذا موجودة غير مشهودة ولا معقولة ولا محسوسة .انتهى " اهـ

  9. #9
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -7-
    النص السابع : جواهر المعاني – الجزء الثاني – الباب الخامس – الفصل الثالث في إشاراته العلويّة وحلّ مشكلاتها بعبارات وهبيّة (ص ص 134-135)
    يقول علي حرازم نقلا عن شيخه أحمد التجاني: "(ومن كلامه رضي الله عنه) قال : أوّل موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب هو روح سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ، ثمّ نَسَلَ الله أرواح العالم من روحه صلّى الله عليه وسلّم ، والروح ههنا هي الكيفيّة التي بها مادة الحياة في الأجسام ، وخلق من روحه صلّى الله عليه وسلّم الأجسام النورانيّة كالملائكة ومن ضاهاهم ، وأمّا الأجسام الكثيفة الظلمانيةّ فإنّما خلقت من النسبة الثانية من روحه صلّى الله عليه وسلّم ، فإنّ لروحه صلّى الله عليه وسلّم نسبتين أفاضهما على الوجود كلّه ، فالنسبة الأولى نسبة النور المحض ، ومنه خلقت الأرواح كلّها والأجسام النورانيّة التي لا ظلمة فيها ، والنسبة الثانية من نسبة روحه صلّى الله عليه وسلّم نسبة الظلام ، ومن هذه النسبة خلق الأجسام الظلمانيّة كالشياطين وسائر الأجسام الكثيفة والجحيم ودركاتها ، كما أنّ الجنّة وجميع درجاتها خلقت من النسبة النورانيّة ، فهذه نسبة العالم كلّه إلى روحه صلّى الله عليه وسلّم .أمّا حقيقته المحمّديّة صلّى الله عليه وسلّم فهو أوّل موجود أوجده الله تعالى من حضرة الغيب ، وليس عند الله من خلقه موجود قبلها ، لكن هذه الحقيقة لا تعرف بشيء . وقد تعسّف بعض العلماء بالبحث في هذه الحقيقة ، قال : إنّ هذه الحقيقة مفردة ليس معها شيء ، فلا تخلو إمّا أنْ تكون جوهرا أو عرضا . فإنّها إنْ كانت جوهرا افتقرتْ إلى المكان الذي تحلّ فيه فلا تستقلّ بالوجود دونه ، فإن وجدت مع مكانها دفعة واحدة فلا أوّليّة لها لأنّهما اثنان ، وإنْ كانت عرضا ليست بجوهر فالعرض لا كلام عليه ، إذ لا وجود للعرض إلاّ قدْر لمحة العين ثمّ يزول . أين الأوّليّة التي قلتم ؟ والجواب عن هذا المحطّ : أنّها جوهر حقيقة له نسبتان ، نورانية وظلمانية . وكونه مفتقرا إلى المحلّ لا يصحّ هذا التحديد لأنّ هذا التحديد يعتدّ به من تثبّط عقله في مقام الأجسام ، والتحقيق أنّ الله تعالى قادر على أن يخلق هذه المخلوقات في غير محلّ تحلّ فيه ، وكون العقل يقدّر استحالة هذا الأمر بعدم الإمكان بوجود الأجسام بلا محلّ فإنّ تلك عادة أجراها الله تثبّطَ بها العقلُ ولم يطلق سراحه في فضاء الحقائق ، ولو أطلق سراحه في فضاء الحقائق لَعَلِمَ أنّ الله قادر على خلق العالم في غير المحلّ . وحيث كان الأمر كذالك ، فالله تعالى خلق الحقيقة المحمّديّة جوهرا غير مفتقر إلى المحلّ ، فلا شكّ أنّ من كشف له عن الحقيقة الإلهيّة علم يقينا قطعيّا أنّ إيجاد العالم في غير محلّ ممكن إمكانا صحيحا . أمّا الحقيقة المحمّديّة فهي في هذه المرتبة لا تعرف ولا تدرك ولا مطمع لأحد في نيلها في هذا الميدان . ثمّ استّترتْ بألباس من الأنوار الإلهيّة واحتجبت بها عن الوجود ، فهي في هذا الميدان تسمّى روحا بعد احتجابها بالألباس ، وهذا غاية إدراك النبيّين والمرسلين والأقطاب ، يَصِلُونَ هذا المحلّ ويقفون . ثمّ استترت بألباس من الأنوار أخرى وبها سُمِّيَتْ عقلا . ثمّ استترت بألباس من الأنوار الإلهيّة أخرى فسمّيت بسببها قلبا . ثمّ استترت بألباس من الأنوار الإلهيّة أخرى فسمّيت بسببها نفسا . ومن بعد هذا ظهر جسده الشريف صلّى الله عليه وسلّم . فالأولياء مختلفون في الإدراك لهذه المراتب . فطائفة غاية إدراكهم نفسه صلّى الله عليه وسلّم ، ولهم في ذلك علوم وأسرار ومعارف . وطائفة فوقهم غاية إدراكهم قلبه صلّى الله عليه وسلّم ، ولهم في ذلك علوم وأسرار ومعارف أخرى . وطائفة فوقهم غاية إدراكهم عقله صلّى الله عليه وسلّم ، ولهم بحسب ذلك علوم وأسرار ومعارف أخرى . وطائفة ، وَهُمْ الأعلون ، بلغوا الغاية القصوى في الإدراك فأدركوا مقام روحه صلّى الله عليه وسلّم ، وهو غاية ما يُدرَك ، ولا مطمع لأحد في درك الحقيقة في ماهيّتها التي خلقت فيها . وفي هذا يقول أبو يزيد : " غصت لجّة المعارف طلبا للوقوف على عين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فإذا بيني وبينها ألف حجاب من نور ، لو دنوتُ من الحجاب الأوّل لاحترقتُ به كما تحترق الشعرة إذا ألقيتْ في النار " . وكذا قال الشيخ مولانا عبد السلام في صلاته : " وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه مِنَّا سابق ولا لاحق " . وفي هذا يقول أويس القرني لسيّدنا عليّ وسيّدنا عمر رضي الله عنهما : لم تريا من رسول الله صلّى عليه وسلّم إلاّ ظِلَّه ، قالا : ولا ابن أبي قحافة ؟ قال : ولا ابن أبي قحافة . فلعلّه غاص لجّة المعارف طلبا للوقف على عين الحقيقة المحمّديّة فقيل له : هذا أمر عجز عنه أكابر الرسل والنبيّين فلا مطمع لغيرهم فيه . إنتهى" اهـ .

  10. #10
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -8-
    النص الثامن : جواهر المعاني – الجزء الثاني – الباب السادس - المقصد : في الصلوات التي وردت فيه من فيض فضله الشريف صلّى الله عليه وسلّم ـ الصفحة (ص ص 215- وما يليها)
    المقصد : في الصلوات التي وردت فيه من فيض فضله الشريف صلّى الله عليه وسلّم ـ
    قال علي حرازم براده: "فأقول ، وبه أستعين ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بعليّ جنابه : أوّل ما نبدأ به ذكر الصلوات التي أملاها مولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من فيضه الشريف يقظة على شيخنا أبي العباس ، ثمّ نتبعها بشروحها لشيخنا رضي الله عنه .
    الأولى سمّاها شيخنا رضي الله عنه ( ياقوتة الحقائق في التعريف بحقيقة سيّد الخلائق ) ، ونصّها : الله الله الله اللهمّ أنت الله الذي لا إله إلاّ أنت العالي في عظمة انفراد حضرة أحديّتك التي شئت فيها بوجود شؤونك وأنشأت من نورك الكامل نشأة الحقّ وأنطتها وجعلتها صورة كاملة تامّة تجد منها بسبب وجودها من انفراد أحديّتك قبل نشر أشباحها وجعلت منها فيها بسببها انبساط العلم وجعلت من أثر هذه العظمة ومن بركاتها شبحة الصور كلّها جامدها و متحرّكها وأنطتها بإقبال التحريك والتسكين وجعلتها في إحاطة العزّة من كونها قبلت منها ولها وفيها وتشعشعت الصور البارزة بإقبال الوجود وقدرت لها وفيها ومنها ما يماثلها ممّا يطابق أرقام صورها وحكمت عليها بالبروز لتأدية ما قدرته عليها وجعلتها منقوشة في لوحها المحفوظ الذي خلقت منه ببركاته وحكمت عليها بما أردت لها وبما تريد بها وجعلت كلّ الكلّ في كلّك وجعلت هذا الكلّ من كلّك وجعلت الكلّ قبضة من نور عظمتك روحا لما أنت أهل له ولما هو أهل لك أسألك اللهمّ بمرتبة هذه العظمة وإطلاقها في وجد وعدم أن تصلّي وتسلّم على ترجمان لسان القدم اللوح المحفوظ والنور الساري الممدود الذي لا يدركه دارك ولا يلحقه لاحق الصراط المستقيم ناصر الحقّ بالحقّ اللهمّ صلّ وسلّم على أشرف الخلائق الإنسانيّة والجانّيّة صاحب الأنوار الفاخرة اللهمّ صلّ وسلّم عليه وعلى آله وعلى أولاده وأزواجه وذرّيّته وأهل بيته وإخوانه من النبيّين والصدّيقين وعلى من آمن به واتّبعه من الأوّلين والآخرين اللهمّ اجعل صلاتنا عليه مقبولة لا مردودة اللهمّ صلّ على سيّدنا ومولانا محمّد وآله اللهمّ واجعله لنا روحا ولعبادتنا سرّا واجعل اللهمّ محبّته لنا قوّة أستعين بها على تعظيمه اللهمّ واجعل تعظيمه في قلوبنا حياة أقوم بها وأستعين بها على ذكره وذكر ربّه اللهمّ واجعل صلاتنا عليه مفتاحا وافتح لنا بها يا ربّ حجاب الإقبال وتقبّل منّي ببركات حبيبي وحبيب عبادك المؤمنين ما أنا أؤدّيه من الأوراد والأذكار والمحبّة والتعظيم لذاتك لله لله لله آه آمين هو هو هو آمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد آمين . إنتهت الصلاة الأولى .
    .../...شرح الصلاة الأولى (ص 218): وفي ص 223-
    قوله : ( وأنشأت من نورك الكامل ) ، إعلم أنّ النور الكامل هنا لا يطلق إلاّ على نور الذات ، ولا يطلق على غيرها . وأمّا حقيقته وصورته فلا مطمع لأحد في فهمها فضلا عن رؤيتها .
    قوله : ( نشأت الحقّ ) ، معنى الحقّ هنا هي الحقيقة المحمّديّة عليها من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام ، وسمّاها نشأة الحقّ لأنّها حقّ في حقّ بحقّ عن حقّ لِحَقٍّ ، فلا يحوم الباطل حولها بوجه من الوجوه ، فهي في غاية الصفاء والطهارة والعلوّ ، فليس في جواهر الوجود أشرف وأعلى منها ، ولا أصفى ولا أطهر ولا أكمل منها . ثمّ إنّها في حقيقتها لا تدرك ولا تعقل . قال أويس القرني رضي الله عنه لسيّدنا عمر وسيّدنا عليّ رضي الله عنهما حين لقياه : لم تروا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلاّ ظلّه ، قالوا : ولا ابن أبي قحافة ؟ قال : ولا ابن أبي قحافة ، لأنّه ما قال لهم ذلك حتّى وصل لجّة المعارف طلبا للوقوف على عين الحقيقة المحمّديّة فقيل له : هذا أمرٌ عجز عن الوصول إليه أكابر الرسل فلا مطمع فيه لأحد بوجه ولا حال . وفيه يقول الشيخ مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه في صلاته : وله تضاءلت الفهوم فلم يدركه منّا سابق ولا لاحِقٌ الخ . قال أبو يزيد رضي الله عنه : غصتُ لجّة المعارف طلبا للوقوف على عين الحقيقة المحمّديّة فإذا بيني وبينها ألف حجاب من نور لو دنوت من الحجاب الأوّل لاحترقتُ كما تحترق الشعرة إذا ألقيتْ في النار فتأخّرتُ القهقرى . إنتهى .
    قوله : ( وأنطتها ) ، يعني جعلت الوجود كلّه منوطا بها من أوّله إلى آخره ، من الآن إلى الأبد لا وجود لشيء بدونها ، فإنّ الوجود كلّه وجد لأجلها فقط لا لذاته ، وهي مطلوبة لذاتها لا علّة لها إلاّ الذات ، فهي موجودة لأجل الذات المقدّسة فلا واسطة بينها وبينها ، والوجود كلّه منوط بها ، فهي الواسطة بين الوجود وبين الله تعالى إذ لولاها لتلاشى الوجود كلّه في أسرع من طرفة العين ، فالوجود كلّه قائم تحت ظلّها . قال الشيخ مولانا عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه في صلاته : ولا شيء إلاّ وهو به منوط إذ لولا الواسطة لذهب كما قيل الموسوط ، وقوله أيضا في الصلاة : اللهمّ إنّه سرّك الجامع الدالّ عليك وحجابك الأعظم القائم لك بين يديك ، إنتهى .
    قوله : ( وجعلتها صورة ) ، قلنا ، الصورة هنا هي أوّل أمر برز من حضرة الشؤون التي هي العمى ، فإنّ حضرة الشؤون تقدّم الكلام عليها وهي حضرة العمى ، فالشؤون كلّها لا تمايز لشيء على شيء فيها ، فلا صورة ولا كمّ ولا كيف ولا مقدار ولا تقديم ولا تأخير ولا مكان ولا زمان ، فلهذا سُمِّيَتْ عما . فإذا برزت الأشياء من هذه الحضرة سُمِّيَ كلّ شيء منها صورة لأنّه برز بالكمّيّة والكيفيّة والمقدار والاسم والصفة والرسم ، وتميّز عن غيره بالضرورة ، فمن هنا أطلق عليه صورة . وكان أوّل بارز من حضرة الشؤون ، التي هي العما ، هي الحقيقة المحمّديّة . قال الشيخ الأكبر في صلاته : اللهمّ أَدِمْ صلة صلواتك وسلامة تسليماتك على أوّل التعيينات المفاضة من العما الربّانيّ . وقد قال صلّى الله عليه وسلّم للسائل حين سأله : « أين كان ربّنا قبل أن يخلق الخلق قال له صلّى الله عليه وسلّم كان في عما ما تحته هواء وما فوقه هواء » ، والعما عند العرب هو السحاب ، وسَمَّتْه العرب عما لكونه يغطّي عين الشمس . ولم يُرِدْ هذا صلّى الله عليه وسلّم ، بل أراد صلّى الله عليه وسلّم بالعما المرتبة الأولى من مراتب الذات ، وهي حضرة الطمس والعما ، وقد تقدّم الكلام عليها ، فهي العما الأوّل . والعما الثاني حضرة الشؤون حيث لا يتميّز فيها شيء ، وعند خروج الشيء من حضرة العما الثاني يسمّى صورة . إنتهى .
    قوله : ( كاملة تامّة ) ، إعلم أنّ الكامل والتامّ لم يعرف عند العرب إلاّ أنّهما مترادفان ، الكامل هو التامّ والعكس ، وتطلق هنا في التفتن للمدح . ويلوح في هذا المحلّ للفهم أنّ الكامل هو الذي يُفيض الكمالات على غيره ، والتامّ هو الذي لا يتعدّاه إلى غيره ، بل هو مقصور على نفسه ، والكامل هو الذي يُفيض الكمال على غيره كما قلنا . ولاشكّ أنّه صلّى الله عليه وسلّم في هذا الميدان تامّ في نفسه لا يطرأ عليه النقص بوجه من الوجوه ، كامل صلّى الله عليه وسلّم يُفيض الكمالات على جميع الوجود من العلوم والمعارف والأسرار والأنوار والأعمال والأحوال والفيوضات والتجلّيات والمواهب والمنح وجميع وجوه العطايا ، فكلّ ما يُفيضه الحقّ سبحانه وتعالى على الوجود مطلقا ومقيّدا ، أو كثيرا أو قليلا ، ممّا اشتهر أو أشذّ ، إنّما يُفيضه بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . فمن ظنّ أنّه يصل من عند الله شيء للوجود بغير واسطة رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقد جهل أمر الله ، وإن لم يتب خسر الدنيا والآخرة بهذا الاعتقاد ، نسال الله السلامة والعافية من بلائه بجاه رسله وأنبيائه . إنتهى .
    قوله : ( تجد منها ) ، معناه ، أيّ من الصورة التي أنشأها من النور الكامل ، وهي الحقيقة المحمّديّة .
    قوله : ( بسبب وجودها ) ، أيّ فإنّه قبل وجودها لا يداخلها شيء في العالم الصوريّ إلاّ ما يجد منها في حضرة العلم لكونها عينا ثابتة .
    قوله : ( من انفراد أحديّتك ) ، معناه ، أيّ تجد من تلك الصورة من انفراد أحديّتك بعد ظهور الصورة ، وعين ما يجد في هذه الصورة هو شهود ذاته المطلقة الساذج يشهدها في هذه الصورة ، والصورة لها كالمرآة تتراءى فيها ، فإنّه سبحانه وتعالى يرى في تلك الصورة عين ذاته المقدّسة ، وهي المراد بانفراد الأحديّة ، فإنّ الأحديّة عين الذات عينا بعين ، ولا تزيد عليها إلاّ أنّ فيها نسبة الأحديّة لكون الذات الساذج عارية عن النِّسَب والأحديّة نسبة من النسب . إنتهى .
    قوله : ( قبل نشر أشباحها ) ، إعلم أنّ معنى نشر الأشباح هنا هي ذوات الوجود من الأزل إلى الأبد ، كلّما وقع من ذوات الوجود هو ناشئ عن تلك الصورة ، ولهذا قيل : أنّه الأب الأوّل لكون الأشياء كلّها تناسلت من حقيقته المحمّديّة ، فهو لجميعها كأصل الشجرة وذوات الوجود كلّها كأغصان الشجرة ، فهو عينها صلّى الله عليه وسلّم من كلّ وجه ، ولا يتراءى هذا إلاّ لمن تخطّى نِسَبَ الوجود وبرز له الحقّ عينا بعين يشهد هذا السرّ ، وإلاّ فلا.
    قوله : ( وجعلت منها فيها ) ، يعني من الصورة فيها ( بسبب انبساط العلم ) جعل الله انبساط العلم بسببها في الوجود الجاري على حدّ قوله سبحانه وتعالى : وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ، فذلك العلم منبسط من هذه الصورة ، فهو ينبوع العلم وعنصره ، فهي له كالبحر الجامع وينشقّ منها لذوات الوجود بحارا وأنهارا وسواقي وخيوط . إنتهى .
    قوله : ( بسببها ) ، يعني أنّ العلم الجاري من هذه الصورة وهي ينبوعه إنّما كان بسببها فقط إذْ لا علّة لها بينها وبين ذات الحقّ حتّى تكون لها سببا ، فإنّ الله تبارك وتعالى أراد هذه الصورة لذاتها ، فهي سببُ كلّ شيء ، وهي سببٌ لنفسها .
    قوله : ( وجعلت من أثر هذه العظمة ) ، سمّاها عظمة لكونها قبضة من نور عظمة الله تعالى ، فلذا سمّاها عظمة . وقوله من أثرها ، فإنّها هي السبب في إظهار ذوات الوجود من العدم إلى الوجود ، فإنّه صلّى الله عليه وسلّم لولا ما أظهر الله شيئا من الموجودات ، لبقيت كلّها في طيّ العدم . ومعنى هذا أنّه لو جرت مشيئة الله تعالى ، التي عنها وجدت الأكوان ، بأنْ لا يخلق محمّدا صلّى الله عليه وسلم لجرى في مشيئته أن لا يخلق شيئا من الوجود ، فذوات الوجود هي الأشباح البارزة عن حقيقته صلّى الله عليه وسلّم بمنزلة الأولاد البارزين عن الأب الواحد . إنتهى .
    قوله : ( ومن بركتها شبحة الصور كلّها جامدها و متحرّكها ) ، إعلم أنّ ذوات الوجود كلّها برزت عن حقيقته صلّى الله عليه وسلّم ، جامدها و متحرّكها.
    قوله : ( وأنطتها بإقبال التحريك والتسكين ) ، يعني أنّ العوارض الحالّة في ذوات الوجود ، وهي الحركة والسكون ، هي أيضا بارزة في ذوات الوجود عن الحقيقة المحمّديّة ، فهي منوطة بها ، كما أنّ ذوات الوجود ، وهي الصور المحسوسة ، منوطة بالحقيقة المحمّديّة لا وجود لها بدونها كذلك الأعراض الحالّة في ذوات الوجود ، وهي الحركة والسكون وما ينشأ عنها من قبْض و بسْط وإعطاء ومنْع ومدْح وذمّ ، كلّ ذلك بارز عن الحقيقة المحمّديّة من الأزل إلى الأبد . أهـ .
    قوله : ( وجعلتها في إحاطة العزّة ) ، يعني يريد بها الصورة التي خلقها من نوره الكامل وجعلها في إحاطة العزّة ، يريد أنّه جعلها في غاية المنع والاحتجاب من حيث أنّه لا يصل إلى فهمها ومعرفتها غيرها من جميع المخلوقات ، فهي التي احتجبت في سرادقات العزّ والجلال فلا مطمع لأحد في فهمها فضلا عن نيلها و رؤيتها .
    قوله : ( من كونها قبلت ) ، يعني الوجود منها فيها ولها ، فهي موجودة لا معلّلة بشيء ، فوجودها منها لا علّة له إلاّ الذات المقدّسة . قوله : ( منها وفيها ) ، أيّ وكان وجودها مستمدّا من الحقّ سبحانه وتعالى فقط لاشيء وراءها ، فإنّ ذوات الوجود كلّها معلّل وجودها بشيء تراد له إلاّ الحقيقة المحمّديّة فإنّها هي مرادة لذاتها لا لشيء يراد بها .
    قوله : ( ولها ) ، يعني قبلت الوجود لها ، أيّ لذاتها لا لشيء وراء ذلك ، فإنّ الوجود كلّه منوط بها وليست هي منوطة بشيء إذ لا واسطة بينها وبين الذات المقدّسة كما ورد في الخبر : يقول له : « خلقت كلّ شيء من أجلك وخلقتك أنت من أجلي » ، فدلّ هذا الخبر أنّ الوجود كلّه لا يراد لذاته إنّما خُلِق لأجل الحقيقة المحمّديّة وهي لم تكن منوطة بشيء تُخْلَق لأجله ، ليس لها تعلّق إلاّ للذات المقدّسة من حيث ما هي هي ، وإلى هذا يشار في الصلاة البكريّة التي هي من إملائه صلّى الله عليه وسلم عليه بقوله فيها : ( عبدك من حيث أنت كما هو عبدك من حيث كافّة أسمائك وصفاتك ) ، معنى هذا أنّه يعبد الله وحده من حيث الوجود المطلق ، وهي الذات الصرفة الساذج من حيث أن لا تعلّل له في شيء . فلو بقي في هذا المحلّ صلّى الله عليه وسلّم لكان غيبا من غيوب الذات لا يصحّ أن يناط الوجود المعلّل به لأنّ الوجود بأسره عين الصفات الإلهيّة والأسماء الكريمة ، وهي في نفسها تومىء إلى ضرب من المغايرة لكونها عين الوجود أو الوجود قائم بها ، والذات من هذا المنوال لأنّها بحر الطمس والعما بحيث أن لا تعقّل فيها للغير والغيريّة بوجه من الوجوه . ولمّا كان المراد منه صلّى الله عليه وسلّم الكمال العالي الذي به يستمدّ منه الوجود ويكون سببا في وجود الوجود أُعطِيَ الرتبة الأخرى وهي قيامه بحقوق الصفات والأسماء اتّصافا بها وتحقّقا بها ، وبذا استمدّت منه الوجود حياة وقياما ووجودا . فهذا قيامه صلّى الله عليه وسلّم بعبادة الله وبصفاته وأسمائه ، فكان عبد الله من حيث الذات المطلقة ومن حيث أن لا علّة ولا غيريّة ، وكان عبدا له من حيث جمع الصفات والأسماء ، فبهذا حمل سرّ الخلافة عن الله في جميع المملكة الإلهيّة من غير شذوذ . اهـ .
    قوله : ( وتشعشعت الصورة البارزة بإقبال الوجود ) ، إعلم أنّه لمّا قام صلّى الله عليه وسلّم بكمال المرتبتين في العبوديّة والعبودة استمدّ منه الوجود حياته ووجوده وقيامه ، فبذلك انبسط سرّ الوجود عليه والحياة ، وهذا عين التشعشع ، لأنّ تشعشع الشيء بقوّة ظهور لقوّة النور ، فهذا معنى تشعشعت الصورة ، ومعناه هي ذوات الوجود ذرّة ذرّة ، وتشعشعها ليس دفعة واحدة ، بل عن الأمر الذي أراده الله منها في تعاقب الزمان والمكان والأسباب والإضافات . اهـ .
    قوله : ( بإقبال الوجود ) ، يعني أنّها ظهرت حتّى تبدّتْ لظهور العيان بعد أن كانت في غيب العدم .
    قوله : ( وقدّرت لها ) ، معناه ، أيّ قدّرت لتلك الصورة المخلوقة من النور الكامل لها لا لشيء غيرها .
    قوله : ( وفيها ) ، أيّ من كونها ظرفا لجميع الوجود فهي في هذا الميدان هي عين الوجود بأسره وهي له كالجسد ، فالوجود كلّه لها بمنزلة الجوارح الملتصقة بالجسد ، وهذا السرّ لا يكشف، ولا يعرفه غير الله تعالى .
    قوله : ( ومنها ) ، يعني تناسلا وامتدادا ، وقد قدّمنا أنّها الأب الأوّل الذي له الوجود كلّه بمنزلة الأولاد .
    قوله : ( ما يماثلها ) ، يعني أراد بها الصورة الآدميّة ، فإنّها تماثل صورته الشريفة صلّى الله عليه وسلم .
    قوله : ( ممّا يطابق أرقام صورها ) ، هو تفسير لما يماثلها ، والمطابقة عند المنطقيين هي المماثلة بكلّ وجه وبكلّ اعتبار ، والموافقة هي المماثلة بين الشيئين في بعض الوجود دون بعض ، وكانت الصورة الآدميّة مطابقة لصورته الشريفة صلّى الله عليه وسلّم بكلّ وجه وبكلّ اعتبار .
    قوله : ( وحكمت عليها بالبروز ) ، يعني أراد بها الصور المقدّرة في الغيب التي هي مطابقة لصورته الشريفة صلّى الله عليه وسلّم ، حكَم عليها بالبروز لإخراجها من العدم إلى الوجود لينفذ فيها أحكامه ، وهي الجمل التفصيليّة التي نفذت فيها المشيئة في الأزل لأنّ الصورة البارزة لها أحكام تلازمها متعلّقها المشيئة ، وهي الصورة واللون والمقدار، والمكان والزمان والأرزاق والأحكام ، فهذه السبعة ملازمة لكلّ صورة . والصورة ظاهرة ما صوّرت عليه الذوات كلّها . واللون من الصبغ والتنويع هو اختلاف الألوان في الصبغ الواحد مثل الأبيض له أشكال كثيرة . والمقدار هو ما تتكيّف به حقيقة الموجود من طول وقصر وصغر وكبر وثقل وخفّة ، فهذه مقادير الموجودات . والزمان هو الذي تختصّ به الذات من أوّل بروزها إلى وقت انعدامها إن كانت معدومة . والمكان هو الذي يخصّها فيما تستقرّ فيها وتتمكّن فيه من الاستقرار ، فهذا هو المكان . والأرزاق هي القوانين التي تجري بها منافع الذات في ما هي مختصّة به وتنتفع به دواما أو محدودا . فالدوام هو ما عليه حكمها في الجنّة ، فإنّها أرزاق دائمة الاتّصال لا غاية لها لكنّها مقسومة بالمشيئة الربّانيّة فليس الناس فيها على حدّ سواء ولا غير الناس من البهائم والطيور ، كلّها متمتّعة وكلّها مختلفة الكيفيّات ، يقول سبحانه وتعالى : انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ، فأقلّهم منزلة مثل الدنيا عشر ، كما في الحديث ، وأكبرهم لا حدّ له ولا غاية ، فكيف يقاس من له من عدد الحور وحده أكثر من عدد الملائكة بأسرها والجنّ والإنس والطير والحشرات بأضعاف مضاعفة لا يتناهى ضعفه ، فإنّ الحوراء الواحدة خدمها سبعون ألف جارية من غير من تحت حكمها من الخدّام الذكور ، فإنّ السبعين ألفا من الجواري ملازمون لها يقومون بقيامها ويقعدون بقعودها ، فما عسى أن يقاس ملكه . فهذا في أهل الجنّة ما عدا الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإنّهم أعلى رتبة ممّا ذكر بأضعاف مضاعفة . وفائدة هذا أنّ الأرزاق تجري بالمشيئة الإلهيّة سواء كانت دائمة كأرزاق الجنّة أو محدودة كأرزاق الدنيا . وأمّا الأحكام فهي الأمور التي تجري عليها على قانون التنغيص والعذاب كذلك دائمة أو محدودة ، فالدائمة كعذاب أهل النار في الآخرة والمحدودة كمصائب أهل الدنيا ، فهذه الأحكام هي اللازمة للذات البارزة للوجود .
    قوله : ( لـتأدية ما قدّرته عليها ) ، معناه هو الذي قدّمناه ، أبرزَها سبحانه وتعالى من العدم إلى الوجود لتأدية ما قدّره عليها ولها من الأحكام التي ذكرناها .
    قوله : ( وجعلتها منقوشة في لوحها المحفوظ ) ، الضمير في جعلتها يعود على الصور البارزة للوجود التي ذكرنا لها الأحكام السبعة منقوشة في لوحها ، والنقش ههنا هو تجلّي حقائقها في الصور المحمّديّة ، وهي المراد باللوح المحفوظ ، فإنّ جميع الأشياء البارزة من الغيب من الأزل إلى الأبد كلّها متجلّيّة في حقيقته المحمّديّة صلّى الله عليه وسلّم ، وهذا معنى قول الشيخ مولانا عبد السلام في صلاته : وفيه أُرْتِقَتْ الحقائقُ . اهـ .
    قوله : ( الذي خلقت منه ) ، فإنّه سبق لنا أنّه هو الأب الأوّل في جميع الوجود مطلقا ومقيّدا حتّى لا يشذّ عنه في هذا الباب شيء ، فإنّهم له بمنزلة الأولاد البارزة عن الأب الواحد..." . اهـ

    وأكتفي بهذا القدر من الشرح الذي يتناول الحقيقة المحمدية كما يبينها شيخ الطريقة التجانية في هذا النص الثامن من عشرة نصوص منقولة من كتابهم المقدس "جواهر المعاني وبلوغ الأماني في فيض أبي العباس التجاني"
    ومتنفسي في هذا التعقيب
    وللقارء العزيز أن يطلقها معي صيحة مدوية في أرجاء المعمور: وا إسلماه... ويا حسرتا على العباد...
    وأستسمح القارء المتشبع بكتاب الله والمتمسك به وبعلومه وبكتب التفسير لما أثقل عليه بمثل هذه النصوص – التي ما تعودنا الإقبال عليها - والتي يشمئز منها الفؤاد ويتقزز لتناولها... فجعلتها جرعات حتى يتأتى لنا أن نفهم الداء قبل البحث عن الدواء... ولنفهم كيف ابتلي الإسلام بهذا التصوف الدخيل على الإسلام... فلوث العقيدة وهي منه براء... لقد نكس القوم وتولوا... صم بكم عمي فهم لا يرجعون...
    قال تعالى: قُولُواْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُ مُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَ ا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) (البقرة 136-139)
    .../...

  11. #11
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -9-
    النص التاسع : جواهر المعاني – الجزء الثاني – الباب السادس - المقصد : في الصلوات التي وردت فيه من فيض فضله الشريف صلّى الله عليه وسلّم ـ الصفحة (ص 204- وما يليها)
    .../...
    قوله : ( أسألك اللهمّ بمرتبة هذه العظمة وإطلاقها في وجد وعدم ) ، إعلم أنّ مرتبة هذه العظمة ، وهي الصورة التي خلقها من نوره الكامل القابل ، توسّل بها وسيلة لِما يطلبه بعد بمرتبة هذه العظمة .
    وقوله : ( وإطلاقها في وجد وعدم ) ، أراد أنّ هذه العظمة ، وهي الحقيقة المحمّديّة ، سارية في جميع ذوات الوجود من كلّ ما نفذت المشيئة به من إخراجه من العدم إلى الوجود ، ومن كلّ ما نفذت المشيئة بإبقائه في طيّ العدم ، وهو المراد بقوله : ( وإطلاقها في وجد وعدم ) ، أراد بها هنا الحقيقة المحمّديّة ، وهي الروح الساري في جميع ذوات موجوده ومعدومه ، لكن سريانها في الموجود ظاهر ، وسريانها في المعدوم الباقي في طيّ العدم بحيث أن لا وجود له صعب المدرك لا تطيق العقول فهمه ولا إدراكه ، ولا يعلمه على حقيقته إلاّ الله تعالى . فهذا إطلاقها في وجد وعدم .
    ...
    قوله : ( اللوح المحفوظ ) ، إعلم أنّ اللوح المحفوظ هو نبيّنا وسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم لأنّه أجمل ما في حقائق الأشياء ، فكما أنّ اللوح المحفوظ اجتمعت فيه علوم الأكوان من منشأ العالم إلى النفخ في الصور أحاط بها جملة وتفصيلا ممّا دقّ أو جلّ من الجواهر والأعراض ، كذلك هو صلّى الله عليه وسلّم اجتمعت في حقيقته المحمّديّة صلّى الله عليه وسلّم جميع حقائق العلوم الإلهيّة . وتشبيهه هنا صلّى الله عليه وسلّم باللوح المحفوظ يسمّى عند المتكلّمين تشبيه التسامح وإلاّ فهو صلّى الله عليه وسلّم أكبر وأوسع من اللوح المحفوظ بأضعاف مضاعفة ، لأنّ غاية علوم اللوح وما سطّر فيه إنّما هو منشأ العالم إلى النفخ في الصور فردا فردا بلا شذوذ ، وأمّا ما وراء ذلك من أحوال يوم القيامة ، وأحوال أهل الجنّة والنار ، وما يتعاقب عليهم فيهما من الأدوار والأطوال من جميع الشؤون والأمور والاعتبارات واللوازم والمقتضيات ، كلّها ليس في اللوح منه شيء إلاّ أمور قليلة ، مثل فلان يعمل كذا وكذا من الأعمال وجزاؤه في جنّة الخلد أو جنّة النعيم أو جنّة المأوى له فيها كذا وكذا ، أو فلان يعمل كذا وكذا من الشرّ ومستقرّه في الدرك الثانية أو الثالثة وهكذا ، هو قليل بالنسبة لأحوال أهل الجنّة والنار وأحوال يوم القيامة . وأمّا هو صلّى الله عليه وسلّم فإنّه جمع في حقيقته المحمّديّة كلّ ما أحاط به علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد من علوم المخلوقات بأسرها ، ومعرفة مقتضياتها ولوازمها . وأمّا ما وراء ذلك فلا يحيط بجميع علم الله محيط أصلا ، يقول سبحانه وتعالى : وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ . وجملة ما في اللوح المحفوظ من العلوم ثلاثمائة علم وستّون علما ، كلّ علم فيه ثلاثمائة وستّون علما ، وجملة ذلك مائة ألف علم وثلاثون ألف علم تنقص أربعمائة علم ، فهذه علوم الأكوان كلّها . وعدد الألواح ثلاثمائة وستّون لوحا ، فهذه الألواح هي ألواح التبديل ، يقع فيها التغيير والتبديل . وأمّا أُمُّ الكتاب فلا يتبدّل ولا يتغيّر ، فكلّ ما فيه واقع لا يتبدّل . ومحلّ هذه الألواح كلّها في السماء . ورؤية عامّة الأولياء لألواح التبديل فقط ، وأمّا أمّ الكتاب فلا يطّلع عليه إلاّ الأكابر ...

  12. #12
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    الدولة
    فاس - المغرب
    المشاركات
    768

    Lightbulb رد: مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين

    الحقيقة المحمدية عند شيخ الطريقة التجانية
    (النصوص منقولة بكل أمانة من كتاب جواهر المعاني)
    -10-
    النص العاشر : جواهر المعاني – الجزء الثاني – الباب السادس - المقصد : في الصلوات التي وردت فيه من فيض فضله الشريف صلّى الله عليه وسلّم ـ الصفحة (ص ص 267-)
    قوله : ( اللهمّ صلّ وسلّم على طلعة الحقّ بالحقّ ) ، إعلم أنّ طلعة الحقّ بالحقّ له معنيان : الأوّل فيه طلعة الحقّ له صلّى الله عليه وسلّم من الذات العليّة المقدّسة بالحقّ ، وهي الذات أيضا ، فإنّ الذات العليّة تجلّت له بذاتها لا شيء دونها ، فكان صلّى الله عليه وسلّم له تجلّت الذات بالذات وطلوعها عنها لا عن شيء دونها ، فإنّ السبب الذي طلعت به هو الذات العليّة للحقيقة المحمّديّة ، وتجلّيها لها كان عن الذات العليّة المقدّسة المنزّهة لا عن غيرها ، فهذا معنى طلعة الحقّ بالحقّ . والمعنى الثاني : طلعة الحقّ ، وهي طوالع الأسماء والصفات الإلهيّة التي مجموعها هو عين الحقّ الكلّيّ بجميع ما تفرّع عنها من الأحكام الإلهيّة والمقادير الربّانيّة واللوازم والمقتضيات الملازمة لتلك الصفات والأسماء ، فمجموعها هو عين الحقّ الكلّيّ ، فكان صلّى الله عليه وسلّم بحقيقته المحمّديّة مطلعا لها جامعا لحقائقها وأحكامها ومقتضياتها ولوازمها ، فكان طلوعها في حقيقته المحمّديّة عن مادّة أسرار الصفات والأسماء الإلهيّة الذي هو السبب المعبّر عنه بالباء ، فكان طلوعها فيه صلّى الله عليه وسلّم بسبب أسرارها وأنوارها ، فكلّها حقّ ، فهو معنى طلعة الحقّ بالحقّ . ولمّا تمّ قيامه صلّى الله عليه وسلّم في هذا الميدان بحقوق التَجَلِّيَيْن المذكوريْن وتوفيّته بوظائف خدمتها وآدابها جملة وتفصيلا ، وتكميله لمقابلتها بعبوديّته الكاملة ، عبّر عن هذا الإطلاق في الصلاة البكريّة بقوله : عبدك من حيث أنت كما هو عبدك من حيث كافّة أسمائك وصفاتك . اهـ .
    ...
    قوله : ( إحاطة النور المطلسم ) ، يعني أنّ النور المطلسم هو سرّ الألوهيّة المكتم ، وكان هذا السرّ قسمه الحقّ سبحانه وتعالى بحكم المشيئة الربّانيّة قسمين ، قسم منه استبدّ بعلمه لا يطلع عليه غيره ، وقسم اختار أن يطلع عليه غيره من خلقه من ذوي الاختصاص ، وكان مقسوما بينهم بالمشيئة الأزليّة لكلّ واحد منهم ما قدّر له من سرّ الألوهيّة ، وكان ذلك المقسوم لخلقه أن يطلعوا عليه كلّه أحاط به صلّى الله عليه وسلّم علما وذوقا ، واجتمع في ذاته الكريمة في حقيقته المحمّديّة ، وتفرّق في الخلق . وبعبارة النور المطلسم هي الكمالات الإلهيّة التي سبق في سابق علمه أن يكشفها لخلقه ويطلعهم عليها جملة وتفصيلا لكلّ فرد من الوجود ما يناسبه وما يختصّ به من أوّل ظهور العالم إلى الأبد ، وكان ذلك النور المذكور مطلسما في حجاب الغيب ، معناه أنّ عليه حجبا عظيمة ليس لأحد الوصول إلى الاطّلاع عليه أو على شيء منه ، فأشهده الله نبيّه صلّى الله عليه وسلّم دفعة واحدة وأطلعه عليه في حقيقته المحمّديّة من غير شذوذ . فالإحاطة المذكورة والنور هي طوالع الكمالات الإلهيّة ، والطلاسم المضروبة عليها هي الحجب المانعة من الوصول إلى معرفة حقائقها .
    ...
    شرح الصلاة الغيبيّة في الحقيقة الأحمديّة (ص ص 271-274) .
    فأقول (الكلام يعود لمؤلف كتاب جواهر المعاني) وبالله التوفيق :
    بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم . الحمد لله المحيط ، الأوّل الآخر الباطن الظاهر بأحديته مع جمع ذاته ، القائم بكماله على كلّ شيء لتجلّيه لذاته بذاته في ذاته على ذاته بجميع متضادّاته في أسمائه وسماته ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله الكافي بذاته في جميع مقتضياته الهوية السارية وليس إلاّ مظاهره البادية ، وأشهد أنّ سيّدنا محمّدا سرّ ذاته وروح حياته ونور مرآته وقيّوم أسمائه وسماته وجامع جمع حضراته ، القائم بإحصاء أسمائه بآياته ، الأوّل في تعليقه لذاته ، الآخر على حيطة حكم معلوماته ، الباطن بفرط الظهور في مثلاته والظاهرة بما أحاط قيّومه بصفاته ، والصلاة والسلام منه على السيّد العبد الأكمل الفاتح الخاتم بعين ما هو الأوّل ، صلّى الله عليه وعلى آله كما لا نهاية لأسمائه وصفاته وكمالاته . وبعد ، فإنّ شيخنا وسيّدنا ومولانا ووسيلتنا إلى ربّنا الشيخ الإمام ، شيخ مشايخ الإسلام ، حجّة الصوفيّة ، قدوة أهل الخصوصيّة ، عالم الشريعة ، أستاذ الطريقة ، سلطان أهل الحقيقة ، إمام الطريقتين ومقدّم الفرقتين ، صاحب العلوم الجمّة ، ومعدن المعارف ، ولسان الحكمة ، قطب الزمان الحامل في وقته لواء أهل العرفان ، لسان القدس وترجمان الرحمن ، علَم المهتدين قدوة السالكين تاج العارفين إمام الصدّيقين إنسان عين الأستاذين الوارثين ، كهف الموقنين الوارثين ، أستاذ الأكابر والمتفرّد بزمانه بالمعارف السنيّة والمفاخر ، العالم بالله والدالّ على الله ، زمزم الأسرار ومعدن الأنوار ، الصدّيق الكبير القطب ، الغوث الجامع الوارث الربّانيّ الشريف النسب والأصيل الحسب ، أبي العبّاس التجانيّ ، سقانا الله من بحره بأعظم الأواني ، وضع رضي الله عنه تقييدا على الصلاة الغيبيّة في الحقيقة الأحمديّة ، فأجاد فيه وأفاد وبلغ غاية المراد . فقال رضي الله عنه : إعلم أنّ معنى الصلاة الغيبيّة أنّها برزت من الغيب ليست من إنشاء أحد ، وأمّا الحقيقة الأحمديّة فهي الأمر الذي سبق به صلّى الله عليه وسلّم في الحمد لله على كلّ حامد من الوجود ، فما حمد الله أحد في الوجود مثل ما حمده النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الوجود . ثمّ إنّها في نفسها ، أيّ الحقيقة الأحمديّة ، غيب من أعظم غيوب الله تعالى ، فلم يطّلع أحد على ما فيها من المعارف والعلوم والأسرار والفيوضات والتجلّيات والمنح والمواهب والأحوال العليّة والأخلاق الزكيّة ، فما ذاق منها أحد شيئا ولا جميع الرسل والنبيّين ، إختصّ بها صلّى الله عليه وسلّم وحده بمقامها ، وكلّ مدارك النبيّين والمرسلين وجميع الملائكة والمقرّبين وجميع الأقطاب والصدّيقين الأولياء والعارفين كلّ ما أدركوا على جمله وتفصيله إنّما هو من فيض حقيقته المحمّديّة ، وأمّا حقيقته الأحمديّة فلا مطمع لأحد بنيل ما فيها . فالحاصل أنّ له صلّى الله عليه وسلّم مقامين ، مقام حقيقته الأحمديّة ، وهو الأعلى ، ومقام حقيقته المحمّديّة وهو أدنى ، ولا أدنى فيه . وكلّ ما أدركه جميع الموجودات من العلوم والمعارف والفيوضات والتجلّيات والترقّيات والأحوال والمقامات والأخلاق إنّما هو كلّه من فيض حقيقته المحمّديّة . وأمّا ما في حقيقته الأحمديّة فما نال منه أحد شيئا ، أختص به وحده صلّى الله عليه و سلّم لكمال عزّها وغاية علوّها . فهذه هي الحقيقة الأحمديّة صلّى الله عليه وسلّم وشرّف وكرّم ومجّد وعظّم .
    قوله : ( اللهمّ صلّ وسلّم على عين ذاتك العليّة ) ، يعني أنّ الحقّ سبحانه وتعالى تجلّى بكمال ذاته الذاتيّة في الحقيقة المحمّديّة ، فهو لها ، أيّ للذات العليّة ، كالمرآة تترائ فيها ، فبهذه الحيثيّة وبهذه النسبة كانت الحقيقة المحمّديّة كأنّها عين الذات ، ولم يكن هذا التجلّي في الوجود لأحد من خلقه إلاّ له صلّى الله عليه وسلّم ، فبهذه النسبة كان صلّى الله عليه وسلّم عين الذات لا أنّه حقيقته ، لكن بالنسبة التي ذكرناها ، ولو كان هو عين الذات لَعُبِدَ ، وهذا لا يتأتّى ، بل هو مخلوق ، وقد سجّل عليه سبحانه وتعالى بالعبوديّة حيث قال عزّ وجلّ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ ، وبقوله : وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ، فالعبوديّة لا تتأتّى للذات العليّة لكنها بالنسبة التي ذكرناها صار كأنّه عينها .اهـ

    وبذلك يكون هذا النص آخر ما أنقله من كتاب جواهر المعاني في هذا الموضوع الذي تناول مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيين. وبعد استوفاء بعض المفاهيم الأساسية عند الصوفية والتعرف عليها بنفس المنهج (في مباحث منفردة) لنا إن شاء الله وبعونه عودة للبحث عن جذور الشذوذات العقائدية عند أهل التصوف والوقوف على كيفية تسربها من الديانات الأخرى والفلسفات والمعتقدات الباطلة إلى الإسلام والدس بها في كتب الصوفية على الخصوص. وتلك الأباطيل كلها من إملاء الشيطان وليست من فيض الرحمن... وهي من تلبيس إبليس وزخرف قوله جعلوا منها علما لاهوتيا قائما بذاته في منظومة كلامية عقيمة الفائدة لا طائل من ورائها. وكان الأحرى بهم أن يدرسوا كتاب الله ويفتحوا قلوبهم وآذانهم وجوارحهم كلها لآياته البينات ويخشعوا لها ويتبعوا ما جاء فيها من هدى وبيان... وما خلق الله الجن والإنس إلا ليعبدوه وليس للتصرف في الكون والكائنات والخوض في الروحانيات. والأمور الغيبية والروح من أمر الله لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •