الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،، فهذا هو اللقاء الثالث من لقاءات:( الترجيح في قول الترمذي: حسن صحيح)، وكنا قد ذكرنا أجوبة ابن الصلاح وابن دقيق العيد رحمهما الله، وما أورده العلماء على هذه الأجوبة. وفي هذا اللقاء_ إن شاء الله_ نذكر جوابي ابن كثير، وابن حجر رحمهما الله. جواب ابن كثير رحمه الله، وهو رابع الأجوبة
وذهب رحمه الله إلىٰ أنَّ الترمذي يقول ذلك في الحديث الذي هو أدنىٰ من الصحيح وأعلىٰ من الحسن، فهو فاق الحسن، ولم يَصِلْ إلىٰ الصحيح بعدُ، فأصبح في مرتبة بين المرتبتين؛ مُشَرَّبٌ منهما؛ فقال فيه الترمذي: ((حسن صحيح))؛ أي: باعتبار درجته المتوسطة بين المرتبتين.
حيث قال رحمه الله_ في" اختصار علوم الحديث"_:
"والذي يظهر لي: أنه يُشَرَّبُ الحكم بالصحة علىٰ الحديث كما يُشَرَّبُ الحسن بالصحة؛ فعلىٰ هذا يكون ما يقول فيه: ((حسن صحيح)) أعلىٰ رتبة عنده من الحسن، ودون الصحيح، ويكون حكمه علىٰ الحديث بالصحة المحضة أقوىٰ من حكمه عليه بالصحة مع الحسن. والله أعلم".
قال العراقي رحمه الله:
"وهذا الذي ظهر له؛ تحكُّمٌ لا دليل عليه، وهو بعيدٌ من فَهْم معنىٰ كلام الترمذي. والله أعلم".
وقال ابن حجر رحمه الله:
"وأما جواب الشيخ عماد الدين ابن كثير، وقول شيخنا: إنه تحكُّم لا دليل عليه. فقد استدل هو عليه فيما وجدته عنه بما حاصله: أن بين الحسن والصحة رتبة متوسطة.
فللقبول ثلاث مراتب: ((الصحيح)) أعلاها، و((الحسن)) أدناها. والثالثة ما يتشرب من كل منهما، فإنَّ كلَّ ما كان فيه شَبَهٌ من شيئين ولم يتمحَّض لأحدهما اختص برتبة مفردة؛ كقولهم للمُزِّ وهو: ما فيه حلاوة وحموضة: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ".
ثم قال ابن حجر رحمه الله:
"قلت لكن هذا يقتضي إثبات قسم ثالث ولا قائل به. ثم إنه يلزم عليه ألَّا يكون في كتاب الترمذي حديث صحيح إلا النادر؛ لأنه قل ما يعبر إلا بقوله ((حسن صحيح)).
وإذا أردت تحقيق ذلك، فانظر إلىٰ ما حكم به علىٰ الأحاديث المخرجة من ((الصحيحين)) كيف يقول فيها ((حسن صحيح)) غالبا". اهـ.
وقال ابن رجب أيضا معترضا علىٰ جواب ابن كثير:
"وهذا بعيد جدًّا؛ فإن الترمذي يجمع بين ((الحسن)) و((الصحة)) في غالب الأحاديث الصحيحة المتفق علىٰ صحتها، والتي أسانيدها في أعلىٰ درجة الصحة؛ كمالك عن نافع عن ابن عمر، والزهري عن سالم عن أبيه، ولا يكاد الترمذي يفرد ((الصحة)) إلا نادرًا، وليس ما أفرد فيه الصحة بأقوىٰ مما جمع فيه بين الصحة والحسن".
قلت:
قد أوردا علىٰ جواب ابن كثير ما يلي:
1- أنَّ جوابه هذا يقتضي إثبات قسم ثالث، ومرتبة ثالثة من مراتب القَبول، ولا قائل بذلك.
2- أنَّ جوابه هذا يلزم منه ألَّا يكون في كتاب الترمذي حديث صحيح إلا النادر؛ لأنه قَلَّما يعبر إلا بقوله: ((حسن صحيح)).
3- أنه ثبت أن الترمذي –رحمه الله- يقول هذا في أحاديث صحيحة، متفق علىٰ صحتها، تُروىٰ بأسانيد في أعلىٰ درجات الصحة؛ كمالك عن نافع عن ابن عمر، والزهري عن سالم عن أبيه.
جواب ابن حجر رحمه الله، وهو خامس الأجوبة
رغم أنَّ ابن حجر -رحمه الله- مال إلىٰ جواب ابن دقيق العيد وقوَّاه في ((نكته علىٰ ابن الصلاح)) حيث قال: "وفي الجملة أقوىٰ الأجوبة ما أجاب به ابن دقيق العيد. والله أعلم".
غير أنه خالفه في ((نزهة النظر)) واختار جوابًا آخر، مركبًّا من جزئين.
حيث قال رحمه الله:
"فإنْ جُمِعا؛ أي ((الصحيحُ)) و((الحسنُ))، في وصفٍ واحدٍ؛ كقول الترمذي وغيره: ((حديثٌ حسنٌ صحيحٌ))، فللتردد الحاصل من المجتهد في الناقل: هل اجتمعتْ فيه شروط الصحة أو قَصُرَ عنها، وهذا حيث يَحْصل منه التفرد بتلك الرواية".
ثم قال رحمه الله:
"ومُحَصَّل الجواب: أنّ تردُّدَ أئمة الحديث في حال ناقلِهِ اقتضىٰ للمجتهد أن لا يصفه بأحدِ الوصفين، فيُقال فيه: ((حَسَنٌ)) باعتبار وصْفِهِ عند قومٍ، ((صحيحٌ)) باعتبارِ وصْفِهِ عند قومٍ، وغايةُ ما فيه أنه حُذِف منه حرفُ التردد؛ لأنّ حقه أن يقول: ((حسنٌ أوصحيحٌ))، وهذا كما حُذِفَ حرف العطف مِن الذي بعده.
وعلىٰ هذا فما قيل فيه: ((حسنٌ صحيحٌ)) دون ما قيل فيه ((صحيحٌ))؛ لأن الجزمَ أقوىٰ مِن التردد، وهذا حيث التفرد.
وإلا إذا لم يحصل التفرد فإطلاق الوصفين معًا علىٰ الحديث يكون باعتبارِ إسنادين: أحدُهما ((صحيحٌ))، والآخر ((حسنٌ)).
وعلىٰ هذا فما قيل فيه: ((حسن صحيح)) فوقَ ما قيل فيه: ((صحيح)) فقط -إذا كان فرداً- لأن كثرة الطرق تقوِّي". اهـ.
قلت:
فمحصلة جوابه: أن الحديث إما أن يكون له إسناد واحد أو أكثر.
فإن كان له إسناد واحد فيكون المعنىٰ : أنه ((حسن)) باعتبار وصف راويه المتفرد به عند قوم، ((صحيح)) باعتبار وصفه عند قوم آخرين؛ وعليه فما قيل فيه: ((حسن صحيح)) دون ما قيل فيه ((صحيح))؛ لأن الجزم أقوىٰ من التردد.
وإن كان له أكثر من إسناد؛ فيكون المعنىٰ : أنه ((حسن)) باعتبار إسناد، ((صحيح)) باعتبار إسناد آخر؛ وعليه فما قيل فيه: ((حسن صحيح)) فوق ما قيل فيه ((صحيح)) فقط إذا كان فردًا؛ لأن كثرة الطرق تقوي.
قلت:
فأما الجزء الأول من الجواب فيرد عليه أمور بعضها مما أورده ابن حجر نفسه علىٰ أجوبه غيره من أهل العلم:
أولا: "أن الترمذي نفسه يجمع هذين الوصفين ((حسن صحيح)) في غالب الأحاديث الصحيحة المتفق علىٰ صحتها، والتي أسانيدها في أعلىٰ درجات الصحة؛ كمالك عن نافع عن ابن عمر، والزهري عن سالم عن أبيه. وأمثال هذه الأسانيد مما لا يُختلف في رواتها، وغالب هذه الأحاديث مما اتفق علىٰ إخراجها البخاري ومسلم في ((صحيحيهما))، وقد تلقاها الناس بالقبول؛ فأين هذا الخلاف الذي يحكيه الترمذي رحمه الله؟!
ثانيا: أنَّ الترمذي إمام مجتهد، ليس مُقَلِّدًا؛ والمتبادر أنه يحكم علىٰ الحديث بالنسبة إلىٰ ما عنده، لا بالنسبة إلىٰ ما عند غيره من النقاد، وقد اعتبر الحافظ ابن حجر هذا مما يقدح في جواب من أجاب عن أصل الإشكال بنحو ما أجاب هو به فيما يتعلق بما له إسناد واحد، وهو وارد عليه أيضا!
ثم ما بال الترمذي لا يحكي الخلاف إلا فيما له إسناد واحد من الحديث؟! فإذا كان من شأنه أنه يحكي الخلاف فيما له إسناد واحد، فلماذا لا يحكي الخلاف أيضا فيما له إسنادان فأكثر؟! بل ما له لا يحكي إلا اختلافهم في صحة الحديث وحُسْنِه؟! ألم يكن من باب أولىٰ –إذا كان ذلك من شأنه- أن يحكي اختلافهم في صحة الحديث وضعفه، أو حسن الحديث وضعفه؟!
فما رأيناه –مرة- يقول: ((صحيح ضعيف))، ولا: ((حسن ضعيف)).
بل من عادة الترمذي –رحمه الله- أنه يسوق أقوال السابقين عليه صريحة من دون اختصار، فضلا عن مثل هذا الاختصار الموهم، بل كثيرا ما يسوق أقوال أهل العلم مسندة إليهم.
ثالثا: لازم هذا أن يكون الترمذي –علىٰ إمامته- لم يترجح عنده الصواب في كثير من أحاديث كتابه؛ لأنه يُكثر من الجمع بين هذين الوصفين في كتابه! وهذا من أبعد ما يكون.
رابعًا: أنه لو أراد ذلك؛ لأتىٰ بـ(الواو) التي للجمع؛ فيقول: ((حسن وصحيح))، أو أتىٰ بـ(أو) التي للتخيير أو التردد؛ فيقول: ((حسن أو صحيح)).
خامسًا: أنَّ لازم هذا أنْ يكون ما قال فيه الترمذي ((حسن صحيح)) دون ما قال فيه: ((صحيح)) فقط؛ لأن الجزم أقوىٰ –بلا شك- من التردد، وهذا –كما ترىٰ - فيه ما فيه؛ لأن الترمذي يُكثر في كتابه من الجمع بين هذين الوصفين، ولا يُفرد الوصف بـ((الصحيح)) إلا نادرًا؛ فعلىٰ هذا تكون الأحاديث الصحيحة المتفق علىٰ صحتها في كتابه قليلة، مع أنَّ غالبها مما اتفق علىٰ صحتها الشيخان، وتلقاها الناس بالقبول".
وأما الجزء الثاني من الجواب، فيرد عليه ما أوردناه علىٰ ابن الصلاح في جوابه الأول؛ فليُنظر. نكتفي بهذا القدر، ونذكر في اللقاء القادم_ إن شاء الله تعالى_ آخر الأجوبة، وهو جواب ابن رجب رحمه الله. وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم