الإنفتاح الفكري .. حقيقته وضوابطه ( 1/3 )
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد :
فإن الشريعة الإسلامية قد بينت ضرورة العلم والتعلم بيانا شافيا، ووضحَّت قيمة العقل ومكانته في الإسلام وأهميته وكونه مناط التكليف، واستعمل القرآن الكريم الأدلة العقلية البرهانية على إثابت المطالب الإلهية، وأمر الإنسان بعمارة الأرض واستعمال ما فيها وفق المنهج الرباني .
وهذا كله يدل على تنمية الشريعة للإبداع والتفكير في حدود السياج الموصل إلى المعرفة الصحيحة . أما ضرب العقل والفكر في أودية الباطل السحيقة واشتغاله بما لا قبل له به، فهو مما نهت عنه الشريعة، وحذرت منه، إبعاداً للعقل عن الأوهام والخرافات والظنون الكاذبة .
وقد ظن بعض الدارسين بالشريعة الإسلامية ظن السوء، عندما توهموا أنَّ الشريعة الإسلامية تمنع الإبداع الصحيح، والفكر المنضبط، والرأي السليم، مما جعلهم يفتنون بدعوى (الانفتاح الفكري) والمنقول من الفكر الغربي الذي تدِّين بدينٍ محرَّف مبدَّل مناقضٍ للعقل الصريح والدين الصحيح، إلى الأمة المسلمة ذات الدين الصحيح والمنهج المستقيم الموافق للفطرة السليمة والعقول الصريحة .
ولقد أصبح (الانفتاح الفكري) حقيقة واقعة بعد أنْ كان فكرة فلسفية، ذلك بسبب التواصل الأممي الهائل عن طريق الاتصالات والمواصلات ... وبعد ظهور القنوات الفضائية والإنترنت أصبح الحديث عن الانفتاح الفكري بشكل كبير، وشعاراً لطائفة كبيرة من الليبراليين وجملة من الإسلاميين .
وقد أحببت أن أكتب في هذا الموضوع النازلة شيئاً عسى الله أن ينفعني به ومن قرأه من المسلمين. وقد حاولت جاهداً أن يكون المنطلق في البحث في هذاالموضوع من الشريعة نفسها في تصوير دور الفكر ومجاله ومنزلته والموقف من بعض الآراء والمخلفات الفكرية والمادية من الحضارات الأخرى . وأرجو أن أكون وفقت في ذلك . هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
حقيقة الإنفتاح الفكري
توطئة :
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الانسان وأنزله إلى الأرض ليكون خليفة له في إقامة الحق والعدل والعبودية له، وتظهر معاني اسمائه وصفاته في خلقه . وأنزل له من الدين ما يكون موافقاً لطبيعة ذلك الإنسان وفطرته التي خلقه الله عليها . وأرسل الرسل الكرام للقيام بتذكير الإنسان بحقيقة وجوده وحكمته، وتذكيره بأن الدين الذي أنزله الله تعالى له هو أساس سعادته وفلاحه في الدنيا والآخرة، يقول تعالى: { ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (الرعد: من الآية28) والقيام - كذلك — بالانذار له من ترك ما أنزله الله تعالى، وبيان ما يترتب على ذلك من خراب حياته وشقاء نفسه وعذابه في معاده، يقول تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً . ونحشره يوم القيامة أعمى} (طـه:124) .
هذه الحقيقة الكبرى لها أهمية عظيمة في بناء الإنسان والمجتمع، والتعامل مع كل ما حوله من الأفكار والمناهج والآراء والفلسفات . ومن رحمة الله تعالى بالإنسان أنه لم يدعه يصنع تصوره الاعتقادي ومنهجه التشريعي بنفسه، لأن الإنسان يعتريه الهوى والجهل، فهو أعجز وأضعف من عمل ذلك .
ولذا فكان الدين بعقائده وتشريعاته منحةً إلهية من العليم الخبير لم يسندها إلى الإنسان العاجز، يقول أبو الحسن الندوي رحمه الله : "وقد كان الأنبياء عليهم السلام أخبروا الناس عن ذات الله وصفاته وأفعاله، وعن بداية العالم ومصيره ، ومايهجم عليه الانسان بعد موته، وأتاهم علم ذلك كله بواسطتهم عفواً دون تعب، وكفوهم مؤونة البحث والفحص في علوم ليس عندهم مبادئها، ولامقدماتها التي يبنون عليها بحثهم، ليتوصلوا إلى مجهول، لأن هذه العلوم وراء الحس والطبيعة، ولاتعمل فيها حواسهم، ولايؤدي إليها نظرهم وليست عندهم معلوماتها الأولية . لكن الناس لم يشكروا هذه النعمة، وأعادوا الأمر جذعاً، وبدأوا البحث آنفاً، وبدأوا رحلتهم في مناطق مجهولة لايجدون فيها مرشداً ولاخريتاً وكانوا في ذلك أكثر ضلالاً وأشد تعباً وأعظم اشتغالاً" (1) .
وصدق الله تعالى إذ يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} (الكهف:51) .
وفي هذا الزمان بالذات تطورت الانسانية تطوراً مذهلاً في الجوانب المادية، والقدرة على استعمال السنن الكونية واكتشافها وتوظيفها توظيفاً قوياً في المخترعات والمكتشفات الحديثة .
وقد قدر الله تعالى أن يكون هذا التطور على يد أمةٍ دينها مبدل ومحرّف، حارب العلم المادي وألزم الناس بالخرافات ونسبها إلى الله، فانتفضت عليه وحطمته وخرجت عليه، وقد تكون معذورة في تحطيم الخرافة، إلا أنها ليست معذورة في ترك البحث عن الدين الصحيح والاتجاه إلى الإلحاد، وبناء الحياة فكرياً وتشريعياً ونظماً على مقتضى (العقل) المجرد من الوحي، وتعظيم الانسان وتأليهه، والإعلان عن موت الإله .
هذا الوضع غرس في شعور كثير من الأمم، أنَّ التطور لا يتم إلا عن طريق تحطيم الدين والخروج عليه دون النظر إلى نوع الدين هل هو حق أم باطل ؟ لقد قدَّس الغربيون (العقل) في بداية الأمر وجعلوه مناط النجاح في بناء الحياة، ثم ظهرت فيهم — بعد ذلك - فلسفات متناقضة غريبة بسبب الهروب من الله والاعتماد على الانسان وحده .
وقد أصبح الالتزام بالدين علامة على الانغلاق والجمود . وتحطيمه والهروب منه علامةٌ على (الانفتاح الفكري) والعقلي، لأن العقل — في نظرهم - هو المصدر الوحيد في صحة القضايا، ولهذا سمّي ذلك العصر الذي حطموا فيه الدين (عصر التنوير) . وقد انتقلت هذه العدوى للعالم الإسلامي، وظهر في المسلمين من يطالب بإقتفاء أثر الغرب في كل شئ معتبراً ذلك من التنوير والتطوير .
ولأسباب كثيرة لامجال للتفصيل فيها سرت هذه الحمى (الانفتاح) في العالم الإسلامي بشكل كبير على درجات متفاوتة وتحت شعارات متعددة . وسوف ننطلق في بحث هذه القضية من تصوير موقف الشريعة الاسلامية من العلم والفكر وبيان ما في هذا المصطلح من النقود والإشكالات ، وأن أساس المصطلح مبني على سوء الظن بالشريعة الإسلامية، ولعل السبب الأساسي هو نشأة هذا المصطلح في البيئة الغربية، فجاء به دعاة التغريب للعالم الإسلامي ولم يراعو اختلاف الدين بين المسلمين والنصارى .
وكلمة (الانفتاح) كلمة عائمة لايمكن أن يتحدد من خلالها صورة معينة محددة بحيث يمكن الحكم عليها . ولهذا لا بد من الاستفصال عن نوع الانفتاح وخصائصه قبل تقويمه ونقده .
حقيقة مصطلح (الانفتاح) :
مصطلح (الانفتاح) ليس مصطلحاً شرعياً، فلم ترد هذه المادة في القرآن ولا في السنة، ولم يستعمله العلماء الراسخون في العلم، بل هو مصطلح عرفي تتداولته الكتب العصرية والنشرات الصحفية دون تحديد دقيق لمعناه . وهو يتضمن معان غير صحيحة، وله ايحاءات ودلالات باطلة، ويتبين ذلك من خلال مايلي :
1) جذور المصطلح :
جذور هذا المصطلح تعود إلى الفكر الغربي، فأصل مادة (فتح) في اللغة الإنجليزية هي (open) وهي تأتي لأكثر من عشرين معنى بحسب تصريفاتها المتعددة، ومن المعاني الداخلة في مجال البحث مايلي : - منفتح، راغب في الاستماع لكل مايعرض عليه، وفي تفهمه بروح سمحة . - ينور العقل ويجعله منفتحاً للمعرفة . - يصبح العقل متنوراً أو منفتحاً . - يعبر عن أفكاره ومشاعره . ومن المعاني الإصطلاحية للمادة (open door) أي (الباب المفتوح) وهي: "سياسة قوامها حرية التجارة وإلغاء التعريفات الجمركية والسماح لمختلف الدول بالمتاجرة مع بلدٍ ما، على قدم المساواة" . و(opening) معناه (تفتح) ، و (minded — open) أي : منفتح العقل أو ذو عقل وتأتي بمعنى: "منفتح للحجج والأفكار الجديدة" (2) .
ومن خلال ماتقدم نلاحظ أن هذا المصطلح مأخوذ من بيئة معينة لها ظروفها العقدية وصراعاتها الفكرية . والظاهر - والله أعلم — أن هذا المصطلح جاء بسبب الصراع بين الكنيسة والعلم عندما ظهرت الأفكار العلمية الجديدة ورفضها من قبل رجال الدين، ولذا فاعتُبِرَ الفكر الكنسي منغلق، والفكر اللاديني منفتح لاعتماده الكلي على العقل .
2) غموض المصطلح :
يلاحظ في هذا المصطلح الغموض والضبابية، فالانفتاح اسم عام يطلق على أنواع متعددة مما يصدق عليه هذا الاسم مع كونها مختلفة في الموضوع . وهذا الغموض أدى إلى استعمال هذا المصطلح من اتجاهات متعددة لاتتفق فكرياً في كثير من القضايا .
فنجد من يستعمل الانفتاح الفكري ليصل إلى الالحاد ويصف الدين بأنه إنغلاق وتحجير على العقل . كما نجد من ينقد الانفتاح بالصورة السابقة ويطلقه على الاستفادة من كل الثقافات بما لا يناقض الإسلام، ثم يختلف أصحاب هذا الإتجاه في تحديد مايناقض الاسلام وما لا يناقضه !! وفي حدود الإستفادة وضوابطها .
ولهذا لابد من تحديد نوع الانفتاح الفكري المعين بذكر خصائصه، ثم الحكم عليها بالصواب أو الخطأ بميزان الكتاب والسنة . وهذا الغموض يدل على أنَّ استعمال هذا المصطلح دون ضبط خطأ منهجي، لأنه لا يكفي مجرد اسمه في تحديد المراد منه .
ولا بأس أن أشبه هذا المصطلح بمصطلحات علم الكلام التي قد يراد بها حق وقد يراد بها باطل، التي حذر منها علماء أهل السنة من قبولها مطلقاً لاشتمالها على الباطل، كما حذروا من إنكارها وردها جملة لأنها قد يراد بها معنىً صحيحاً، فيكون رداً لشئ من الحق . ومثل هذا النوع من الكلام المحتمل لايصح استعماله لأن فيه لبس للحق بالباطل . وعلماء أهل السنة والجماعة لم ينكروا المصطلحات لأنها مصطلحات جديدة، كما يظن بعض بل لكونها تشتمل على معانٍ باطلة مناقضةً للقرآن والسنة .
3) الايحاءات السلبية للمصطلح :
هذا المصطلح يحمل ايحاءاً انهزامياً سلبياً في تصور الشريعة الإسلامية . فالانفتاح : مصدر الفعل الخماسي المزيد (انفتح)، وكل فعل جاء على وزن (انفعل) فمصدره على وزن (انفعال)، وزيادة همزة الوصل والنون في أوله ترد لمعنى واحد هو المطاوعة، (انفتح انفتاحاً، وانكسر انكساراً، وانطلق انطلاقاً" (3) .
ودلالة كلمة (الانفتاح) توحي بوجود انغلاق قبله، ولهذا فمعناها "إزالة الإنغلاق" فهو ضده (4) .
فإذا استعمل هذا المصطلح فإنه يقتضي وجود انغلاق، ثم حصل الانفتاح . فمثلاً : من كان على منهج التقليد الأعمى ثم صار إلى الدليل فإنه يستعمل معه هذا المصطلح، أما من كان معتبراً للدليل فلا يليق استعمال هذا المصطلح معه لأنه ليس بمنغلق حتى نطالبه بالانفتاح . ومن يحرم ما أحل الله تعالى من الطيبات كرهبانية الصوفية، يطالب بالانفتاح بمعنى الخروج من انغلاق الرهبانية إلى سعة السنة التي تبيح الطيبات بإباحة الله تعالى .
أما من يستعمل هذا المصطلح لمطالبة عموم المسلمين به، أو اعتبار الاسلاميين الذين يطالبون بالاسلام في الحكم والاقتصاد وكل شؤون الحياة منغلقون لأنهم لم يتشربوا الفكر الغربي، فهو سوء ظن بالشريعة الاسلامية واتهام لها بالانغلاق، وهو كذلك انهزام أمام الفكر الغربي واعتباره انفتاحاً من الانغلاق، والحقيقة أنه خرج من انغلاق إلى انغلاق آخر .
ومن هنا تظهر الإيحاءات السلبية في استعمال هذا المصطلح فيما يتعلق بالاسلام والدين وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضوان الله عليهم وعلماء المسلمين .
موقف الشريعة الاسلامية من العلم والمعرفة
كل من ينظر في القرآن والسنة يعلم يقيناً حث الشريعة على العلم والمعرفة والثناء على أهلها، والأمر بالنظر والتدبر، والثناء على العقل والعقلاء، والأمر بعمارة الأرض وبنائها على منهج الله تعالى . وهذا الخصيصة للشريعة الاسلامية حاصلة لها بسبب كونها (شريعة ربانية)، ليس للانسان أثرٌ فيها، فهي من العليم الخبير لإصلاح الانسان في كل جوانب حياته . فالانسان بعقله وعواطفه من خلق الله تعالى، والارض وسننها وقوانينها ومافيها من الخزائن من خلقه تعالى، والاسلام وعقائده وشرائعه من الله تعالى .
فمصدر الجميع واحد وهو الله تعالى يقول تعالى : {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (لأعراف: من الآية54)، ولهذا جاءت متناسقة ومتوافقة، يقول تعالى : {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الملك:14) . ويظهر موقف الشريعة من العلم والمعرفة من خلال ما يلي :
1) الحث على العلم والتعلّم :
فقد رغب الاسلام في العلم والتعلم وأثنى على أهله ومدحهم، يقول تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (المجادلة: من الآية11)، ويقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الزمر: من الآية9)، ويقول صلى الله عليه وسلم: (طلب العلم فريضة على كل مسلم) [رواه مسلم]، ويقول أيضاً : (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة) [رواه مسلم] .
والعلم الممدوح نوعان :
1- العلم الشرعي إذا كان بإخلاص وغايته العمل .
2- العلم الدينوي إذا أريد به عمارة الأرض وإقامة العبودية لله تعالى .
ولكن الممدوح في الشرع بالأصالة هو العلم الشرعي، والعلم الدنيوي مدحه لغيره لا لذاته، ولهذا ذم الله تعالى من تعلم علم الدنيا ونسي علم الآخرة، فقال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم:7) .
فليس العلم في ذاته ممدوحاً بل لا بد له من شروط إضافية معتبرة حتى يصبح ممدوحاً منها :
1- الإخلاص فيه وابتغاء وجه الله تعالى .
2- أن لايكون العلم في ذاته محرماً كعلم السحر أو علماً فاسداً كعلم الفلسفة والكلام ونحوها.
3- العمل بالعلم الشرعي .
4- أن يقصد بالعلم الدنيوي كونه وسيلة لعبودية الله تعالى .
5- ألا يكون وسيلة إلى محظور، لأن الوسائل لها أحكام المقاصد .
وبهذا يتبين أن العلاقة بين العلم والدين علاقة توافق وانسجام، فالدين في ذاته يتضمن العلم ويأمر به ويجعله منطلقاً لبناء الحياة وفق منهج الله تعالى ولكن يستثنى من ذلك مايلي :
1- العلم الفاسد غير الصحيح .
2- العلم المحرم، وهو ما فيه من المفسدة التي تفوق ما فيه من المصلحة وقد تكون مصلحة وهميّة .
3- الإرادة السيئة من العلم في غاياته وأهدافه .
أما ماسوى ذلك فإن الشريعة تحث عليه وتمدحه وتطالب به وتذم تاركه ويعتبر تاركه مذموماً في الدين، ولهذا اتفق السلف الصالح على ذم دراويش الصوفية الذين أعرضوا عن علم الدنيا والدين . والتفريط بعلم الدين أو الدنيا يكون بحسب نوع العلم المفرّط فيه، فمن فرط في تعلم العلم الشرعي الواجب كمعرفة الله وأصول الإيمان وأركان الاسلام والواجبات فهذا مذموم، وكذلك تفريط الأمة في علم الدنيا الواجب، مثل صناعة السلاح للجهاد في سبيل الله فهذا مذموم .
وبالعموم فالعلم الصحيح ممدوح سواء كان واجباً أو مستحباً، وهو ممدوح عقلاً وفطرةً وشرعاً حتى لو كان مباحاً فإنه يكون مستحباً بالنية الصالحة فيه .
2) الأمر بالنظر والتدبر والاعتبار :
لقد أثنى الله تعالى على العقل وأمر بالنظر والتدبر والاعتبار لما فيها من تحرر الفكر من الأوهام والخرافات والأساطير، يقول تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ...} (العنكبوت: من الآية2)، ويقول جل ذكره: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} (يونس:11) .
وقد مدح الله تعالى العقل وإعماله في التفكر والتدبر، ومدح مرادفاته كالألباب، والأحلام، والتفكر، والتذكر، والاعتبار، والفقه، والعلم، ونحوها وقد حرر الاسلام العقل من الأوهام والخرافات ونهى عن كل مايقدح فيه مثل الخمر والتقليد الأعمى والهوى والتعصب لغير الحق .
ولهذا لايوجد في الإسلام سلطة كهونتيه بأي شكل من الأشكال . بل هو مبني على التوحيد الخالص المحرر للعباد من عبودية العباد إلى عبادة الله وحده . فليس هناك واسطة بين العباد وبين ربهم إلا الرسل على سبيل البلاغ لا على سبيل العبادة . وهذا لا يعني أن العقل والنظر، مطلق له العنان بحيث يدخل في كل أمر، حتى لو كان لا يحسنه، بل له ضوابط تضبط مسيرته، منها :
1- أن العقل يدرك الأشياء بوجه جملي دون الإحاطة التامة والمعرفة الكلية .
2- أن منزلة العقل من النقل بمنزلة الخادم من سيده، وهو بمنزلة البصر والنقل بمنزلة النور، فإذا فُقد النقل عجز العقل كعجز العين عند فقد النور .
3- أن حقائق الأمور الغيبية لايدركها العقل إلا من جهة إثباتها ومعرفة ماتدل عليه الألفاظ المعبرة عنها من ألفاظ الشرع فقط .
3) بيان أهمية عمارة الأرض :
لقد خلق الله تعالى الانسان في الأرض ليقوم بالعبودية له فيها، ويعمرها وفق ماشرعه الله تعالى وأمر به، يقول تعالى : {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَن َّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنّ َ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنّ َهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور:55) .
لقد خلق الله تعالى الانسان وهو متحرك حركة دائمة إما في الخير وإما في الشر، وأمره تعالى أن تكون حركته في الخير وهو تحقيق ما أمر الله به وترك مانهى عنه وهذا أعظم ما تعمر به الأرض . "إن الاستخلاف في الأرض قدرة على العمارة والإصلاح لا على الهدم والإفساد، وقدرة على تحقيق العدل والطمأنينة لاعلى الظلم والقهر، وقدرة على الارتفاع بالنفس البشرية والنظام البشري لا على الانحدار بالفرد والجماعة إلى مدارج الحيوان" (5) .
وعمارة الأرض يكون بما يلي : 1- عمارتها بإقامة دين الله تعالى فيها وتطبيق شرعه وتنفيذ أمره وإرادته في حياة الناس .
2- إقامة العدل ورفع الظلم وإظهار التوحيد والعقائد الربانية الحقة التي لم يخالطها خرافة ولا غبش فكري مصدره من الأرض .
3- بناء الحياة وأنماطها وجميع جوانبها في العقائد والأحكام والأخلاق وفي المال والحكم وفي الرجال والنساء وفي العلم والفكر وفي كل شيء على هدي الله ووحيه .
ولهذا لو نظرنا نظرة فاحصة في خسارة الدنيا عندما استولى الكفار عليها لعرفنا بالتالي الحاجة الماسة إلى عمارتها وفق منهج الله تعالى . فإن ظهور الكفر والفجور ومحاربة الله تعالى مؤذن بفساد العالم وخرابه يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (الروم:41) .
وينتج عن تفوق الكفار في عمارة الأرض، إعلاء أهواء العباد في قضايا الفكر والسلوك وإخفاء كلمة الله تعالى يشقي الناس بالحيرة والتيه والاضطراب والأمراض والتحلل الأخلاقي وتفكك عرى المجتمع وانقسامه إلى طبقات متصارعه وإضمحلال روح الإخاء الإجتماعي وبروز الأنانية وسيطرة الروح الفردية إلى غير ذلك مما يطالعه من يراقب حال العالم اليوم الذي سيطر عليه الغربيون وامتلكوا زمام التوجيه فيه .
وينتج أيضاً عن ذلك هلاك الحرث والنسل بسبب غياب العدل والرحمة , ولعل الحرب العالمية شاهد واضح لما عانته الدنيا بسبب سيطرة الكفار عليها .
ولهذا تظهر أهمية عمارة الأرض من قبل أهل الإسلام، وإقامة الدين فيها، وبنائها بناء مادياً يخدم الإنسانية، كما يدل علىذلك الحديث المشهور: (إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها) .
ومن خلال ما سبق يظهر لنا، حث الشريعة على العلم الصحيح الديني والدنيوي، وبيانه لأهمية استعمال العقل في مجاله الصحيح، وحثه على النظر والتفكر وعمارة الأرض يدل على أن إلتزام الشريعة نفسها يدعوا للعلم والمعرفة والإبداع . وبناءً على ذلك فليس هناك مجال للقول بضرورة (الانفتاح)، لأنه إذا أريد بالإنفتاح الاطلاع والعلم والمعرفة والابداع والاختراع فهذا ماتأمر به الشريعة وتحث عليه عندما يكون صحيحاً، وعلامة صحته أن يكون صحيحاً في ذاته وأن لا يعارض قطعياً من قطعيات الشريعة، ومعارضته للقطعي فيها دليل على عدم صحته .
------------------------------
(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، ص / 35 .
(2) انظر المورد – للبعلبكي – مادة ( open ) .
(3) انظر التطبيق الصرفي ص / 71 , ودروس التصريف ص / 76 .
(4) انظر الصحاح ( مادة فتح ) , ولسان العرب ( مادة فتح )والقاموس المحيط ( مادة فتح ) .
http://www.alqlm.com/index.cfm?metho...&contentID=141