بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لقد أصبح من البديهي في مجال العلوم عامة، والعلوم النظرية خاصة، كل رأي قابلا للقبول والرفض والتعديل والإضافة والحذف والتعليق، وهذا كله يندرج تحت ما يسمي بـ (الاستدراك) بل أصبح الاستدراك منهجا من مناهج البحث عامة، والبحث اللغوي خاصة، وأصبح كذلك وسيلة من وسائل نمو البحث اللغوي وتطوره، فإذا تخيلنا علي سبيل المثال، أن البحث توقف عند كتا (الكتاب) لسيبويه 180 هـ. لكان البحث في حال من الجمود والعقم، لكن الاستدراك جعل من هذا المجال مجالا خصبا، وذلك بإفرازات العقول التي تناولت هذا الكتاب بالشرح والنقد والتحليل .. الخ من طرق الاستدراك المعددة كما سنعرف.
ولأهمية منهج الاستدراك في البحث العلمي وجد أن عددا كبيرا من مصادر الدراسة اللغوية، إن لم تكن كلها، تفوح بهذا المنهج بصورة تدعو إلي ترسيخ هذا المنهج، ووضع أسس له في المجال اللغوي تبدأ بتعريفه، وبيان مترادفاته، وأنواعه، وطرقه ... إلي غير ذلك من وسائل ترسيخ المنهج.
واللافت للانتباه أن المكتبة اللغوية في حاجة إلي مثل هذا لانوع من الدراسات، ليس في مجال كتب اللغة فحسب، بل في كتب اللغة المحضة، والشروح اللغوية، والتفاسير، وكتب الصحاح من الحديث ... الخ.
وقد لفت نظر الباحث أن كتاب (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) لابن حجر العسقلاني 852 هـ، قد توفرت فيه مادة غزيرة من الاستدراكات التي انفرد بها ابن حجر تعقيبا علي اللغويين وغيرهم، وذلك علي مستويات التحليل اللغوي المتعددة: الصوتية والصرفية والنحوية والمعجمية والدلالية.
ومن العلوم أن الذي يتصدي لشرح نص ما؛ خاصة النص القرآني، أو الحديث الشرف؛ كما فعل ابن حجر في هذا السفر العظيم، لا بد أن يحمل في جعبته العديد من طرق التحليل ليس فيها شخص الناحية المتخصصة فحسب، بل في علوم اللغة، والبلاغة. وهذا لا يعني أن يكون الشارخ لنص متخصصا في اللغة؛ فمن الملاحظ أن كتب التفسير مليئة بالنواحي اللغوية والبلاغية، وكذا كتب شرح الحديث الشريف، ومنها الشرح الذي بين أيدينا.
فابن حجر العسقلاني ليس من علماء اللغة، وليس له إنتاج لغوي يذكر، ومع ذلك فقد تشبع شرحه بآراء عدد كبير من اللغويين الذين ذكرهم، وآراء عدد آخر لم يذكر أسماءهم، ليس هذا فحسب بل أردف ذلك بآرائه هو بصورة تدعو إلي التنقيب عن هذه الآراء علي المستويات اللغوية المتعددة، تلك الآراء التي انفرد بها وحده دون آراء السابقين، وهذه الآراء قد تكون مؤيدة أو مخالفة لمن سبقه.
ولكثرة المادة اللغوية الاستدراكية في فتح الباري، والرغبة في تعميق هذه الدراسة، والبعد عن السطحية في النتائج، آثر الباحث الاستدراكات التي تمثلث الظواهر الصوتية، ودراسة هذه الظواهر في ضوء البحث اللغوي القديم من ناحية، وما توصل إليه علم الأصوات المعاصر phonetics من ناحية أخري.
ليس هذا فحسب، بل لوجود علاقة بين المستويات اللغوية عامة، فقد وضعت الدراسة إطارا، طبقا لاستدراكات ابن حجر، تناقش فيه العلاقة بين المستوي الصوتي والمستوي الدلالي علي وجه الخصوص.
إذا يتضح أن مادة الدراسة سوف تشتمل علي:
أولا: الظواهر الصوتية في استدراكات ابن حجر.
ثانيا: الدراسات الصوتية لدي علمائنا القدامي.
ثالثا: الدراسات الصوتية المعاصرة المنشورة عبر الكتب والدوريات. والأبحاث المنشورة عبر الشبكة العالمية للمعلومات المسماة (بالانترنت) 1.
وتتجه هذه الصفحات نحو ترسيخ منهج ابن حجر الصوتي، خاصة عند عالم غير لغوي، ومع ذلك انتشرت هذه الظواهر الصوتية في أماكن عديدة، ومن ثم نحاول فيها بيان محاور هذا المنهج، واتفاقه مع الدراسات اللغوية القديمة والحديثة، واختلافه، وكذا الكشف عن معالم استدراكاته اللغوية.
ولا يخفي أن علم الأصوات يتعامل مع قضايا كثيرة 7 مثل الاهتمام بجهاز النطق تشريحا، ومخارجچ الأصوات، وصفاتها، وعلم الأصوات الفيزيائي، وسماع الصوت، وقوة الذبذبة، والموجات الصوتية، وأنواعها، وتصنيف الأصوات ... الخ. من قضايا أفاضت كتب علم اللغة عامة، وعلم الأصوات خاصة في الحديث عنها بما لا يدع مجالا لتكرارها هنا.
بل تركز هذه الدراسة بصورة أساسية علي الجانب التطبيقي أكثر من الجانب التنظيري.
ترجمة ابن حجر
هو أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن حجر الشافعي العسقلاني الأصل المصري المولد.
ولد في الثالث والعشرين من شعبان 733 هـ، وتوفي في أواخر ذي الحجة 852 هـ.
ومؤلفاته كلها مرتبطة بالحديث الشريف والطبقات، ومنها:
1 - فتح الباري في شرح صحيح البخاري.
2 - الإصابة في تمييز الصحابة.
3 - تهذيب التهذيب.
4 - بلووغ المرام من أدلة الأحكام.
5 - مختصر تهذيب الكمال 2.
ويحتل شرح صحيح البخاري المسمي بـ (فتح الباري) مكانة عظيمة، إذ يعد هذا الشرح العظيم أفضل شرح وأعمه نفعا لصحيح البخاري، والذي يعد ثاني كتاب بعد كتاب الله تعالي، وتأتي أهميته من كونه شرحا لأصح ما ورد عن رسول الله صلي اللّه عليه وسلم من حديث، وكذلك لما تضمنه من فقه وأصول ولغة بمستوياتها المتعددة.
وقد شغلت آراء ابن حجر قدرا كبيرا من شرحه للأحاديث، إذ لا يكاد يخلو شرح الحديث تقريبا من إشارات لغوية سواء لغيره أم له، أن للاثنين معا. وكذلك كانت الاستدراكات المرتبطة بالمستوي الدلالي أكثر الأنواع ورودا، تليها الاستدراكات علي المستوي النحوي، ثم علي المستوي الصوتي، ثم علي المستوي المعجمي، ثم أخيرا أقل الاستدراكات علي المستوي الصرفي، وكل منها في حاجة إلي بحث مستقل يوضح منهج ابن حجر في استدراكاته.
خطة الدراسة
تدور صفحات هذا البحث حول المحاور التالية:
الأول: حذف الأصوات.
ثانيا: زيادة الأصوات.
ثالثا: اختلاف الضبط (الصوائت).
رابعا: الإظهار والإبدال.
خامسا: الصوائت القصيرة.
سادسا: الأصوات والقراءات، وتشتمل علي:
1 - الصوائت والقراءات.
2 - إحالة القراءة.
3 - القراءة والدلالة.
سابعا: العلاقة بين المستوي الصوتي والمستوي الدلالي.
-الخاتمة.
-هوامش البحث.
-المصادر والمراجع.
-الفهرست.
***
المستوي الصوتي
ليس المقصود من هذا التصنيف وضع فكر ابن حجر اللغوي تحت مجهر الدراسات اللغوية المعاصرة فيما يخص علم الأصوات وما وصل إليه من تقنيات نظرية وعملية أو غيره من المستويات فحسب؛ بل رصد الظواهر الصوتية التي أشارر إليها ابن حجر في شرحه، وإثبات رؤيته اللغوية فيما يخص هذا المستوي، وإثبات أن جوانب التحليل لم تكن علي مستوي دون غيره من المستويات.
لذلك تمكن الباحث من رصد عدد من الظواهر الصوتية من خلال استقراء هذا السفر العظيم فتكمن حسب ترتيب ورودها في الشرح، من رصد:
1 - حذف الأصوات.
2 - زيادة الأصوات.
3 - اختلاف الضبط (أو الحركة) أو اختلاف التوضيحات وتأييده بشواهد شعرية أحيانا.
4 - أ-فك الإدغام.
ب-الإبدال.
5 - أ-الضبط والقراءات.
ب-توثيق القراءة والإحالة إلي صاحبها.
ج-توجيه القراءة.
6 - العلاقة بين المستوي الصوتي وغيره من المستويات 3
ولم يكن انفراده بهذا الاهتمام الصوتي غريبا؛ بل تاريخ الدراسات اللغوية العربية يشير إلي أن هذا الاهتمام قديم منذ الخليل وسيبويه وابن جني وغيرهم. وهذا طبيعي لأن الأصوات، علي حد تعبير د. كمال بشر، "هي اللبنات الأولي في البناء الغوي وأساسه الذي يقوم عليه، ولا خير في بناء تهالكت لبناته 4
هذا وقد تطور البحث في علم الأصوات phonetics بصورة كبيرة في العصر الحديث، ولعل بحثا سريعا علي شبكة المعلومات (الإنترنت) يؤدي إلي الحصول علي آلاف المواقع والمجلات والكتب والأبحاث التي تدور في فلك علم الأصوات بصفة خاصة، وعلم اللغة بصفة عامة. وهذا يؤدي بنا إلي الإشارة إلي أهمية إضافة هذا الاتجاه إلي مصادر البحث اللغوي بصفة خاصة، إذ لم أطلب مصطلحا من مصطلحات علم اللغة عامة، وعلم الأصوات خاصة، إلا وحصلت علي كم كبير للغاية من المواقع والصفحات التي تناقش هذا المصلح قديما وحديثا.
أولا: حذف الأصوات:
الحذف ليس خاصا بالأصوات؛ بل هناك حذف علي مكونات النص مجتمعة؛ فقد يحذف صوت من كلمة نحو: حروف العلة، وحرف النون، والهمزة، والتاء، والتنوين، والحركات الضمة والكسرة والفتحة ... الخ 5. وقد تحذف كلمة من جملة نحو: المبتدأ، والخبر، والفاعل، والمفعول به، والمضاف، والمضاف إليه، والتوابع، والمستثني، والأفعال ... الخ 6.و قد تحذف جملة من نص نحو: جملة الشرط، وجوابه، وجملة القسم، وجوابها، والجملة بعد أحرف الجواب، وبعد إذ ... الخ 7، وقد تحذف أكثر من جملة من نص كذلك. بل الحذف ليس خاصا بالعربية وحدها؛ إذ يعد ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية8
وهذا يوحي بأن الحذف ظاهرة طبيعية في الدرس اللغوي أو في الاستعمال اللغوي خاصة، وقد جاء في الشرح قوله:" ... وقال البيضاوي يحذف حرف الجر من "أن " تخفيفا، والتقدير: لأن كان، أو: بأن كان، ونحوه: " أن كان ذا مال وبنين" 10، أي: لا تطعه لأجل ذلك. و حكي القرطبي تبعا لعياض أن همزة (أن) ممدودة، قال: لأنه استفهام علي جهة إنكار. قلت [أي ابن حجر] ولم يقع لنا في الرواية مد، لكن يجوز حذف همزة الاستفهام 11
فقد ورد في هذا لانص شاهدان عن الحذف، أحدهما عن القرطبي عن عياض، لكن المهم هو ما ورد عن ابن حجر، وهو حذف همزة الاستفهام جوازا؛ فقد استدراك علي ما سبقه بـ (لكن) حرف الاستدراك، بإضافة رأي آخر وهو رفض أن الرواية خالية من المد، أي رواية الحديث، ورواية الحديث بالفعل، كما رواها البخاري، خالية من المد، ففي الحديث:" ... فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم ... الخ "12
والواضح أنه استند هنا في جواز حذف همزة الاستفهام علي أن هذه الهمزة الاستفهامية"لما كانت هي الأصل في حروف الاستفهام جاز فيها ما لم يجز في غيرها من حروف الاستفهام "13 وقد جعل د. رمضان عبد التواب سقوط الهمز هذا مندرجا تحت قانون صوتي أطلق عليه قانون السهولة والتيسير14، وقال: ومما ينطبق عليه هذا القانون، ظاهرة"الهمز"في اللغة العربية، ومحاولة بعض القبائل العربية القديمة التخلص منها، وعلي الأخص قبائل الحجاز، كما تخلصت معظم اللهجات العربية الحديثة، وصوت الهمز عسير النطق، لأنه يتم بانحباس الهواء خلف الأوتار الصوتية، ثم انفراج هذه الأوتار فجأة، وهذه عملية تحتاج إلي جهد عضلي كبير15
وقد خضعت الهمزة إلي قوانين التحقيق في النطق من عدمه، وذلك من خلال كتب القراءات القرآنية، "فتحققها تميم وغيرهم من قبائل وسط الجزيرة وشرقيها، وتتخلص منها معظم البيئة الحجازية"16
وقد ورد شاهد هذا في قول المتنبي:
أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا…و البين جار علي ضعفي وما عدلا
.. والأصل أ أحيا فحذفت همزة الاستفهام، وكذا قول الشاعر:
فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر…أتوني وقالوا من ربيعة أو مضر
(يريد أمن ربيعة).و قال الكميت:
طربت وما شوقا إلي البيض أطرب …و لا لعبا مني وذو الشيب يلعب
أراد: أو ذو الشيب يلعب. ومنه قول ابن أبي ربيعة:
ثم قالوا تحبها قلت جهرا…عدد القطر والحصي والتراب
أظهر الأمرين فيه أن يكون أراد: أتحبها لأن البيت الذي قبله يدل عليه ... ولهذا ونحوه نظائر17
إذن استدراك ابن حجر في حذف الهمزة كان مستندا إلي آراء، وإن لم يذكر هذه الآراء. وقد استعمل هنا أداة الاستدراك الواضحة في معناها واستعمالها"لكن "
ومن نماذج الحذف للأصوات كذلك ما جاء في استدراك الشارح في شرحه للحديث رقم (2970) بقوله:"قوله كخ كخ وهي كلمة زجر للصبي عما يريد فعله ... وقد نازع الكرماني في كون الألفاظ الثلاثة عجمية، لأن الأول يجوز أن يكون من توافق اللغتين، والثاني يجوز أن يكون أصله حسنة فحذف أوله إيجازا والثاني من أسماء الأصوات. وقد أجاب عن الأخير ابن المنير فقال: وجه مناسبته. نه صلي اللّه عليه وسلم خاطبه بما يفهمه مما لا يتكلم به الرجل مع الرجل فهو كمخاطبة العجمي بما يفهمه من لغته، قلت وبهذا يجاب عن الباقي ويزداد بأن تجويزه حذف أول حرف من الكلمة لا يعرف، وتشبيهه بقوله كفي بالسيف شا، لا يتجه لأن حذف الأخير معهود في الترخيم واللّه أعلم 18
وهذا استدراك آخر مؤداه رفضه رأي الكرماني بتجويز حذف أول صوت من الكلمة بقوله إنه (لا يعرف).و يؤكد رأي ابن حجر آراء النحويين كذلك بأن الحذف في الغالب يصيب أواخر الكلم لا أوائله.19
وفي بعض الأحيان يرجع ابن حجر سبب الحذف لا إلي علة نحوية أو صرفية أو معجمية؛ بل إلي علة كتابية أو إملائية، كما في الشاهد: في جنبه، كذا للأكثر بالإفراد ولأبي ذر الجرجاني جنبية بالتثنية وذكر عياض أن في كتابه من رواية الأصيلي جنبه بالإفراد، لكن بياء مثناة من تحت بدل الموحدة، قال: وهو تصحيف. قلت: لعل نقطته سقطت من القلم، فلا ينبغي أن يعد ذلك رواية واللّه المستعان.20
ومن منهجه كذلك ترجيح إحدي الروايات استنادا علي التأويل النحوي، ومثال ذلك ما ورد من قوله (إنك متي يراك الناس) في رواية الكشميهني وحده (متي ما يراك الناس) بزيادة ما وهي الزائدة الكافة عن العمل، وبحذفها كان حق الألف من (يراك) أن تحذف لأن (متي) للشرط وهي تجزم الفعل المضارع، قال ابن مالك: يخرج ثبوت الألف علي أن قوله يراك مضارع راء بتقديم الألف علي الهمزة وهي لغة .. وعلي أن (متي) شبهت بـ (إذا) فلم يجزم بها، وهو كقول عائشة الماضي في الصلاة في أبي بكر: متي يقوم مقامك أو علي إجراء المعتل مجري الصحيح، كقول الشاعر: ولا ترضاها ولا تملق، أو علي الإشباع، كما قرئ "أنه من يتقي "، قلت: ووقع في رواية الأصيلي: متي يرك الناس بحذف الألف وهو الوجه "21
فعلي الرغم من الأدلة التي ساقها ابن مالك لتخريج ثبوت الألف في الرواية الخاصة بالكشميهني، فإن ابن حجر يرجح الرواية الثانية بحذف الألف، مع ملاحظة عدم ذكره لمسوغات هذا الترجيح. وترجيح ابن حجر-فيما نري -له ما يبرره؛ إذ كيف تكون (متي) شبيهة ب (إذا) وهي داخلة علي مضارع (يراك)؛فالراجح أن (إذا) تدخل علي الماضي كما في قوله تعالي "إذا سألك عبادي عني"22و:"إذا جاءك؟؟؟ ... "23و"إذا زلزلت الأرض زلزالها"24و:"إذا جاء نصر اللّه والفتح"25.
ولم يقف ابن حجر عند حد ترجيح رواية الحديث فقط، بل تعداه إلي ترجيح قراءة قرآنية دون أخري كما في "قوله عن ابن أبي مليكة هو عبد اللّه بن عبيد اللّه قوله عن عائشة في رواية ابن جريج عن ابن أبي مليكة سمعت عائشة وسيأتي في التفسير قوله: كانت تقرأ"إذ تلقونه "أي بكسر القاف مخففا في الخبر حيث قال: وتقول: الولق: الكذب، والولق بفتح الواو واللام بعدها قاف. وقال الخطابي: هو الإسراع في الكذب ... قلت لكن القراءة المشهورة بفتح اللام وتشديد القاف من التلقي وإحدي التاءين فيه محذوفة.26
وأحيانا يربط رأيه الصوتي مستندا إلي الدلالة من ناحية وسوف نفرد لهذا بحثا خاصا، وإلي الأدب في التعامل مع أهل الثقة من ناحية أخري، وذلك كما ورد في الحديث المروي عن كيفية رد السلام علي غيري المسلمين؛ إذ يقولون السام عليكم، بمعني الموت، فاختلفت الروايات في رد المسلمين علي هذا، فإحداها تقول:"و عليكم "بإثبات الواو، والثانية"عليكم "بدون الواو، بحذفها وفي الأولي الواو لها عدة معان منها:
1 - عاطفة، والمعني، وعليكم ما تقولون فينا، فيجيب اللّه دعاءنا، ولا يجيب دعاءكم فينا.
2 - استئنافية، والمعني، أقول عليكم ما تريدون بنا أو ما تستحقون.
3 - زائدة، والمعني، عليكم ما تدعون به علينا.
أما ابن حجر فيقول:"بل الرواية بإثبات الواو ثابتة، وهي ترجح التفسير بالموت وهو أولي من تغليط الثقة ... 27"؛إذ لو كان التفسير بالموت، والواو ثابتة عطفا، فإن الموت أمر مشترك بين المسلمين وغيرهم علي حد سواء، أو كما قال رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم حينما رد علي المشركين حينما قالوا له: السام عليكم، فردّ: وعليكم، فقالت عائشة رضي اللّه عنها، أو لم تسمع قولهم؟! فقال صلي اللّه عليه وسلم: رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم فيّ ... 28
وهذه التأويلات وغيرها مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدلالة، وأيد ابن حجر ثبوت الواو لهذه التأويلات من ناحية، وإلي عدم تغليط أهل الثقة من الرواة، ومن حديث رسول اللّه صلي اللّه عليه وسلم من ناحية أخري، ومن ثم فسقوط الواو من عدمه هنا ارتبط فيه التأويل اللغوي العطف والاستئناف والزيادة بالدلالة.
وكثرة الاستعمال من القوانين المهمة التي تسهم في إسقاط بعض الأصوات أو تخفيفها، كما ورد في قوله تعالي:"بسم اللّه الرحمن الرحيم"حذفت ألف (اسم) لكثرة الاستعمال. وهذا القانون استند عليه ابن حجر في ترجيح رواية دون أخري.
وشاهده ما جاء في باب: أفرأيتم اللات والعزي29 ... قوله: في قوله: اللات والعزي، كان اللات رجلا يلت سويق الحاج سقط في قوله لغير أبي ذر ... قال الإسماعيلي: هذا التفسير علي قراءة من قرأ (اللات) بتشديد التاء قلت: وليس ذلك بلازم، بل يحتمل أن يكون هذا أصله وخفف لكثرة الاستعمال، والجمهور علي القراء والتخفيف ... 30؛فالتخفيف صورة من صور"بلي الألفاظ"علي حد تعبير د. رمضان عبد التواب 31، بل يعد قانونا من القوانين الصوتية مثل المماثلة والمخالفة والنبر والتنغيم؛ إذ من الحقائق المقررة، عند المحدثين من علماء اللغات، أن كثرة الاستعمال، تبلي الألفاظ، وتجعلها عرضة لقص أطرافها .. 32و هذه الحقيقة الصوتية ليست خاصة بالمحدثين وحدهم، بل سبق القدماء بتقرير هذه الحقيقةب؛ الأصل في (قم) (لتقم) وفي (اذهب) (لتذهب) إلا أنه لما كثر في كلامهم وجري علي ألسنتهم استثقلوا مجي ء اللام فيه مع كثرة الاستعمال فحذفوها مع حرف المضارعة تخفيفا كما قالوا (أيش) والأصل فيه (أي شي ء) وكقولهم (و يلمه) والأصل فيه (ويل أمه) فحذفوا لكثرة الاستعمال 33.
(يتبـع)