الاستعمار أم التّخريب والاستدمار :
ليت شعري،ما حظُّ المحتلِّ البغيض من التّعمير،وما مكانه من العمارة والعُمران، وأين هو من لفظه الشّريف ومعناه النّبيل،أم أنّه ارتضى لنفسه هذا اللَّبوس تغريرا؛فصاغه لكيانه تدليسا وتزويرا،ثمّ جاراه عليه عدوّ ملَّتنا،وبنو جلدتنا حتّى أضحى لا يُعرَفُ إلاّ به،ولا يُطلَقُ إلاّ عليه! .
ورحمة اللّه تترى على علاّمة الجزائر وحَبرها الثائر على (الاستعمار) محمّد البشير الإبراهيمي الّذي كتب في جريدة البصائر العدد الأوّل سنة 1323هـ = 1947م،تحت عنوان " كلماتٌ مظلومةٌ " مقالا هذا نصُّه:
(( عجيبٌ! ... وهل الاستعمار مظلوم ؟،إنّما يقول هذا " كولون الشّمال " (1) أصحاب الكيمياء الّتي أحالت السيّد عبدا، والدّخيل أصيلا،أمّا أنت فتوبتُك أن تحشرَ كلمةَ " مظلوم " هذه في الكلمات المظلومة.
هوِّن عليك،فإنّ المظلومَ هنا هو هذه الكلمة العربيّة الجليلة الّتي ترجموا بها لِمعنًى خسيسٍ.
مادّة هذه الكلمة هي " العِمارة "،ومن مشتقّاتها التَّعمير،والعُ مران،وفي القرآن:  هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُ مْ فِيهَا  [هود:61]،فأصل هذه الكلمة في لغتنا طيِّب،وفروعُها طيّبة،ومعناها القرآني أطيب وأطيب،ولا نُنكِرُ مِن استعمالاتها في ألسنة خاصّتِنا وعامّتِنا إلاّ " العمارة (2) " الدَّرْقاوِيَّة (3).
ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيِّب إلى المعنى الغربي الخبيث،ظلمٌ لها،فاستحقّتِ الدّخول من هذا الباب،والإدراج تحت هذا العنوان.
فالّذي صيّرَ هذه الكلمة بغيضةً إلى النّفوس،ثقيلةً على الأسماع،مستوخمة ً في الأذواق،هو معناها الخارجي – كما يقول المنطق -،وهو معنًى مرادف للإثم،والبغي،وا لخراب،والظلم،وا لتّعدِّي،والفسا د،وال نّهب،والسّرقة،و الشّرَه، والقسوة،والانته اك،والقتل،والحي وانيّة ... إلى عشرات من مئات من هذه الرّذائل تُفسِّرُها آثارُها،وتنجلي عنها وقائعُها.
وواعجبًا!،تضيقُ الأوطان على رحبها بهذه المجموعة،وتحمله ا كلمةٌ لا تمتُّ إلى واحد منها بنسب،وإذا كنّا نُسمِّي مَن يجلب هذه المجموعةَ من كبائر الإثم والفواحش إلى وطن – ظالِمًا،فأظلمُ منه مَن يَحشرُها في كلمةٍ شريفةٍ من لغتنا لِيخدعَ بها ويَغرَّ،وليُهوِ ّن بها على الفرائس شراسةَ المفترِس،وفَظاع ةَ الافتراس.
أما والله لو أنّ هذا الهيكلَ المسمَّى بالاستعمار كان حيوانًا لَكان من حيوانات الأساطير بألفِ فمٍ للالتهام، وألفِ معدةٍ للهضم،وألفِ يدٍ للخنق،وألفِ ظلفٍ للدّوْس،وألفِ مخلبٍ للفرس،وألفِ نابٍ للتّمزيق،وألفِ لسانٍ للكذب وتزيين هذه الأعمال - ولَكان مع ذلك هائجًا،بادِيءَ السّوْءات والمقابح على أسوءِ ما نعرفه من الغرائز الحيوانيّة.
سَمُّوا الاستعمارَ تَخْريبًا – إذ لا تصحُّ كلمة استخراب في الاستعمال -؛لأنّه يُخرِّبُ الأوطانَ،والأدي انَ، والعُقولَ،والأف كارَ،ويَهدِمُ القِيَمَ،والمقا ماتِ والمُقوِّماتِ،و القَوْميّاتِ.
وخُذوا العهدَ على المجامعِ اللُّغويّة أن تمنعَ استعمالَ هذه الكلمة في هذا المعنى الّذي لا تقومُ بحملِهِ عَرَبَةُ مَزابل )) .
– عن عيون البصائر (ص573 – 575) –
ويراجع :
1- لسان العرب (4/ 604).
2- أساس البلاغة (ص313 ع2).
3- مختار الصّحاح (ص454).
4- القاموس المحيط (1/ 137).
5- العين (2/ 137).
6- المصباح المنير (2/ 429).
7- غريب القرآن (ص34).
8- مفردات الرّاغب (كتاب العين/عمر).
9- المعجم الوسيط (ص627 ع 1-3).
10- معجم الأغلاط اللّغويّة المعاصرة (ص463 رقم 1345).
11- الجامع لأحكام القرآن (9/ 56-57).
12- فتح الباري (5/ 561-562).
13- آثار الإمام محمّد البشير الإبراهيمي (4/380 الاستعمار).
14- أرشيف منتدى الألوكة 1:مقال لأشرف السّلفي .
الهوامش :
(1) الكُولُون: المستوطنون. والشّمال: شمال إفريقيا .
(2) العمارة: معناها الرَّكْب.
(3) الدّرقاويّة:هي إحدى الطّرق الصّوفيّة،نسبت إلى صاحبها:العربي أو (محمّد العربي) بن أحمد بن الحسين بن علي أبي عبد الله الدّرقاوي الحسني المغربي (ت:1239هـ = 1823م)،وهي فرع من الشّاذليّة ـ الأعلام 4 / 223 ـ .
يتبع / وكتب : محمّد تبركان