قَهْرُ القلوبِ
بين
الظفر الشرعي و الحظ النفسي


أعده
أبو زيد العتيبي – عفا الله عنه –
9/ ذي القعدة / 1433


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الواحد القهار، والصلاة والسلام على نبيه المختار، وعلى آله وصحبه أولي الأيدي والأبصار .

أما بعد :

فاعلم – وفقك الله - أن الجدل بالتي هي أحسن مطلب شرعي؛ لدفع الصائل والمعتدي، وهو كالسيف المحمدي في الردع والدفع، فالأول تقهر به القلوب، والثاني تصرع به الأبدان. " فَقِوَامُ الدِّينِ بِالْكِتَابِ الْهَادِي وَالسَّيْفِ النَّاصِرِ { وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا } ".(مجموع الفتاوى:28/232).

والمقصود من: (المصحف، والسيف) تجريد السبيل إلى الله من الضلالة، والجور؛ بإقامة الحجة وقطع المعذرة، وتصيير الدين كله لله – تعالى – إظهاراً، وتمييزاً، ففيهما يتحقق الفرقان بين الحق والباطل.
فيحصل بهما من المغالبة و المناصرة ما يكون سبباً لظهور دين الإسلام على سائر الأديان، فما أجلهما من قرينان وما أعظمهما من أخوان. والأصل في ذلك أن تبنى المنافحة عن حمى الدين على قصد إعلاء كلمة الله على كلام الكافرين، والمنافقين، والفاسقين .

ومن الأسس التي يلتقيان فيها أنهما يستعملان في حال (الممانعة)، فإذا قوبل الحق (بالمعاندة)، ورد بالجحود والمكابرة تعينت: (المجادلة) أو (المجالدة)، بالكلمة الهادية أو باليد الناصرة.

ومن الأخطاء الظاهرة جعل (الجدال) محل الدعوة (بالحكمة، والموعظة) في أغلب الأحوال، أو مع جل المدعوين من الموالفين والمخالفين. ومن هنا تختلط الأوراق، وتدب الفتنة مؤذنة بالاختلاف والافتراق.

قال شيخ الإسلام – رحمه الله - :" فالناس يحتاجون إلى الموعظة الحسنة، وإلى الحكمة فلا بد من الدعوة بهذا وهذا. وأما الجدل فلا يدعى به بل هو من باب دفع الصائل، فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، ولهذا قال: { وجادلهم } فجعله فعلاً مأموراً به مع قوله ادعهم. فأمره بالدعوة بالحكمة، والموعظة الحسنة، وأمره أن يجادل بالتي هي أحسن.

وقال في الجدال: { بالتي هي أحسن } ولم يقل: (بالحسنة)، كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه (مدافعة، ومغاضبة) فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن؛ حتى يصلح ما فيه من (الممانعة، والمدافعة).

والموعظة لا تدافع كما يدافع المجادل فما دام الرجل قابلاً للحكمة أو الموعظة الحسنة أو لهما جميعا لم يحتج إلى مجادلة فإذا مانع جودل بالتي هي أحسن " (الرد على المنطقيين: 467-468) .

ومن الملاحظ أن بعض المجادلين لطلب القهر، أو للتطلع لنشوة الظفر بداعي الحظ النفسي، والمقصد الشخصي يستديم المخاصمة تعسفاً، ويطيل المناظرة تكلفاً. دون مراعاة لأحوال المدعوين، أو تمييز بين طبقات المكلفين، ومن هنا تنشأ الفتنة؛ حين يَفسُد العدل مع المخاطبين.
ووضع الندى في موضع السَّيف بالعلا ..............مُضِرٌّ كوضع السّيف في موضع الندى

وسبب ذلك: محنة القلب، إذ تتجاذب المجادل نوازع مكنونة، ومقاصد مدفونة. قد تخفى حتى على صاحب القلب المفتون؛ لاستحكام: (الغفلة والهوى)، فيصبح كالمجنون، للتنافي بين حاله وقاله.

وهذا الصنيع يفسد قلوب المدعوين، ولا يصلحها، ومن كان من المدعوين من طبقة المخاطبين (بالحكمة أو الموعظة) واستعمل معه المجادل سياط المخاصمة؛ فإنه يفسده، و {إنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ }.

ويكون من جنس من يفسد في الأرض بعد إصلاحها، والله يقول:{ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا}. ومن جنس الذين يزعمون الإصلاح وهم يفسدون - جهلاً وظلماً -: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ, أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}.

وقد قال عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - : "من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح"، ومنه بلا ريب من جادل وهو جاهل بمراتب المدعوين، وما يناسبهم؛ فهو ممن يفسد ولا يشعر.

فالمجادلة إما أن تكون مُصلحةً للمدعو أو مُفسدةً، والمجادلُ إما أن يكون مصلحاً أو مفسداً، وصلاح كل شيء وفساده بحسبه، قال شيخ الإسلام – رحمه الله - :" وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ كُلِّ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ وَبِهِ الْمَقْصُودُ الَّذِي يُرَادُ مِنْهُ، وَلِذَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ: الْعَقْدُ الصَّحِيحُ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَحَصَلَ بِهِ مَقْصُودُهُ، وَالْفَاسِدُ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ أَثَرُهُ وَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُهُ"(مجموع الفتاوى:18/163).

و"أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جهلة أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدِّي والإدلال، ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها"(قاله الغزالي، الاعتصام:2/230).

وعند تعدي الحد الشرعي لأسلوب الدعوة تنشأ من كثرة المجادلة قسوة، وتزهو في نفس المجادل عند ظفره نشوة؛ فكيف يسلم القلب الممتحن بين قسوة إفراط، ونشوة تفريط ، والمُسَلِّمُ الله.
ففرق بين العمل لله والعمل للنفس – حكماً وثمرةً - .

فالأول هو أصل الدين، وعليه يقوم، وبه يدوم. والثاني – بحسبه - ينقضه أو ينقصه .

والمدد الرباني ينزل عند تجريد المقصود، وإفراد المعبود، فإذا خلَّص الداعية الطريق من الناس والنفس أيده الله بروح القدس، وفي صحيح مسلم، عن عائشة - رضي الله عنها – قالت: سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان بن ثابت : "إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله".

فاحذر - عبد الله - أن يكون كفاحك مورداً للمهالك، تصفية للحسابات، أو حباً للزعامات؛ فإن بذور السيئات تحت تربة القلب لا تدركها الأبصار، فإذا سقيت بماء الهوى نمت حتى تصير شجرة عريقت الجذور، وعلى قدر أغصانها – ارتفاعاً، وانتشاراً – تمتد جذورها في القلب – عمقاً، واستقراراً -.
ففرق بين من يجادل في الله، وفي دينه حقيقة، وموافقة، وبين من يجادل فيه انتساباً، ودعوى .
والحمد لله الذي كان للمؤمنين نصيراً، والصلاة على من بعثه بشيراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .


تنبيه: هذا المقال مندرج ضمن سلسلة مقالات بعنوان [سلسلة: درك البصيرة للنجاة من الفتن الخطيرة] وهو المقال الثالث .
وسبقه مقال: (صراع الذنوب)(1)
ومقال: (خياتة النفس وأثرها في دوام الفتن)(2)
والله الموفق لما يحبه ويرضاه .