عِقْدُ الوفاء
في نشر فضائل القيسي بين الأخلاء
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فقد قال الشافعي – رحمه الله - : " الحر من راعى وُد لحظة، وإفادة لفظة " .
وإني لأتمثل – في الوفاء – قول الأديب الجزار المصري:
هو ذا الربيع ولي نفس مشوقه ... فاحبس الركب عسى أقضي حقوقه
فقبيح بي في شرع الهـــــــــــو ى ... بعـــد ذلك البر أن أرضى عقوقه
لست أنسى فيه ليلاتٍ مضــــــت ... مــــع من أهوى وساعاتٍ أنيـــقه
ولئن أضحى مجـــازاً بعدهـــــم ... فغــــــرامي فيه ما زال حقيـــقه
يا صديقي والكــــريم الحــر في ... مثـل هذا الوقت لا ينسى صديقـــــه
ضع يــداً منك على قلبي عســـــى ... أن تهـــدي بين جنبي خفوقـــه
فاض دمعـــــــي مذ رأى ربع الهوى ... ولكـــــــم فاض وقد شام بروقه
نفــــــــد اللؤلؤ مـــن أدمعـــــــــه ... فغـــــــدا ينثر في الترب عقيقـــه
قــف معي واستوقف الركـــب فإن ... لم يقف فاتركه يمضـــي وطريقـــه
...................
فبـــــه الحسن خليـــــق لم يزل ... والمعالي بابن (القيسي) خليقـــــه
حديثي في هذه الرسالة، نوع شكر وثناء، وجزء من وفاء . عبر جواهر منثورة، من شمائل مدثورة، تقص سيرة كالدر، لداعية بر، لعلي أصدق إن قلت – بلا مجازفة – هو (أمير الواعظين)، ولو في العراق .
قد تقول هذه مجازفة محب، فكم عهدنا من صرعى الحب: المبالغة، والإفراط . فهذا مسلك مكشوف، وسبيل معروف .
فأقول: رويدك أخي الحبيب – حاطك الله برعايته – إن من خالطني، وعاشرني يعلم أني عسر الإطراء، قليل المبالغة في الثناء، أجد في نفسي تنافي بين لساني والمبالغة في المدح والقدح .
متأسياً في ذلك بقول الإمام عبد الرحمن بن مهدي: " إذا تأكد الإخاء سقط الثناء " .
فلا تظن – أخي القارئ – أني أبالغ في وصف شيخي الحبيب، اللبيب - الواعظ الناصح والمربي الناجح – عمر بن عبد الرزاق القيسي – رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وجمعنا به مع الحبيب المصطفى في جناته جنات النعيم - .
فإني – والله – لا استسيغ المبالغة، بل ولا يطاوعني لساني عليها، وتأبى علي أناملي أن أخط حرفاً منها.
فما تجده في رسالتي هذه – في بادي الرأي – ضرباً من المبالغة، ونوعاً من المغالاة، فهو والله واقع رأيته بعيني، وكلام سمعته بأذني، عاشرت صاحبه بضع سنين – في السفر والحضر، والسراء والضراء -.
وكلامي مبني على مقاصد:
المقصد الأول/ الوفاء بعهد الأخوة، فإن شيخنا الحبيب – رحمه الله – له علينا حق الشيخ والمربي، فضلاً عن حق الأخوة الإيمانية، فلعل إشاعة ذكره تحرك قلباً ساكناً بوجد صادق يسري لهبه إلى لسانه قائلاً: (رحمه الله ) فيوافق ساعة استجابة .
أياديه كم قد قلدتني مكارماً ... عقدت بها عهداً من الود لا ينسى
وما نسينا عهوداً للهوى كرمت ... نِعَمٌ قرعنا عليها سنناً ندما
وأظلمت بالنوى أرجاء مقصدنا ... وصار وجدان ألف بعدكم عدما
المقصد الثاني/ تفعيل باعث التأسي بذكر صورة عملية لداعية وهبه الله ( آلة التربية ) فملك زمام القلوب بسمته، وجزالة وعظة . فكل من سمع وعظه انقاد قلبه إلى الله بلا زمام، وصح سيره إليه بلا أسقام .
المقصد الثالث/ التذكير بحقوق الأخوة، ووجوب مراعاتها، وبث آدابها . فإن عشرة الإخوان، ومحبة الخلان – المبنية على الإيمان – مما تسلي عن الأحزان، وتقرب من الرحمن.
ولتشيع بين الأخوة المحبة المفقودة، وتعود الألفة المسلوبة؛ فإن سهام التفريق، ونبال الاختلاف قد مزق لحمة الأخوة الإيمانية. فمع تطاول أمد الفتن على القلوب عكرت صفوها، وكدرت ظنونها حتى فقدنا طعم المحبة في الله .
فعلنا بذلك نستعيد لذة منهوبة، وابتسامة مفقودة، بلقط الدرر من جوهره النفيس، فهاك بعض فضائله أنثرها بين يديك جوهراً مصوناً، ولؤلؤاً مكنوناً من عِقْدِ وفائنا لشيخنا الحبيب – الجليس الصالح، والأنيس الناصح – رحمه الله – تعالى – وغفر له - .
وأود أن اعتذر لأخواني الذين يعرفونه إذا رأوا تقصيراً في تعريفي به فإن قلمي عاجز عن بيان بعض ما له من حق علينا، ولعلنا نلجأ في أكثر الأحيان إلى الدموع تعبيراً عن الود والمحبة فإنها أبلغ من العبارة .
ولا أدعي أني من أقرب الأخوة إليه لكن حسبي أني من ثمار دعوته، وتربيته ؛ فلهذا سعيت لسداد دينه علينا وفاءً بحقه .
واعلم – يا رعاك الله – أني لم أرد الاستقصاء لأن القيسي – رحمه الله – قد تنقل في محافظات عديدة وله في كل موضع عبر وعظات فحسبي الدلالة والتنبيه على نتف يسيره تدل على أخواتها. وبيد الله التوفيق وهو من وراء القصد .
الجوهرة الأولى: (عنايته بالتوحيد والمتابعة) .
إن من أسباب نجاح الداعية معرفته بالطريق الموصلة إلى الله – تعالى – مقصداً ووسيلة – وقد وفق الله – سبحانه – القيسي – رحمه الله – لمعرفة التوحيد بأنواعه، وتجريد المتابعة بالعمل بالسنة الصحيحة منذ نعومة أظفاره، ومقتبل عمره .
فكان مقارعاً ذكيا في المنافحة عن حمى التوحيد والسنة وسط بيئة رافضية، ورقابة بعثية يخوض غمارها بتؤدة نبوية، وحكمة شرعية .
فقد كان يفتت الشبه الشركية، والتبعية العمياء لعلماء الضلالة بحنكة وذكاء يراعي حال المخاطب طفلاً أو شاباً أو كبيراً، في ظل المخاطر والمخاوف – وقد ناله جزء منها - فهو والله من أعظم الجهاد. وكان يغتنم في سبيل ذلك كل حدث كوني، أو اجتماعي، أو سياسي بتوظيف عبقري ينفذ به إلى القلوب لتوضيح التوحيد، ونبذ الشرك، وتحقيق المتابعة، وترك التقليد الأعمى .
وقد مر البلد بظروف قاسية، وتعرض لنكبات متتابعة خلفت ركاماً هائلاً من الخوف والجوع إلا أنه كان – نحسبه كذلك والله حسيبه – صادق اللجأ إلى الله ينمي في الناس جانب التوكل على الله ، فهو كثير التعريف بالله وما يستحقه من الأسماء والصفات، وما له من الحقوق والواجبات .
وكان يعلمنا أن أعظم قاطع للعبد عن الله هو (النفس) فيعمد إلى تكسير أنفتها وكبرها وإعجابها ببيان حقيقتها ودناءتها بتصوير رائع يجعلك وأنت بين يديه تدخل حلبة صراع معها؛ فيبدأ أولاً بكشف قناعها فتظهر لك صورتها القبيحة ثم لا يزال يسترسل معك بكلماته النورانية معينا لك في الصراع حتى يجردها عن كل قناع، ثم بعد ذلك يمهد لك السبيل لأسرها فتكون طوع يديك قد بان عوارها وانكشف زيفها، ولا يزال وعظه النبوي كالمدد الإلهي يروضها، حتى تكون سلسلة القياد، فتعقد معك العزم على تصحيح الطريق بالتوبة النصوح. وكل هذا يكون في مجلس وعظ واحد . يعطي العبد دفعة إيمانية يسير بها على طريق الهداية ، وكل بحسبه – علماً وعملاً - .
الجوهرة الثانية: (تعظيمه للحق إذا عرفه) .
لقد كان للدور الأول الذي تضلع به وهو معرفة التوحيد والسنة أثر بالغ في هديه وسمته فقد كان من المعظمين للحق، المتواضعين له الآخذين به من أي أحد، ولو كان صغيراً . ويظهر لك هذا في درر من مواقفه العملية التالية :
الدرة الأولى/ (الفتوى الظالمة).
إن عبارة (الفتوى الظالمة)، و(الفتوى الجائرة) التي كان يظهرها لبيان تراجعه عن خطأ وقع فيه من أدل العبارات على تعظيمه للحق أولاً، وهضمه لنفسه ثانياً .
فقد كان في بداية نشأته قد وقع عنده لبس في فهم كلام علمائنا في مسألة (العذر بالجهل) فكان يفتي بمقتضى ذلك مدة، ولما تبين له خطأ هذا الفهم، أعلن براءته من ذلك وكان إذا ذُكر هذا الموضوع لا يسميه إلا بالفتوى الظالمة، والجائرة .
الدرة الثانية/(هذه المسألة تحتاج إلى غترة بلا عقال).
لقد كان القيسي – رحمه الله – لا يتكلف العلم، وحسبه أن يجيب بما يعلم، ولا يأنف من قول: (لا أدري)، وكان كثيراً ما يسأل عن بعض المسائل من النوازل وغيرها فيقول – عبارته اللطيفة -: (هذه المسألة تحتاج إلى غترة بلا عقال) يقصد بذلك: أنها تحتاج إلى عالم، على جهة التعظيم لكون هذا اللباس هو الغالب على علمائنا الأجلاء .
الدرة الثالثة/ (سرعة تراجعه إلى الحق) .
لقد جربنا عليه مواقف عديدة تدرك من خلالها أن رجوعه إلى الحق جبلة فطرية فيه، فإنك تجد عند الكثيرين منا تلكأ في التراجع والأخذ بالحق. ويحتاج الواحد منا أن يغيب عن الناصح فترة – طويلة أو قصيرة – حتى لا يظهر تراجعه أمامه ، ثم بعد ذلك ينقاد لناصحه ويستجيب له ، أما هو فما يكاد يتضح له الحق حتى يطرق رأسه إطراقة خفيفة ثم يرفع رأسه متراجعاً، فما أجله من موقف . كغصن تفرع في أرومة الشرف والأصالة .
وحدث لي معه قصة: لقد جاءنا القيسي – رحمه الله – إلى مدينتنا بعد أن سكن مدينة كركوك لظروف أمنية، وكانت والدته وأخوته لا يزالون يسكنون مدينتنا فكانت مدة زيارته يومين ، فلما حان موعد رحيله طلب مني بعض الأخوة أن أكلمه في البقاء مدة أطول فأعتذر بأنه مرتبط بمشاغل مهمة لا يستطيع تأخيرها، وكان من ضمن كلامه أنه قال: ولتعرفوا أهمية مشاغلي أني مشتاق لأمي ولم أجلس معها الوقت الكافي، ومع هذا أنا مضطر للذهاب .
فقلت له – من باب الإدلال عليه - : إن كنت فعلاً مشتاقاً لأمك فأبقى يومين آخرين . فاطرق رأسه قليلاً ثم رفعه قائلاً: سأبقى . فطار الأخوة بها فرحاً ؛ لأنهم سينعمون بمجالسته فيهما .
ولكون هذه الصفة هي الغالبة عليه يستطيع من جالسه وخبره أن يجزم بمواقفه إذا اتضحت الأدلة . ففي يوم من الأيام حصلت مسألة من مسائل تزاحم الأحكام، والتدافع بين المصالح والمفاسد، فكلمه أحد الأخوة في المسألة فلم يقطع له بالقول، وكان على عجلة من أمره ناوياً السفر فجاءني الأخ وقال أخشى: أن قوله لا يكون موافقاً لما تقتضيه المصلحة ؛ لأن القيسي – رحمه الله – إذا خالف في المسألة وهو مسموع الكلمة قد تنشأ فتنة بين الشباب بسبب ذلك .
فطمأنت الأخ وقلت له: سيرجع وهو موافق على ما أفتانا به بعض العلماء فإني أعرفه . وفعلاً لما رجع من سفره اتفق قوله مع قول أهل العلم .
لا تَمدَحَنَّ اِمرأً حَتّى تُجرِّبَهُ ... وَلا تَذُمَّنَّهُ مِن غَيرِ تَجريبِ
فَإِنَّ حَمدَكَ مَن لَم تَبلُهُ سَرَفٌ ... وَإِنَّ ذَمَّكَ بَعدَ الحَمدِ تَكذيبُ
يتبع...............