مفهوم الحقيقة المحمدية في الفكر الصوفي وعقيدة التجانيينمن المعجم الصوفي (ص 347 - 352) للدكتورة سعاد الحكيم أستاذة التصوف في الجامعة اللبنانية نقرأ في مادة: الحقيقة المحمدية[1]: المترادفات[2]: الكلمة المحمدية – النور المحمدي – نور محمد صلى الله عليه وسلم – حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم.
وتقول الكاتبة: "الحقيقة المحمدية" هي أكمل مجلى خلقي ظهر فيه الحق، بل هي الإنسان الكامل بأخص معانيه[3]. وإن كان كل موجود هو مجلى خاصا لإسم إلهي، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد انفرد بأنه مجلى للإسم الجامع وهو الإسم الأعظم (الله)[4] ولذلك كانت له مرتبة الجمعية المطلقة، وللحقيقة المحمدية التي هي أول التعينات[5] عدة وظائف ينسبها إليها الشيخ الأكبر:
1- من ناحية صلتها بالعلم: الحقيقة المحمدية هي ببدأ خلق العالم وأصله. من حيث أنها النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء (حديث جابر)[6]. وهي أول مرحلة من مراحل التنزل الإلهي في صور الوجود – وهي من هذه الناحية صورة "حقيقة الحقائق".
2- من ناحية صلتها بالإنسان: يعتبر ابن عربي الحقيقة المحمدية منتهى غايات الكمال الإنساني، فهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل[7] الذي: يجمع في نفسه حقائق الوجود.
3- من الناحية الصوفية: هي المشكاة التي يستقي منها جميع الأنبياء والأولياء العلم الباطن.
من حيث أن محمدا صلى الله عليه وسلم له حقيقة "الختم"[8] (خاتم الأنبياء) فهو يقف بين الحق والخلق. يقبل على الأول مستمداً للعلم منقلباً إلى الآخر ممداً[9] له. وسنثبت ما تقدم (على حد قول الأستاذة سعاد) بنصوص ابن عربي كما تعودنا ذلك، يقول:
(1) "... بدء الخلق الهباء[10]، وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية، ولا أين يحصرها لعدم التحيز ومم وجد ? في الهباء... ولم وجد ? لإظهار الحقائق الإلهية..." (فتوحات 1/118).
"فلما أراد (الحق) وجود العالم وبدأه على حد ما علمه بعلمه بنفسه، انفعل عن تلك الإرادة المقدسة بضرب تجل، من تجليات التنزيه، إلى الحقيقة الكلية (= حقيقة الحقائق) انفعل عنها حقيقة تسمى الهباء (انظر "هباء") ... ليفتح فيها ما شاء من الأشكال والصور وهذا هو أول موجود في العالم... ثم إنه سبحانه تجلى بنوره إلى ذلك الهباء... والعالم كله فيه بالقوة والصلاحية فقبل منه تعالى كل شيء في ذلك الهباء، على حسب قوته واستعداده كما تقبل زوايا البيت نور السراج... فلم يكن أقرب إليه قبولاً في ذلك الهباء إلا حقيقة محمد صلى الله عليه وسلم المسماة بالعقل، فكان سيد العالم بأسره وأول ظاهر في الوجود، فكان وجوده من ذلك النور الإلهي ومن الهباء ومن الحقيقة الكلية، وفي الهباء وجد عينه وعين العالم من تجليه[11]..." (فتوحات 1/119).
يظهر من النص الأخير أن الحقيقة المحمدية أول ظاهر في الوجود، وإن كان وجودها عن الهباء وحقيقة الحقائق. فالأول، أي الهباء حقيقة معقولة غير موجودة في الظاهر (انظر "هباء"). والثانية، أي حقيقة الحقائق لا تتصف بالوجود ولا بالعدم (انظر حقيقة الحقائق).
إذن، يتبقى أن "الحقيقة المحمدية" هي أول موجود ظهر في الكون ومن تجليه ظهر العالم[12]
(2) "... إن الوجود كله هو الحقيقة المحمدية، وأن النزول منها إليها وبها عليها، وأن الحقيقة المحمدية في كل شيء لها وجهان: وجه محمدي ووجه أحمدي: فالمحمدي: علمي جبرائيلي. والأحمدي: إيماني روحي أمّي[13] ... وأن التنزيل للوجه المحمدي. والتجلي للوجه الأحمدي" (بلغة الغواص ورقة 133).
(3) "ولهذا بديء به (محمد = الكلمة المحمدية) الأمر وختم... " (فصوص 1/214)
"ولا يزال هذا العقل (العقل الأول = الحقيقة المحمدية) متردداً بين الإقبال والإدبار. يقبل على باريه مستفيداً، فيتجلى له فيكشف في ذاته من بعض ما هو عليه... ويقبل على من دونه مفيداً هكذا أبد الآباد... فهو الفقير الغني، العزيز الذليل، العبد السيد..." (عقلة المستوفز. ص 562).
"فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود طينته، فإنه بحقيقته[14] موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم "كنت نبياً وآدم بين الماء والطين"[15] وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلا حين بعث" (فصوص 1/63-64).
الهوامش (كلها للكاتبة سعاد الحكيم – المعجم الصوفي):
[1] - الحقيقة المحمدية: يشيرون بها إلى هذه الحقيقة المسماة بحقيقة الحقائق الشاملة لها أي للحقائق، والسارية كلياً، سريان الكلي في جزئياته. وإنما كانت الحقيقة المحمدية هي صورة لحقيقة الحقائق لأجل ثبوت الحقيقة المحمدية في حاق الوسطية والبرزخية والعدالة... فكانت هذه البرزخية والوسطية هي عين النور الأحمدي المشار إليه بقوله عليه السلام: أول ما خلق الله نوري... ومعنى كون هذه الحقيقة هي الحقيقة المحمدية أي أن الصورة العنصرية المحمدية صورة لمعنى ولحقيقة، ذلك المعنى وتلك الحقيقة هي حقيقة الحقائق". (لطائف الأعلام. ف ق 82 أ - ب).
[2] - كما يراجع مترادفات "إنسان كامل" لأنها تشير في مضمونها إلى الحقيقة نفسها. واختلاف الألفاظ في الواقع اختلاف في النظر إلى تلك الحقيقة من حيثية معينة. (الكاتبة)
[3] - انظر "الإنسان الكامل"
[4] - انظر "الإسم الجامع" "الإسم الأعظم".
[5] - انظر "تعين"
[6] - لقد أورد ابن عربي حديث جابر (أول ما خلق الله...) مفصلاً منذ خلق النور المحمدي حتى ظهوره في الجسد المحمدي. (انظر بلغة الغواص ق ق 8-9).
[7] - انظر "الإنسان الكامل".
[8] - راجع "ختم".
[9] - لقد بحث أبو العلا عفيفي بتوسع "الحقيقة المحمدية" ضمن مقاله "نظريات الإسلاميين في الكلمة" مجلة كلية الآداب. جامعة فؤاد الأول سنة 1943 ص ص 22-75 وتعليقه على الفصوص ج 2 ص ص 219-221. وتضيف سعاد الحكيم بقولها: ونسمح لأنفسنا بأن نستخلص منهما ما يتفق مع واقع نظرتنا إلى موقف ابن عربي من الحقيقة المحمدية. فمن ناحية، نتابعه في كل ما ذهب إليه بخصوص أوجه الشبه بين نظرة ابن عربي في الحقيقة المحمدية والفكر الذي سبقه: كلام الشيعة في أزلية "النور المحمدي" ومتابعة أهل السنة لهم في ذلك مستندين إلى أحاديث يستنتج منها قدم "النور المحمدي" وأسبقيته لشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم – الغنوصية المسيحية (كليمنتس وكلامه في "النبي الواحد") – الفلسفة الأفلاطونية الحديثة – مذهب الإسماعيلية الباطنية والقرامطة... (فليراجع كلام عفيفي).
وتسترسل الكاتبة بقولها: ومن ناحية ثانية: نخالفه في نوعية العلاقة التي أثبتها بين الحقيقة المحمدية والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. يقول: "... وهي (الكلمة المحمدية) شيء يختلف تمام الاختلاف عن شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بل ليس بينهما من الصلة إلا ما بين الحقيقة المحمدية وأي نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل أو ولي من الأولياء. فالكلمة المحمدية إذن شيء ميتا فيزيقي محض خارج عن حدود الزمان والمكان..." (فصوص 2/221). وتضيف الكاتبة في تعليقها: وهذا الكلام يخالف موقف ابن عربي من "الحقيقة المحمدية" صراحة. وتشرح الكاتبة: ولذلك نقول: إن العلاقة بين الحقيقة المحمدية وبين أي نبي من الأنبياء تختلف عن العلاقة بينها وبين النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالحقيقة المحمدية التي هي النور المحمدي والتي لها أسبقية الوجود على النشأة الجسدية المحمدية، لها ظهور في كل نبي بوجه من الوجوه (نواب محمد: مظهر الحقيقة العيسوية من الحقيقة المحمدية، والحقيقة الموسوية من الحقيقة المحمدية) إلا أن مظهرها الذاتي التام واحد، هو: شخص محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك يستعملها ابن عربي دون فصل بل على الترادف: فكثيراً ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم وهو يقصد "الحقيقة المحمدية" وهذا لا يكون لغيره من الأنبياء. والفصل السابع والعشرون الذي يشرح فيه ماهية "الحقيقة المحمدية" هو بنظرة مميزة شرح لحال النبي محمد صلى الله عليه وسلم المحدد زماناً ومكاناً. وسيظهر ما أوردناه خلال النصوص التي سنشير إليها في متن الرسالة. (على حد قول الكاتبة)
[10] - انظر "هباء".
[11] - راجع كلام ابن عربي عن كيفية ومراتب نشأة العالم من الحقيقة المحمدية: عنقاء مغرب ص ص 40-43.
[12] - تقول الكاتبة: هذه النتيجة التي توصلنا إليها تخالف ما ذهب إليه أبو العلا عفيفي في مقاله "نظريات الإسلاميين" الذي أشرنا إليه سابقاً، فهو في مقاله يوَحد بين حقيقة الحقائق والحقيقة المحمدية.
[13] - انظر "أمية".
[14] - يراجع بخصوص "الحقيقة المحمدية" عند ابن عربي:
- الفتوحات ج 3 ص 444.
- بلغة الغواص ق ق 8-11.
- الفتوحات ج 2 ص ص 87-88.
- شق الجيوب. ورقة 21.
- كتاب التجليات. نشر عثمان يحيى. مجلة المشرق 1966 ص ص 674-677 مع الهوامش
العنوان: "تجلي الإشارة من عين الجمع والوجود".
- فصوص الحكم. فهرس الاصطلاحات. مادة "الحقيقة المحمدية".
كما يراجع:
- تعريفات الجرجاني. مادة "الحقيقة المحمدية".
- "رسالة التحقيقات الأحمدية في حماية الحقيقة المحمدية" للشيخ أحمد بن إسماعيل بن زين العابدين البرزنجي. ط. القاهرة 1326هـ.
- الحياة الروحية في الإسلام. الدكتور محمد مصطفى حلمي. ص ص 116-121 (نظرية الحلاج في الحقيقة المحمدية).
- طواسين الحلاج. طس السراج. ص ص 191-194. نشر الأب نويا (يظهر منه أن لمحمد صلى الله عليه وسلم صورتين مختلفتين: صورته نورا أزليا قديما كان قبل الأكوان ومنه استمد كل علم وعرفان. وصورته نبيا مرسلا وكائنا محدثاً (انظر المرجع السابق أيضاً))
- المضنون به على غير أهله. الغزالي. ص ص 184-186 (معنى قوله صلى الله عليه وسلم: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين).
- ابن الفارض والحب الإلهي. د. محمد مصطفى حلمي ص ص 352-381، حيث يبين الدكتور حلمي أن لابن الفارض نظرية في الحقيقة المحمدية لا تقل في أهميتها عن نظرية ابن عربي، كما أنها لا تختلف عنها كثيراً. إذ أن القطب (الحقيقة المحمدية) عند ابن الفارض وعند ابن عربي حقيقة واحدة قوامها فكرة واحدة هي : أن القطب مبدأ الوجود. وأصل الحياة والتكوين، وواسطة الخلق ومنبع العلم، ومفيض القدرة على التصرف – كما أنه يقارن بين نظرية ابن الفارض في الروح المحمدي وبين نظريات: اليهود (الكلمة) المسيحية (الكلمة)، أفلوطين (الفيض)، الإسماعيلية (العقل الأول)، الحلاج (نور محمد صلى الله عليه وسلم)، كليمان الاسكندري (النبي الواحد)، الزرادشتية (الكلمة الإلهية).
- من التراث الصوفي. لسهل بن عبدالله التستري. د. محمد كمال إبراهيم جعفر دار المعارف بمصر الطبعة الأولى 1974 ص ص 213-214 حيث يرجع إلى حد ما فكرة الحقيقة المحمدية إلى إبراهيم بن أدهم، وينوه بأثر سفيان الثوري (ت 261 هـ) في عبارته "عامود النور".
[15] - انظر فهرس الأحاديث حديث رقم (2).