تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: عِقْدُ الوفاء في نشر فضائل القيسي بين الأخلاء

  1. #1

    افتراضي عِقْدُ الوفاء في نشر فضائل القيسي بين الأخلاء

    عِقْدُ الوفاء
    في نشر فضائل القيسي بين الأخلاء



    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
    أما بعد:
    فقد قال الشافعي – رحمه الله - : " الحر من راعى وُد لحظة، وإفادة لفظة " .

    وإني لأتمثل – في الوفاء – قول الأديب الجزار المصري:

    هو ذا الربيع ولي نفس مشوقه ... فاحبس الركب عسى أقضي حقوقه
    فقبيح بي في شرع الهـــــــــــو ى ... بعـــد ذلك البر أن أرضى عقوقه
    لست أنسى فيه ليلاتٍ مضــــــت ... مــــع من أهوى وساعاتٍ أنيـــقه
    ولئن أضحى مجـــازاً بعدهـــــم ... فغــــــرامي فيه ما زال حقيـــقه
    يا صديقي والكــــريم الحــر في ... مثـل هذا الوقت لا ينسى صديقـــــه
    ضع يــداً منك على قلبي عســـــى ... أن تهـــدي بين جنبي خفوقـــه
    فاض دمعـــــــي مذ رأى ربع الهوى ... ولكـــــــم فاض وقد شام بروقه
    نفــــــــد اللؤلؤ مـــن أدمعـــــــــه ... فغـــــــدا ينثر في الترب عقيقـــه
    قــف معي واستوقف الركـــب فإن ... لم يقف فاتركه يمضـــي وطريقـــه
    ...................
    فبـــــه الحسن خليـــــق لم يزل ... والمعالي بابن (القيسي) خليقـــــه


    حديثي في هذه الرسالة، نوع شكر وثناء، وجزء من وفاء . عبر جواهر منثورة، من شمائل مدثورة، تقص سيرة كالدر، لداعية بر، لعلي أصدق إن قلت – بلا مجازفة – هو (أمير الواعظين)، ولو في العراق .

    قد تقول هذه مجازفة محب، فكم عهدنا من صرعى الحب: المبالغة، والإفراط . فهذا مسلك مكشوف، وسبيل معروف .

    فأقول: رويدك أخي الحبيب – حاطك الله برعايته – إن من خالطني، وعاشرني يعلم أني عسر الإطراء، قليل المبالغة في الثناء، أجد في نفسي تنافي بين لساني والمبالغة في المدح والقدح .
    متأسياً في ذلك بقول الإمام عبد الرحمن بن مهدي: " إذا تأكد الإخاء سقط الثناء " .

    فلا تظن – أخي القارئ – أني أبالغ في وصف شيخي الحبيب، اللبيب - الواعظ الناصح والمربي الناجح – عمر بن عبد الرزاق القيسي – رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به مع الحبيب المصطفى في جناته جنات النعيم - .

    فإني – والله – لا استسيغ المبالغة، بل ولا يطاوعني لساني عليها، وتأبى علي أناملي أن أخط حرفاً منها.
    فما تجده في رسالتي هذه – في بادي الرأي – ضرباً من المبالغة، ونوعاً من المغالاة، فهو والله واقع رأيته بعيني، وكلام سمعته بأذني، عاشرت صاحبه بضع سنين – في السفر والحضر، والسراء والضراء -.

    وكلامي مبني على مقاصد:

    المقصد الأول/ الوفاء بعهد الأخوة، فإن شيخنا الحبيب – رحمه الله – له علينا حق الشيخ والمربي، فضلاً عن حق الأخوة الإيمانية، فلعل إشاعة ذكره تحرك قلباً ساكناً بوجد صادق يسري لهبه إلى لسانه قائلاً: (رحمه الله ) فيوافق ساعة استجابة .
    أياديه كم قد قلدتني مكارماً ... عقدت بها عهداً من الود لا ينسى
    وما نسينا عهوداً للهوى كرمت ... نِعَمٌ قرعنا عليها سنناً ندما
    وأظلمت بالنوى أرجاء مقصدنا ... وصار وجدان ألف بعدكم عدما


    المقصد الثاني/ تفعيل باعث التأسي بذكر صورة عملية لداعية وهبه الله ( آلة التربية ) فملك زمام القلوب بسمته، وجزالة وعظة . فكل من سمع وعظه انقاد قلبه إلى الله بلا زمام، وصح سيره إليه بلا أسقام .

    المقصد الثالث/ التذكير بحقوق الأخوة، ووجوب مراعاتها، وبث آدابها . فإن عشرة الإخوان، ومحبة الخلان – المبنية على الإيمان – مما تسلي عن الأحزان، وتقرب من الرحمن.
    ولتشيع بين الأخوة المحبة المفقودة، وتعود الألفة المسلوبة؛ فإن سهام التفريق، ونبال الاختلاف قد مزق لحمة الأخوة الإيمانية. فمع تطاول أمد الفتن على القلوب عكرت صفوها، وكدرت ظنونها حتى فقدنا طعم المحبة في الله .
    فعلنا بذلك نستعيد لذة منهوبة، وابتسامة مفقودة، بلقط الدرر من جوهره النفيس، فهاك بعض فضائله أنثرها بين يديك جوهراً مصوناً، ولؤلؤاً مكنوناً من عِقْدِ وفائنا لشيخنا الحبيب – الجليس الصالح، والأنيس الناصح – رحمه الله – تعالى – وغفر له - .

    وأود أن اعتذر لأخواني الذين يعرفونه إذا رأوا تقصيراً في تعريفي به فإن قلمي عاجز عن بيان بعض ما له من حق علينا، ولعلنا نلجأ في أكثر الأحيان إلى الدموع تعبيراً عن الود والمحبة فإنها أبلغ من العبارة .
    ولا أدعي أني من أقرب الأخوة إليه لكن حسبي أني من ثمار دعوته، وتربيته ؛ فلهذا سعيت لسداد دينه علينا وفاءً بحقه .

    واعلم – يا رعاك الله – أني لم أرد الاستقصاء لأن القيسي – رحمه الله – قد تنقل في محافظات عديدة وله في كل موضع عبر وعظات فحسبي الدلالة والتنبيه على نتف يسيره تدل على أخواتها. وبيد الله التوفيق وهو من وراء القصد .

    الجوهرة الأولى: (عنايته بالتوحيد والمتابعة) .
    إن من أسباب نجاح الداعية معرفته بالطريق الموصلة إلى الله – تعالى – مقصداً ووسيلة – وقد وفق الله – سبحانه – القيسي – رحمه الله – لمعرفة التوحيد بأنواعه، وتجريد المتابعة بالعمل بالسنة الصحيحة منذ نعومة أظفاره، ومقتبل عمره .
    فكان مقارعاً ذكيا في المنافحة عن حمى التوحيد والسنة وسط بيئة رافضية، ورقابة بعثية يخوض غمارها بتؤدة نبوية، وحكمة شرعية .

    فقد كان يفتت الشبه الشركية، والتبعية العمياء لعلماء الضلالة بحنكة وذكاء يراعي حال المخاطب طفلاً أو شاباً أو كبيراً، في ظل المخاطر والمخاوف – وقد ناله جزء منها - فهو والله من أعظم الجهاد. وكان يغتنم في سبيل ذلك كل حدث كوني، أو اجتماعي، أو سياسي بتوظيف عبقري ينفذ به إلى القلوب لتوضيح التوحيد، ونبذ الشرك، وتحقيق المتابعة، وترك التقليد الأعمى .

    وقد مر البلد بظروف قاسية، وتعرض لنكبات متتابعة خلفت ركاماً هائلاً من الخوف والجوع إلا أنه كان – نحسبه كذلك والله حسيبه – صادق اللجأ إلى الله ينمي في الناس جانب التوكل على الله ، فهو كثير التعريف بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات، وما له من الحقوق والواجبات .

    وكان يعلمنا أن أعظم قاطع للعبد عن الله هو (النفس) فيعمد إلى تكسير أنفتها وكبرها وإعجابها ببيان حقيقتها ودناءتها بتصوير رائع يجعلك وأنت بين يديه تدخل حلبة صراع معها؛ فيبدأ أولاً بكشف قناعها فتظهر لك صورتها القبيحة ثم لا يزال يسترسل معك بكلماته النورانية معينا لك في الصراع حتى يجردها عن كل قناع، ثم بعد ذلك يمهد لك السبيل لأسرها فتكون طوع يديك قد بان عوارها وانكشف زيفها، ولا يزال وعظه النبوي كالمدد الإلهي يروضها، حتى تكون سلسلة القياد، فتعقد معك العزم على تصحيح الطريق بالتوبة النصوح. وكل هذا يكون في مجلس وعظ واحد . يعطي العبد دفعة إيمانية يسير بها على طريق الهداية ، وكل بحسبه – علماً وعملاً - .

    الجوهرة الثانية: (تعظيمه للحق إذا عرفه) .

    لقد كان للدور الأول الذي تضلع به وهو معرفة التوحيد والسنة أثر بالغ في هديه وسمته فقد كان من المعظمين للحق، المتواضعين له الآخذين به من أي أحد، ولو كان صغيراً . ويظهر لك هذا في درر من مواقفه العملية التالية :
    الدرة الأولى/ (الفتوى الظالمة).

    إن عبارة (الفتوى الظالمة)، و(الفتوى الجائرة) التي كان يظهرها لبيان تراجعه عن خطأ وقع فيه من أدل العبارات على تعظيمه للحق أولاً، وهضمه لنفسه ثانياً .
    فقد كان في بداية نشأته قد وقع عنده لبس في فهم كلام علمائنا في مسألة (العذر بالجهل) فكان يفتي بمقتضى ذلك مدة، ولما تبين له خطأ هذا الفهم، أعلن براءته من ذلك وكان إذا ذُكر هذا الموضوع لا يسميه إلا بالفتوى الظالمة، والجائرة .

    الدرة الثانية/(هذه المسألة تحتاج إلى غترة بلا عقال).
    لقد كان القيسي – رحمه الله – لا يتكلف العلم، وحسبه أن يجيب بما يعلم، ولا يأنف من قول: (لا أدري)، وكان كثيراً ما يسأل عن بعض المسائل من النوازل وغيرها فيقول – عبارته اللطيفة -: (هذه المسألة تحتاج إلى غترة بلا عقال) يقصد بذلك: أنها تحتاج إلى عالم، على جهة التعظيم لكون هذا اللباس هو الغالب على علمائنا الأجلاء .

    الدرة الثالثة/ (سرعة تراجعه إلى الحق) .

    لقد جربنا عليه مواقف عديدة تدرك من خلالها أن رجوعه إلى الحق جبلة فطرية فيه، فإنك تجد عند الكثيرين منا تلكأ في التراجع والأخذ بالحق. ويحتاج الواحد منا أن يغيب عن الناصح فترة – طويلة أو قصيرة – حتى لا يظهر تراجعه أمامه ، ثم بعد ذلك ينقاد لناصحه ويستجيب له ، أما هو فما يكاد يتضح له الحق حتى يطرق رأسه إطراقة خفيفة ثم يرفع رأسه متراجعاً، فما أجله من موقف . كغصن تفرع في أرومة الشرف والأصالة .

    وحدث لي معه قصة: لقد جاءنا القيسي – رحمه الله – إلى مدينتنا بعد أن سكن مدينة كركوك لظروف أمنية، وكانت والدته وأخوته لا يزالون يسكنون مدينتنا فكانت مدة زيارته يومين ، فلما حان موعد رحيله طلب مني بعض الأخوة أن أكلمه في البقاء مدة أطول فأعتذر بأنه مرتبط بمشاغل مهمة لا يستطيع تأخيرها، وكان من ضمن كلامه أنه قال: ولتعرفوا أهمية مشاغلي أني مشتاق لأمي ولم أجلس معها الوقت الكافي، ومع هذا أنا مضطر للذهاب .
    فقلت له – من باب الإدلال عليه - : إن كنت فعلاً مشتاقاً لأمك فأبقى يومين آخرين . فاطرق رأسه قليلاً ثم رفعه قائلاً: سأبقى . فطار الأخوة بها فرحاً ؛ لأنهم سينعمون بمجالسته فيهما .
    ولكون هذه الصفة هي الغالبة عليه يستطيع من جالسه وخبره أن يجزم بمواقفه إذا اتضحت الأدلة . ففي يوم من الأيام حصلت مسألة من مسائل تزاحم الأحكام، والتدافع بين المصالح والمفاسد، فكلمه أحد الأخوة في المسألة فلم يقطع له بالقول، وكان على عجلة من أمره ناوياً السفر فجاءني الأخ وقال أخشى: أن قوله لا يكون موافقاً لما تقتضيه المصلحة ؛ لأن القيسي – رحمه الله – إذا خالف في المسألة وهو مسموع الكلمة قد تنشأ فتنة بين الشباب بسبب ذلك .
    فطمأنت الأخ وقلت له: سيرجع وهو موافق على ما أفتانا به بعض العلماء فإني أعرفه . وفعلاً لما رجع من سفره اتفق قوله مع قول أهل العلم .

    لا تَمدَحَنَّ اِمرأً حَتّى تُجرِّبَهُ ... وَلا تَذُمَّنَّهُ مِن غَيرِ تَجريبِ
    فَإِنَّ حَمدَكَ مَن لَم تَبلُهُ سَرَفٌ ... وَإِنَّ ذَمَّكَ بَعدَ الحَمدِ تَكذيبُ




    يتبع...............

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  2. #2

    افتراضي رد: عِقْدُ الوفاء في نشر فضائل القيسي بين الأخلاء

    الجوهرة الثالثة : (دعوته بخلقه وسمته) .

    لقد كان القيسي – رحمه الله - يتمتع بسعة صدر عظيمة، فهو من العمالقة في ابتلاع الهفوات من إخوانه وأحبابه، وإيجاد المعاذير لهم وتحسين الظن بهم . فلا ينفعل لزلة، ولا يتبرم من هفوة بل يتغافل تغافل الطبيب من صراخ، وضجيج المريض؛ لما في قلبه من سعة الرحمة والعلم . وكما قال ذو النون - رحمه الله -:(ما خلع الله على عبدٍ من عبيده خلعةً أحسن من العقل، ولا قلده قلادةً أجمل من العلم، ولا زينه بزينةٍ أفضل من الحلم، وكمال ذلك التقوى).

    وفي يوم من الأيام كان – رحمه الله – يسير في وسط سوق الخضار – ذاهباً إلى المسجد – فأخذ أحد السفهاء (طماطة – بندورة -) فضربه على ظهره وأفسد ملابسه .
    فماذا فعل؟ وقف ثم أخذ (الطماطة – البندورة -) فحملها ووضعها على جانب الطريق، ثم تابع سيره إلى المسجد .
    وكان أحد الناظرين لهذا الموقف رجل (شيعي) يجلس على أسكفة داره، وهو يشاهد المنظر كاملاً، فقال في نفسه والله هذا الخلق الذي يحمله هذا الرجل لا يكون إلا من تأثير عقيدة صحيحة، فتبعه حتى رآه يدخل المسجد فدخل وراءه، ثم بدأ يسأله فوجد منطقه يأسر القلوب فهداه الله – تعالى - .

    وكان – رحمه الله - يعتني بخلق الداعية لعلمه أن حال الداعية أبلغ من منطقه، وخلقه أنفذ من قوله إلى قلوب المخاطبين . فمن السمات الطاغية على مواعظه التركيز على مطابقة العمل للقول .
    وحسبي أن أقول لقد وصفه أحد كبار طلبة العلم - في وقته - والقيسي في مطلع الشباب قائلاً:" إن عمر القيسي هو أفضل من يمثل خلق الشاب السلفي في العراق" . وقد صدق .


    الجوهرة الرابعة : (تواضعه في كل شأنه) .

    إن القيسي – رحمه الله – كان لا يلتفت إلى المظهرية الجوفاء في كافة شؤون حياته فقد كان يركب دراجة هوائية يذهب بها إلى المسجد، وكان عفيفاً في مطعمه ومشربه فعمل في فرن للخبز، كل هذا وهو طالب العلم المقدم فلا يتقدم عليه أحد في مجلسه إلا أن يأذن له لما له من الهيبة في القلوب .

    فكان لا يرضى أن يقال له: (شيخ)، ويقول : إن ابن باز – رحمه الله – كان يقول : " الشيخ من جاز الصراط ". بل كان لا يعتبر نفسه شيخاً لأي واحد منا، ويعتبر نفسه أخاً لنا لا أكثر، مع أنه شيخنا بلا خلاف، بل إننا لنتجمل بتلمذتنا عنده .

    وكنت كلما سألته يقول لي: "هل سألت أحمد ذياب"، - أحد طلبة العلم وهو قرينه - فأقول له: لا، فيقول: "اذهب إليه وأسأله"، فعَلَّم الشباب هضم النفس عملياً، وزهدهم في الاعتداد بالنفس تربوياً .

    يلبس طاقيته المتواضعة، ويرتدي ثوبه، ولا يهتم كثيراً (بكويه) ؛ لأن إصلاح الروح كان مقدماً عنده على إصلاح اللباس، فهو لا يحرم المباح ولكنه ما أنفق أيام غرارته في لهو ولا أفراح .

    وطلبت منه مرةً بعد إلحاح من الأخوة أن يعقد لهم درساً في العقيدة، فرفض وقال: ما عندي شيء أعطيه لهم . فلما ألححت عليه وتحيلت رضي بشق الأنفس . وأنت تجد أن بعضنا عنده عشر ما عند القيسي ويرى نفسه نظير ابن عثيمين – رحمه الله - في التدريس .

    وكان شديد التحذير من التصدر، وحب الظهور، والتعالي على الأقران . ويعدها من آفات النفوس، والتي لا يتوانى في ذبحها بسكين العزم عند أول بوادرها، لأن هذا الداء من أعظم ما يفسد الدعوة ويرهقها، حتى أن الأخوة كانوا يتهيبون كل خطوة يقدمون عليها تكون سبباً للتصدر أو الترؤس .

    وكان من ذكائه وفطنته أنه يعلم الأخوة (بعد النظر) في كل ما يصدر منهم من أقوال وأعمال، ما الباعث والمحرك لها، ويسلط سياط الترهيب وبيان سوء العاقبة في العاجل والآجل من التطلع للبروز .

    ومرة رأى في يدي دفتراً قد كتبت فيه الآيات التي فيها إفراد الله – تعالى – بالعبودية ، فقال لي ما هذا الدفتر، فأجبته، فقال: لماذا تجمع هذه الآيات، هل ترى فيها فائدة ؟
    فقلت أريد جمعها في مكان لأحفظها .
    ثم سكت، وتكلم في موضوع آخر، لكني فهمت منه إشارة ذكية في الحث على البعد عن التصدر .

    الجوهرة الخامسة : (تفقده لإخوانه) .
    مما يتميز به القيسي – رحمه الله – تتبعه لأحوال إخوانه وسؤاله عنهم، فهو من أحرص من رأيت على إخوانه اهتماما بهم - تربية وتوجيهاً - .
    ويحرص على تصحيح أخطائهم بالطرق الشرعية بعيداً عن الإقصاء العدواني، والغفلة المضيعة . فكان يتعاهدهم بالحكمة، والموعظة الحسنة، وإن تعين الجدال بالتي هي أحسن مع بعضهم استعمله . بحس مرهف، ومنطق متعقل .

    ففي يوم من الأيام كنت أدرس بعض الأخوة كتاب (التحفة السنية) في النحو، فاستأذن وجلس مستمعاً، وكان من بين الحاضرين رجل من كبار السن يبلغ عمره الستين، وبعض الأطفال، أي ممن لا يستفيد من الدرس في الغالب . فقال لي – بعد انتهاء الدرس، ومستعملاً معي أسلوب التشجيع، والتوجيه، وعلى انفراد – ما فحواه – : لا بد على الداعية أن ينصح للمدعوين وأن يكون مجلسهم عنده لا للتكثر بهم، ولكن لينتفعوا .

    وقد تعدى اهتمامه الأحياء ليشمل من مات من أخوانه . ففي يوم من الأيام، بعد وفاة أخٍ لنا من الدعاة النابهين منذ أربع سنين، قال لي على طريقة التنبيه: كيف تعاهدكم لأخينا أياد غثيث – رحمه الله – هل تذكره بالدعاء؛ فإنه بحاجة لدعاء واستغفار إخوانه .
    اللهم يا غفور ويا رحيم اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم .

    ومن ( مفرداته الدعوية ) – مقارنة بنظرائه - والغالبة على منهجه الدعوي ( احتضان الصغار ) بصورة الأب الحنون، فما رأينا أحداً مثله يخاطبهم كما يخاطب الكبار، ويحمل هم هدايتهم وهو من البارعين في التسلل إلى القلوب بكلمات هادئة هادفة .
    فلو جلست تسمع موعظته للصغار لقلت: هذا الرجل مسدد منطقه بملك، إذ لا تجد من يقدر على تنويع الأسلوب بفن وبراعة من طبقة إلى أخرى، ومقدرة تامة على تصوير ما يريد بالصورة التي تناسب أعمارهم وينفذ بها إلى قلوبهم ، وهو توفيق إلهي بسبب الصدق في طلب هدايتهم .

    فكان يجلس من المغرب إلى العشاء – أحيانا – لأجل اثنين أو ثلاثة من الصغار، ويبدأ يتحدث معهم ويهتم بهم بأسلوب خلاب، يجعلهم يتأثرون بكلامه، وترى آثار وعظه فيهم ظاهرة .
    وإذا سأله طفل صغير أخذ يجيبه ويسترسل معه كأنما يكلم رأس قبيلة بصدق وعناية واهتمام بالغ .
    ومما تميز به عن أقرانه، أنه يحذر من الخطأ عند بداية منشأه، وقبل فشوه وانتشاره، فقد رزقه الله نظرا استباقياً للآفات القلبية، والعلل والأمراض .

    ولعل من فنونه التي ينفرد بها أو قل يتميز بها: (علم سد ذرائع الشهوات القلبية)، فهو من أخبر من رأيت في كشف تطبيقاته العملية، فله رصد عجيب للأخوة في هذا الباب، فلا يكاد يفوته تصرف إلا وحلل أبعاده النفسية الشهوانية، ثم يبدأ ينصح الأخ، ولا يكاد يخطأ له تشخيص .


    الجوهرة السادسة : (مواعظه تصرع القلوب) .
    إنه - رحمه الله - سلطان في الوعظ، وأمير في البيان، من جهة دخول كلامه إلى القلوب، وتأثيره فيها. لقد تميز وعظه بأسلوبين ظاهرين:

    الأول/ تسلطه على القلوب .. إن كل من سمع كلامه، رأى كأن قلبه بين يديه، وهو يجري له عملية جراحية كبرى من جهة أمراض الشبهات والشهوات، فتشعر أثناء كلامه كأنه يرقب قلبك ويضع الدواء المناسب لكل داء فيه .
    ومهما تلون الداء بغير صبغته كشف لك قناعة وأظهره على حقيقته، ولا شك أن هذا الأسلوب مأخوذ من طريقة شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم – رحمهما الله – وتمَيُّزِ القيسي – رحمه الله – في هذا الباب أنه استطاع تفعيل منهج الشيخين عملياً مما جعله نجماً متألقاً في سماء الدعاة إلى الله – تعالى - .
    الثاني/ تسلطه على المعاني .
    لقد وُهب – رحمه الله – قدرة على تجسيد المعاني بطريقة تقربها إلى الأذهان لكل درجات الفهم ، فإن تكلم عن الجنة والنار حسبته ينظر إليهما ويتكلم عنهما .
    ومما زاده في الوعظ تمكناً أنه لا يعظ ويديه في الماء، أو أنه في لحظة ترف فكري، أو تنعم جسدي ؛ فإن معرفة أسباب الثبات، والعمل بها، وتعليمها في ظرف مليء بالمحن، ومحاط بأشرس الفتن، في شظف العيش وانعدام الأمن . لا يكون إلا بتوفيق من الله – تعالى - .
    ففي ظل هذه الظروف لمع نجمه، وبرق في صورة شاب داعية مربي ملئه الأمل، قد جعل الجنة والنار نصب عينيه، وهما مادة موعظته، وقد أجاد في توظيفهما في سوق القلوب وقيادتها، مثبتاً إخوانه على الطريق .
    وبعدها فارق الدنيا برصاصات غدر – ولكل غادر لواء يوم القيامة – ليكون موته موعظة وعبرة للباقين .
    فيالها من نفوس عزيزة، ذات همم عالية .

    وَلَمَّا رَأوَا بَعْضَ الحَياةِ مَذلةً ... عليهم وعِز الموتِ غَيرَ مُحَرَّمِ
    أَبْوا أنْ يَذُوقُوا العَيْشَ والذَمُّ وَاقعُ ... عليه وماتُوا مِيْتَةً لَمْ تُذَمَّمِ
    ولا عَجَبٌ لِلأَسْدِ إِنْ ظَفِرَتْ بِهَا ... كِلابُ الأَعَادِي مِنْ فَصِيحٍ وَأَعَجَمِ
    فَحَرْبةُ وحْشِىٍّ سَقَتْ حَمزةَ الرَّدَى ... وَحَتْفُ عَلىٍّ في حُسَامِ ابن مُلْجَمِ
    فاللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيرا منها .
    وإنا لله وإنا إليه راجعون .

    أعده
    أبو زيد العتيبي - عفا الله عنه -
    11/ ذي القعدة / 1433
    والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين .

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

  3. #3

    افتراضي رد: عِقْدُ الوفاء في نشر فضائل القيسي بين الأخلاء

    رحمه الله تعالى.
    وبارك الله فيك من تلميذ بار.

  4. #4

    افتراضي رد: عِقْدُ الوفاء في نشر فضائل القيسي بين الأخلاء

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أبو أسماء الحنبلي النصري مشاهدة المشاركة
    رحمه الله تعالى.
    وبارك الله فيك من تلميذ بار.
    جزاك الله خيراً .

    للباطل صولة عند غفلة أهل الحق

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •