أهمية إجلال وتقديم صاحب العلم، وذكر نماذج من هدي السلف في ذلك:

يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ، وإن كان قد بلغ من العلم مبلغًا، فآيس من خيره؛ فإنه قليل الحياء".
فقوله: "إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ" يعني المشايخ العلماء الذين هم أكبر منه في العلم وفي السن، ثم مع ذلك تراه يتكلم بين يديهم، فإذا سأل الشيخ سؤالًا يبادر هو إلى الجواب، ولا يراعي هذا الضابط، أو لا يراعي هذا الأدب، يقول: إذا رأيت الشاب يتكلم عند المشايخ وإن كان قد بلغ من العلم مبلغًا فآيس من خيره؛ فإنه قليل الحياء"، أي: لا تضع فيه أملًا بأنه يأتي منه خير؛ لأن هذا قليل الحياء، ولو كان عنده حياء لاستحيا أن يتكلم في حضور من هم أكبر منه.


وقال خلف: "جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه (والإمام أحمد هو إمام أهل السنة والجماعة)، فاجتهد خلف في أن يجلس الإمام أحمد على مكان مرتفع، فالإمام أحمد أبى إلا أن يجلس جلسة المتعلم منخفضًا عند المُحَدِّث خلف)، يقول: "فاجتهدت أن أرفعه بأن ألح عليه أن يرتفع في المجلس فأبى، وقال: لا أجلس إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلم منه".


وكان القاضي أحمد بن إبراهيم بن حماد المالكي مع كونه كبير القضاة إلا أنه كان يتردد إلى الإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي يسمع من تصانيفه، واتفق مجيء شخص لاستفتاء الطحاوي عن مسألة والقاضي عنده، أي أن الرجل جاء يسأل الإمام الطحاوي في مجلسه وكان كبير القضاة موجودًا في هذا المجلس، فلما سأل الرجل الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى عن هذه المسألة قال الطحاوي: مذهب القاضي أيده الله كذا وكذا، ولم يقل: مذهبي، وإنما حكي مذهب القاضي الجالس في المجلس، فقال له السائل: ما جئت إلى القاضي، إنما جئت إليك! فقال: يا هذا! هو كما قلت، فأعاد السائل، فقال له القاضي: أفته أيدك الله برأيك، فقال له الطحاوي: إذًا حيث أذن القاضي أيده الله أفتي ثم أفتاه.
وقال أبو زكريا العنبري: شهدت جنازة حسين القباني سنة تسع وثمانين ومائتين، فصلى عليه أبو عبد الله (يعني محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي شيخ أهل الحديث في عصره) فلما انصرف قدمت دابته، فأخذ أبو عمرو الخفاف بلجامه، وابن خزيمة إمام الأئمة بركابه، وجعل الجارودي وإبراهيم بن أبي طالب يسويان عليه ثيابه، فمضى ولم يكلم واحدًا منهم.


وهذا موقف عابر، لكن إذا تأملت وحللت هذا الموقف تجد شدة احترام هؤلاء لأكابرهم ولعلمائهم، فمجرد أن صلى الإمام البوشنجي رحمه الله تعالى على الجنازة فلما انصرف قدموا له الدابة التي يركبها، وكان الذين احتفوا به يخدمونه هم أئمة المسلمين في ذلك العصر وفي ذلك البلد، فهذا أبو عمرو أخذ بلجامه، والإمام ابن خزيمة الملقب بإمام الأئمة رحمه الله تعالى أخذ بركابه، والجارودي و إبراهيم بن أبي طالب جعلا يسويان عليه ثيابه، فمضى ولم يكلم أحدًا منهم رحمهم الله تعالى أجمعين.


وعن حكيم بن قيس بن عاصم أن أباه أوصى عند موته بنيه، فقال: "اتقوا الله! وتَوِّجوا أكبركم؛ فإن القوم إذا تَوَّجُوا أكبرهم خلفوا أباهم، وإذا تَوَّجُوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم".
فقوله: "اتقوا الله وتوجوا أكابركم" يعني: راعوا حق الكبير وقدموا الكبير، "فإن القوم إذا توجوا أكبرهم" يعني: جعلوه سيدهم "خلفوا أباهم" يعني: قاموا مقام أبيهم في حسن الفعال، "وإذا توجوا أصغرهم أزرى بهم ذلك في أكفائهم" فالأكفاء سوف ينظرون إليهم بازدراء، فعدم احترامك للكبير يجعل من يراك من بعيد ينظر إليك بازدراء؛ لأن في هذا نسبة لك إلى سوء الأدب.


وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: "البركة مع أكابركم، البركة مع أكابركم".
وعن عبد الله بن مغول قال: كنت أمشي مع طلحة بن مطرف، فصرنا إلى مضيق (أي: إلى مكان ضيق لا يتسع إلا لمرور شخص واحد فقط) فتقدمني (يعني أنه كان يعرف أنه أكبر منه في السن فسارع هو إلى التقدم) ثم قال لي: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمتك.
وعن الفضل بن موسى قال: انتهيت أنا و عبد الله بن المبارك إلى قنطرة، فقلت له: تقدم، وقال لي: تقدم، فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين، يعني أنهما (حتى يحسما الخلاف) ظلا يحسبان عُمْر كل منهما، قال: فحاسبته فإذا أنا أكبر منه بسنتين، فيفهم من ذلك أن الذي تقدم هو الأكبر.


وعن يعقوب بن سفيان قال: بلغني أن الحسن و عليًّا ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي، يعني أنهما توأمان ولدا في وقت، ومعلوم أنه لا يخرج التوأمان في وقت واحد، وإنما يكون هناك فرق بينهما قد يكون دقائق أو أكثر أو أقل، ومع ذلك يقول هنا: بلغني أن الحسن و عليًّا ابني صالح كانا توأمين، خرج الحسن قبل علي (أي أنه أكبر منه بدقائق) فلم يُرَ قط الحسن مع علي في مجلس إلا جلس علي دونه، ولم يكن يتكلم مع الحسن إذا اجتمعا في مجلس؛ مراعاة لهذا الفارق البسيط في السن بينهما، وهو عبارة عن لحظات؛ لأنهما توأمان، فالله المستعان.


ويقول يحيى بن معين الإمام الجليل رحمه الله تعالى: إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي مسهر فيجب على لحيتي أن تحلق، يعني: إذا حدثت في بلدة فيها مثل أبي مسهر فهذا سوء أدب، وبالتالي ينبغي أن أعزر وأعاقب بحلق لحيتي، وهو لا يحصل منه ذلك، وإنما هذا مجرد ضرب مثل، وإلا فبعض الأمراء الذين لم يكن عندهم فقه كانوا إذا أرادوا تأديب الرجل والتشهير به حلقوا له لحيته، فهذه العقوبة كانت من التعزير؛ ولذلك نص العلماء في كتب الفقه على أنه لا يجوز التعزير بحلق اللحية؛ لأنها معصية، والتعزير لا يكون بالمعاصي، لكن الشاهد من هذا الموقف مراعاة الأدب مع من هو أجل وأكبر.


وعن الحسن بن علي الخلال قال: كنا عند معتمر بن سليمان يحدثنا إذ أقبل ابن المبارك، فقطع معتمر حديثه، فقيل له: حدِّثنا، فقال: إنا لا نتكلم عند كبرائنا.
وانتهى أبو منصور وإبراهيم إلى زقاق، فقال له إبراهيم: تقدم، فأبى أن يتقدم، فتقدم إبراهيم، ثم قال: لو كنت أعلم أنك أكبر مني بيوم ما تقدمت، وهذا غير القصة التي ذكرناها قبل.
وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى قال: إذا تكلم الحَدَثُ (يعني: صغير السن) في الحلقة عندنا أيسنا من خيره، وقلنا: هذا لا يفلح؛ لأنه سيء الخلق قليل الحياء.


وقال عبد الله ابن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى: رأيت أبي إذا جاء الشيخ والحَدَث من قريش أو غيرهم من الأشراف لم يخرج من باب المسجد حتى يخرجهم، فيكونوا هم يتقدمونه، ثم يخرج من بعدهم، وقال المروزي: رأيته جاء إليه مولى ابن المبارك، فألقى إليه مخدة وأكرمه، يعني: عظم الإمام وأحمد مولى ابن المبارك وخادمه أو عبده تعظيمًا لابن المبارك نفسه، يقول: رأيته (يعني الإمام أحمد) جاء إليه مولى ابن المبارك فألقى إليه مخدة وأكرمه، وكان إذا دخل عليه من يكرم عليه يأخذ المخدة من تحته فيلقيها له.
وقال المروزي: كان أبو عبد الله (يعني الإمام أحمد رحمه الله) من أشد الناس إعظامًا لإخوانه ومن هم أسن منه، لقد جاءه أبو همام راكبًا على حمار، فأخذ له أبو عبد الله بالركاب، ورأيته فعل هذا بمن هو أسن منه من الشيوخ.
وكان بكر بن عبد الله المزني يقول: إذا رأيت من هو أكبر منك فعظمه، وقل: إنه سبقني إلى الإسلام والعمل الصالح، وإذا رأيت من هو أصغر منك فعظمه وقل في نفسك: إني قد سبقته إلى الذنوب.



إجلال حامل القرآن وتقديمه:


وأيضًا من هذه الحقوق حق حامل القرآن؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح أن خيرنا هم أهل القرآن، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، فهذا بيان لطبقة عليا من طلبة العلم، وأن أشرف طلبة العلم وخير العلماء والمتعلمين من كان تعلمه وتعليمه في القرآن الكريم؛ لأن خير الكلام كلام الله، فكذا خير الناس بعد النبيين من اشتغل بكلام الله عز وجل مريدًا بذلك وجه الله سبحانه وتعالى، فلأهل القرآن شرف عظيم بهذه الشهادة على لسان رسول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه".


وقد خص الشرع الشريف أهل القرآن بكثير من الفضائل، فإنهم يتقدمون بحسب اهتمامهم بالقرآن الكريم، وبحسب حظهم من حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم حينما استعرض قومًا وكان بصدد تأمير أمير عليهم فسألهم عما يحفظ كل منهم، فلما رأى أحدهم قد قرأ سورة البقرة قال له: "أنت أميرهم"، فأمَّره لحفظه سور البقرة، وقال عليه الصلاة السلام: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" "1".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كان القراء أصحاب مجلس عمر رضي الله عنه ومشاورته كهولًا كانوا أو شبابًا" "2"، أي: كان القراء حفاظ القرآن هم الذين يقدمهم عمر، بغض النظر عن سنهم، سواء أكانوا كهولًا أم شبابًا ما داموا حافظين للقرآن، فكان يشكل منهم مجلس مشورته ومصاحبته.


وعن أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "إن لله أهلين، قيل: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته".
وكان صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد، ثم يقول: "أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟" أي: يجمع بينهما في الدفن، ويقدم أحدهما قبل الآخر، وهذا التقديم يتم على أساس حفظه للقرآن الكريم، فكان يقول: "أيهما أكثر أخذًا للقرآن؟ فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد" "3". وبهذا نكون قد مررنا على بعض الحقوق العامة الشاملة التي تتعلق بحق المسلم عمومًا، وفيما يتعلق بحفظ غيبته وعدم انتهاك حرمته بالغيبة، فضلًا عن البهتان، وكذلك مراعاة الأدب مع كبير السن، وكذلك الأدب مع حامل القرآن الكريم، والقاعدة أن الحرمة تتضاعف بتعدد جهات الانتهاك، أي أن بعض المعاصي إذا حصلت في المخالفة من جهة واحدة فهذا ذنب، ويتعاظم هذا الذنب وهذا الوزر إذا تعددت جهات الانتهاك.


فمثلًا: لو أن إنسانًا له جار، فله حق الجوار وله حق المسلم، ولو كان قريبًا فله حق زائد وهو حق الرحم، فأذية مثل هذا الجار لا يكون وزرها مثل أذية الشخص الأجنبي أو الجار الكافر، وهكذا، فكل ما مضى من كلام كان تمهيدًا وتوطئة لأعظم الناس حقًّا في المسلمين، وهم أهل العلم وأهل البصيرة في الدين، فهم يشتركون مع كل من مضى في هذه الحقوق: حق الإسلام، وحق كبر السن، وحق حمل القرآن الكريم، ثم بعد ذلك حق العلم الذي شرفهم الله سبحانه تعالى به، فإن هذه الحقوق جميعًا (وخاصة حق العلم) تفرض علينا التزامات تجاههم، وحينما نتكلم عن أهل العلم فنحن لا نقصد زمنًا معينًا أو مكانًا معينًا، وإنما نقصد جميع أهل العلم ابتداء من الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلى عصرنا الذي نعيشه، فللعلماء حرمة وحقوق وآداب ينبغي أن نلتزمها معهم.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.